Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قمة جدة... وأوبرا الواقعية للسياسة الأميركية

زيارة بايدن للسعودية ليست قراراً فوقياً للرئيس وإنما هي تعبير عن تفاعل معقد بين كل من وزارة الخارجية والبنتاغون ومجمع الاستخبارات والكونغرس ومجلس الأمن القومي

الرئيس الأميركي جو بايدن خلال مؤتمره الصحفي في بيت لحم (أ.ف.ب)

في مؤلفها الشهير "السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط"، تثير المؤرخة الأميركية جانيس ج. تيري، تساؤلات جوهرية مثيرة للتفكير حول عملية صنع السياسة الأميركية، والتي جرت العادة أن يتقاذفها تياران، الواقعية والمثالية، ومن غير أن يقدر لأحدهما الحسم الكامل والشامل، إلا في اللحظات المصيرية للجمهورية الأميركية.

تأتي زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، ومشاركته في قمة جدة لتعيد التساؤلات عن أي سياسة تختار هذه الإدارة، وهل الأمر هو خيار مطلق لساكن البيت الأبيض أم أن هناك من أدرك حتمية تصحيح المسار تجاه الخليج العربي والشرق الأوسط.

لعل من نافلة القول إن المسرحيات الغنائية، أو الأوبرا، هي مزيج متناغم من عناصر متعددة، متباينة في الظاهر، لكنها في واقع الحال متسقة في الحركات التكتيكية، ومنسجمة في الإيقاعات الرئيسة، إن جاز التعبير.

الزيارة ليست قراراً فوقياً للرئيس، وإنما هي تعبير عن تفاعل معقد بين عدد من الدوائر الحكومية الأميركية تشمل وزارة الخارجية، والبنتاغون، ومجمع الاستخبارات، والكونغرس، ثم مجلس الأمن القومي، وصولاً إلى الرئيس.

هل انتصر تيار الواقعية السياسية الأميركية هذه المرة، بعد مراجعة أقتضتها عوامل الحال، وبانت جلياً، للقائمين على الدولة العميقة في الولايات المتحدة؟

تعرف الواقعية على أنها مدرسة نظرية في العلاقات الدولية، فيما نشأت نظريات الواقعية السياسية من خلال أعمال المفكر السياسي الإيطالي الأشهر نيكولا ميكيافيللي، ومن بعده الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، كنهج للعلاقات الدولية، وتعد الواقعية السياسية، بمثابة رد فعل على تيار المثالية.

والمؤكد أن رجوع إدارة بايدن إلى صوابها الشرق أوسطي، تقف وراءه بعض من أفكار أبو الدبلوماسية الواقعية الأميركية المعاصرة، وبطريرك السياسة الأميركية في نصف القرن الماضي، هنري كيسنجر، والذي لا يزال ينطق ويمنطق التاريخ برؤاه، سواء اتفقنا معه أو افترقنا عنه.

في عالم السياسات المثالية الأميركية، تنبع القرارات من رؤى إنسانوية ما بعد أو ما فوق أخلاقية، وهي في واقع الحال لا تتسق وسجلات التعاطي الأميركي مع العالم، وخرقها وحرقها للكثير جداً من معطيات حقوق الإنسان، ومنطلقات الديمقراطية، وتوجهات الليبرالية التي أظهرت سخطها أخيراً، والعهدة على المفكر الأميركي الجنسية الياباني الأصل فرانسيس فوكاياما في مؤلفه الأخير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نسفت واشنطن في العقدين الأخيرين، سرديتها الروحانية، حول "المدينة فوق جبل"، وحلت محلها السياسات الواقعية، النابعة من صالح ومصالح الأمة الأميركية، والأكثر أهمية في سياقات متطلبات علم الاقتصاد وعلم السياسة الطبيعية.

ولكي لا يأخذنا التنظير الأكاديمي والأيديولوجي، ربما يتحتم علينا أن نشاغب بعض الأفكار الواقعية، والتي توضح لنا بجلاء، "أوبرا بايدن" الأحدث في الشرق الأوسط.

حين خط بايدن سطوره عبر صحيفة "الواشنطن بوست"، والتي يتراءى للمرء أن فريق تحريرها هو من يصيغ سياسات البيت الأبيض، اعتبر أن زيارته تتجاوز المسائل اللوجيستية الطارئة، لا سيما أزمة الطاقة على أهميتها وخطورتها في بلاده، فهل كان بايدن صادقا فيما قال؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما أن مرحلة جديدة وخطيرة من الاستقطابات الدولية تجري بها المقادير، وقد كان آخرها المفاجأة التي أعلنها القيصر بوتين بزيارته نهار الثلاثاء المقبل إلى إيران، وعقده قمة ثلاثية مع إبراهيم رئيسي، ورجب طيب أردوغان، الأمر الذي يعد رسالة سريعة إلى واشنطن من جهة، وإلى دول المنطقة وحلفاء الولايات المتحدة من جهة ثانية، وضمن توازنات القوة الخشنة تارة، والناعمة تارة أخرى.

هنا تبدو أصداء نصائح كيسنجر الواقعية مترجمة في أفعال، فهو من نصح باراك أوباما، الأب السياسي لبايدن، وكأن الأمر قراءة في المعكوس زمنيا، بأن لا يفرط في أي مربع نفوذ في تلك المنطقة الحيوية من العالم، أعني الخليج العربي والشرق الأوسط، إذ خلف الباب دب وتنين، وكلاهما يترقبان النسر الأميركي، والذي يقول الراوي إنه دخل مرحلة الشيخوخة، وعليه أن يعتزل فوق الجبل، إلى حين تجديد شبابه.

الواقعية السياسية التي أدركها القائمون على أوبرا السياسة الخارجية الأميركية تقول، إن المنطقة باتت حجر زاوية في مواجهة محاولات الاستئثار بها من قبل قوى إقليمية لا تخفى عن العين، تسعى لفرض سطوتها عبر أذرعها الميليشياوية، ورفضها منطلقات حسن الجيرة، ومفاهيم الدولة الويستفالية.

قمة جدة تلفت الانتباه للسعودية في أكثر من اتجاه، والبداية من عند ثورة التنوير والوسطية، الكفيلة بمواجهة ومجابهة جميع أيديولوجيات التطرف، والتي أسهمت واشنطن في إشعال نيرانها منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وها هي الرياض تحمل مصابيح الاستنارة للعالم الإسلامي.

من جانب آخر، تمضي السعودية في عملية بناء ونماء غير مسبوقة، تهتم فيها بالبشر قبل الحجر، وتسعى في طريق إحداث تغيرات اجتماعية وثقافية، اقتصادية وفكرية، تتسق وما بعد مرحلة الريع النفطي.

وتبقى السعودية في كل الأحوال المعين الذي لا ينضب، لسائل الحضارة المعاصرة، أي النفط، ما يعني أنها رقم صعب في المنظومة الأممية، وأنه من الأنفع والأرفع الحفاظ عليها كصديق، من انتقالها إلى مربع الخصوم.

أحسن الرئيس بايدن، وقيادة أوركسترا السياسات الواقعية حين أكدوا عمق العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض، والتي تمتد لنحو ثمانية عقود، وعسى أن يكون هذا تطوراً مفاهيمياً، وليس براغماتياً وقتياً ولحظياً.

وفي قلب قمة جدة، تأتي مشاركة مصر والعراق والأردن، بمثابة إعلان عن إرادة عربية موحدة، قادرة على رسم ملامح شرق أوسط بالشراكة الإيجابية، وليس بالفوقية التقليدية.

الخلاصة... من لا يتعلم من التاريخ بالقياس، سيتعلم من السياسة بالمقارنة.

المزيد من آراء