Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإعلام الروسي في الحرب: سقطات ودعاية ومبالغة

برنامج "طارد الشياطين" ينجو من فخ الدعاية التحريضية والنرجسية ويقدم دروسا مستفادة من حل حلف وارسو

صورة من داخل أحد استديوهات قناة روسيا اليوم (أ ف ب)

تعود الأوساط الإعلامية الروسية إلى ماضي الأمس القريب، في محاولة لاستخلاص العبر اللازمة واستدعاء الدروس المستفادة لتجاوز عثرات الحاضر، صوب مستقبل ثمة من يقول إنه سيحمل بين طياته ما ترومه القيادة السياسية الروسية من أمجاد تعيد إلى روسيا مواقعها التي تستحق على خريطة السياسة العالمية.

وعلى الرغم من "سقطات" و"هفوات" كثير من البرامج الإعلامية التي تسقط من آن لآخر في شرك "الدعاية التحريضية" الفجة والنرجسية، إلى جانب المبالغة في مديح النظام على النحو الذي يدفع المشاهد إلى الاتجاه المعاكس، فإن هناك من البرامج ما يستحق الإشادة والتقدير لما تقدمه من مادة علمية، ولما يتسم به مقدموها من موضوعية واحترام لعقول مشاهديهم. ومن هذه البرامج نشير إلى "بيسوغون" (طارد الشياطين) الذي يقدمه بكثير من الموضوعية والمصداقية، الفنان والمخرج السينمائي العالمي نيكيتا ميخالكوف الحائز على جوائز "أوسكار" وغيرها من الجوائز السينمائية المرموقة لما يزيد على 12 عاماً.

وجاءت الحلقة الأخيرة من هذا البرنامج "الإعلامي الوثائقي" الأسبوعي الذي صار يحتل موقعاً متميزاً على خريطة القناة الروسية الإخبارية الرسمية "روسيا 24" منذ بداية أعوام نشاطها، لتكون إضافة متفردة لما سبق وأعلنه الرئيس فلاديمير بوتين من استراتيجية للتحركات المرتقبة لروسيا على خطى بطرس الأعظم في الفترة القريبة المقبلة.

في هذه الحلقة، استشهد ميخالكوف بما سبق وقاله الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف خلال زيارته لبولندا حول أن "الاتحاد السوفياتي لن يلجأ لاحقاً إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأجنبية بغض النظر عن نظمها السياسية"، في إشارة إلى التخلي عن النظم الشمولية في بلدان شرق أوروبا، بل وسارع غورباتشوف إلى الإعلان عن سحب ما يقرب من نصف مليون من القوات المسلحة في بلدان شرق أوروبا، وهو ما عززه لاحقاً بقرار سحب القوات السوفياتية من أفغانستان في مايو (أيار) 1989.

وإذا  تذكرنا أن غورباتشوف كان قد أعلن عن خطته بهذا الشأن في أول خطاب ألقاه في الأمم المتحدة عام 1988 حول قراره في شأن إسقاط "مذهب بريجنيف" الذي كان يقضي بحق الاتحاد السوفياتي في التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان شرق أوروبا، فإننا نكون أمام خطة بعيدة المدى كانت تعني عملياً ترك حكومات بلدان تلك المنطقة وجهاً لوجه مع شعوبها من دون حماية خارجية، بل ومضى غورباتشوف إلى ما هو أبعد بالوقوف وراء إعلان حلف وارسو عن حل نفسه في يوليو (تموز) 1991، من دون تقدير للعواقب وأهمها أخطار حلف "الناتو"، الذي كان مدعواً إلى اتخاذ إجراء عملي للتخفيف من حدة مخاوف الاتحاد السوفياتي السابق، وما أعرب عنه غورباتشوف ورفاقه من أخطار توسعه شرقاً.

حزام أمني

ولعل ما قاله ميخالكوف الذي كان أنعم عليه الرئيس بوتين خلال الأسابيع القليلة الماضية بأحد أعلى أوسمة الدولة، حول أن هذا القرار الذي اتخذه غورباتشوف "أفقد الاتحاد السوفياتي حزامه الأمني" بكل ما تعنيه هذه العبارة من دلالات وإيحاءات، وهو ما نضيف إليه موافقته التي اضطر إليها بعد فشل انقلاب أغسطس 1991، على استقلال بلدان البلطيق الثلاثة، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا في سبتمبر (أيلول) 1991، أي قبل الإعلان عن النهاية الرسمية للاتحاد السوفياتي في 25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته. وفي هذا الصدد، يستذكر مراقبون كثيرون ما كان يُسمّى بـ"مذهب" أو "عقيدة بريجنيف"، التي كانت استندت إليها قوات حلف وارسو لدى التدخل لقمع "ربيع براغ" في أغسطس (آب) 1968، على نحو مشابه لما سبق وتعاملت بموجبه القوات السوفياتية في مواجهة انتفاضة المجر في 1956، وذلك كله ما كان يلقى إدانة القيادة السوفياتية التي أعلنت في 1985 سياسات "البيريسترويكا" طريقاً إلى التغيير والتخلي عن ممارسات الماضي، من دون تقدير لتبعات تلك السياسات وما أسفرت عنه من انهيار للحزب الشيوعي السوفياتي من الداخل، وما تبعه من انفجار المشكلة القومية والتحركات الانفصالية، التي لقيت دعم وتأييد بوريس يلتسين زعيم "روسيا الاتحادية" أكبر جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وهو ما سبق وتناولت "اندبندنت عربية" كثيراً من تفاصيله في أكثر من تقرير من موسكو.

ما قاله نيكيتا ميخالكوف هذا الأسبوع حول أن "خروج بلدان شرق أوروبا من تحالفاتها مع الاتحاد السوفياتي أفقده حزامه الأمني"، تعبير يستحق التوقف عنده طويلاً، نظراً إلى ما يتضمنه من دلالات ثمة من يحاول في موسكو اليوم البناء عليها، في معرض ما يتوارد من خواطر في شأن "لمّ شمل ما بقي من بلدان الفضاء السوفياتي السابق".

استعادة الأراضي التاريخية

وعلى الرغم من أن الرئيس بوتين كان قد استبق ما جرى ويجري توجيهه إليه من اتهامات في شأن رغبته باستعادة الاتحاد السوفياتي السابق، بقوله المأثور "إن من لا يساوره الأسى بسبب فقدان الاتحاد السوفياتي السابق إنسان بلا قلب، وإن من تراوده الرغبة باستعادة ذلك الاتحاد، إنسان بلا عقل"، فإن هناك من الدلائل والمؤشرات، بل والتصريحات، التي تنطلق من أن المتغيرات "الجيو سياسية" التي صارت تحكم عالم اليوم، على وقع تساقط كثير من المواثيق الدولية وتخلي كثير من البلدان الغربية عن التزاماتها بموجب ما وقعت عليه من اتفاقيات ومعاهدات دولية، عادت لتفرض واقعاً جديداً يبدو على طرفي نقيض مما يتداوله كثيرون من زعماء اليوم من أحكام وما يصدر عنهم من تصريحات.

وها هي الأحداث الأخيرة في أوكرانيا وما حولها تفرض واقعاً مغايراً يعيد إلى الصدارة "احتمالات" تجسيد ما سبق وطرحه الرئيس فلاديمير بوتين من أفكار في احتفالات روسيا بالذكرى 350 لميلاد بطرس الأكبر حول "استعادة روسيا لأراضيها التاريخية وتدعيم أركان ما تستعيده من أراضٍ". وكان بوتين سبق وسار على مثل هذا الدرب من دون إعلان مباشر عندما اتخذ قراره حول "استعادة" شبه جزيرة القرم عام 2014، ووقف وراء دعم الحركات "الانفصالية" لمنطقة دونباس التي أكدت موسكو "تبعيتها التاريخية" لروسيا منذ ما قبل قيام الاتحاد السوفياتي، بحسب ما أعلنته من وثائق ومواثيق، من منظور ما نشره بوتين في يوليو (تموز) من العام الماضي من مقال "أكاديمي" حول الأصول المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني، حاول من خلاله تأكيد مرجعيته تجاه كل ما أعلنه حول الولاية التاريخية لروسيا على كثير من أراضي جنوب شرقي أوكرانيا ومنها القرم ودونباس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كان الرئيس بوتين يتحدث في السابق على نحو يتسم بالتلميح أكثر من التصريح في ما يتعلق بأحقية روسيا في كثير من أراضي عدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق، فإنه عاد وأكد في ذلك المقال مشروعية استعادة بلاده لهذه الأراضي من خلال استشهاده بما قاله أناتولي سوبتشاك، أستاذ القانون الدولي ونجم الحركة الديمقراطية السوفياتية وأول عمدة للينينغراد قبل تغيير اسمها إلى "سان بطرسبورغ". وفي هذا الصدد قال بوتين:

"أنت تريد إقامة دولتك الخاصة. على الرحب والسعة، لكن بشروط. وهنا أستذكر التقييم الذي قدمه أناتولي سوبتشاك أحد أبرز الشخصيات السياسية في روسيا الحديثة، أول محافظ لمدينة سان بطرسبورغ. وبوصفه متخصصا قانونياً بارزاً قال إنه يؤمن بأن أي قرار يجب أن يكون شرعياً. ومن هذا المنظور، أعلن عام 1992 عن الرأي التالي: على الجمهوريات المؤسسة للاتحاد بعد أن ألغت معاهدة الاتحاد لعام 1922، الالتزام بالعودة إلى حدودها التي كانت قائمة قبل انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي، بما يعني ضرورة أن تخضع كل ما اكتسبته من أراضٍ بعد ذلك إلى النقاش والمفاوضات نظراً إلى انتفاء الأساس الذي استندت إليه في ضمها لهذه الأراضي. وبقول آخر، يجب أن تخرج بما جئت به. وهذا منطق يصعب دحضه. سأقول فقط إن البلاشفة قد شرعوا في إعادة تشكيل الحدود حتى قبل قيام الاتحاد السوفياتي، وتلاعبوا بالأراضي بحسب أهوائهم متجاهلين إرادة الناس".

ذلك ما أقام الدنيا في أوكرانيا ولم يقعدها كما يقولون، وهو أيضاً ما دفع جمهوريات أخرى إلى استشعار الخطر، ومنها كازاخستان وإستونيا وليتوانيا. غير أن الثابت والمؤكد يمكن أن يتمثل في ما قاله بوتين في ذكرى ميلاد بطرس الأول، مدعوماً بما سبق وقاله نظيره في بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو حول ضرورة "التحركات الجدية" من جانب منظومة بلدان "معاهدة الأمن الجماعي" التي ثمة من يعتبرها "تحالفاً" عسكرياً مماثلاً لحلف "الناتو"، وهو ما أكدته أول مشاركة فعلية لقواته في كازاخستان إبان ما واجهته من اضطرابات في يناير (كانون ثاني) الماضي.

التحركات البولندية

وفي هذا الصدد، يشير مراقبون في موسكو إلى التحركات البولندية الأخيرة وما تمثله من خطورة تجاه "المشروع" الروسي في شأن "لملمة" ما بقي من أراضي الإمبراطورية الروسية القديمة، التي سبق وأعلن ألكسندر لوكاشينكو إمكانية عودتها استناداً إلى "وحدة" أراضي روسيا وبيلاروس وأوكرانيا وكازاخستان. ويتوقف المراقبون في موسكو عند أهمية ما طرحه لوكاشينكو لمواجهة ما جرى التوصل إليه خلال الأسابيع القليلة الماضية حول "التقارب" بين بولندا وأوكرانيا، انطلاقاً من قرار الرئيس البولندي أندريه دودا  بفتح الحدود بين البلدين بما قد يسمح لاحقاً بتنفيذ فكرة قيام الإمبراطورية البولندية التي يمكن أن تربط بين البحرين، بحر البلطيق في الشمال، والبحر الأسود في الجنوب. وهو ما يدعمه القانون الذي وقّعه الرئيس الأوكراني ويتمتع البولنديون بموجبه بوضعية خاصة، تسمح لهم بحرية التنقل والإقامة والعمل داخل الاراضي الأوكرانية.

لكن ما تدركه موسكو وتضعه نصب أعينها اليوم، ليس تحقيق ما ترومه من أهداف في اتجاه استعادة الأراضي التاريخية، بقدر ما سبق وأعربت عنه من ضرورة التصدي لما تبتغيه واشنطن من أهداف إطاحة نظام بوتين وتقسيم روسيا، وهو ما أعلنت عنه الإدارات الأميركية السابقة، وكذلك الحالية على لسان الرئيس جو بايدن الذي قال صراحة "إن بوتين لا بد أن يرحل". وكان نيكيتا ميخالكوف عاد في الحلقة الأخيرة من برنامجه "بيسوغون" إلى استعادة كثير من تفاصيل ما راود ويراود الإدارات الأميركية المتعاقبة من أحلام مدعومة بخريطة جغرافية تتسق مع ما سبق وأعلنت عنه مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية في تسعينيات القرن الماضي، من تصريحات تضمنت الإشارة إلى ضرورة تقسيم روسيا إلى أربع- خمس جمهوريات، وهي الأفكار التي عاد الرئيس البولندي الأسبق ليخ فالنسيا إلى ترديدها في إطار ما قاله حول تقسيم روسيا وتقليص عدد مواطنيها من الروس حتى خمسين مليون نسمة.

كما كشف الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن أن إدارته أنفقت مليارات الدولارات لتحقيق أهدافها في أوكرانيا، مثلما أنفق سلفه بيل كلنتون من أموال طائلة "أتت ثمارها" لتوطيد نظام الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين. وفي هذا الصدد، استعرض ميخالكوف في برنامجه التلفزيوني واسع الانتشار عريض الجماهيرية، ما تكبدته روسيا من خسائر اقتصادية هائلة من جراء برنامج الخصخصة الذي جرى تنفيذه في تسعينيات القرن الماضي تحت إشراف أميركي فقدت روسيا بموجبه معظم ثرواتها الصناعية، إلى جانب سقوط كثير من مؤسساتها العسكرية الصناعية في شرك إشراف وسيطرة إدارات غربية.

وقال ميخالكوف إن كثيراً من المؤسسات الصناعية الاستراتيجية جرى بيعه بما يقدر بقرابة سبعة مليارات دولار فقط، بينما كانت قيمتها الفعلية تتجاوز التريليون دولار، ومنها مصانع الطائرات والسيارات والجرارات التي جرى بيعها مقابل بضعة ملايين لا تكفي اليوم لسداد قيمة شقة سكنية في وسط العاصمة الروسية.

وذلك ما يعني ضمناً مشروعية ما ترومه القيادة الروسية من أهداف حول لمّ شمل "أشقاء الماضي"، وما يستوجبه ذلك بحسب ما أشار ميخالكوف من حاجة إلى "حزام أمني"، كان يتمثل حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي في بلدان شرق أوروبا التي اجتمعت مع الاتحاد السوفياتي في "حلف وارسو"، الذي سارعت القيادة السوفياتية بعد وفاة ستالين إلى إنشائه عام 1955، رداً على قيام "الناتو" عام 1949، ناهيك عن تبعات ما جرى من توسعات حلف شمال الأطلسي التي حملته إلى مقربة مباشرة من حدود الدولة الروسية.

المزيد من تقارير