Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مجاعة أوكرانية بأوامر سوفياتية سقطت من ذاكرة التاريخ

أودت بحياة 4 ملايين شخص بعد أن طرد ستالين المزارعين واعتقل عشرات الآلاف من المعلمين والمفكرين انتقاماً لمقاومة الاقتصاد الشيوعي

كانت المجاعة التي ضربت أوكرانيا في أواخر عام 1932 وعام 1933 واحدة من أكثر الكوارث فتكًا في تاريخ أوروبا (بريتانيكا)

لطالما كانت أوكرانيا مهمة بالنسبة إلى روسيا، سواء القيصرية أو الشيوعية السوفياتية أو البوتينية الحالية، فهي الحديقة الخلفية للاتحاد الروسي في ما يخص الزراعة في المساحات الشاسعة للسهول الأوكرانية، وكذلك المصنع الأول للحديد والصلب بسبب غناها بالموارد الطبيعية. ولم تكُن أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة على حدودها وجغرافيتها وشعبها المؤلف من إثنيات وعرقيات مختلفة على رأسها السلافي الروسي، هؤلاء الذين أرسلوا للتعلم والعيش في أوكرانيا في مرحلة صهر الشعوب السوفياتية ببعضها، إلا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد الدول التي كانت تشكله.

حائط السد الروسي في مواجهة الغرب

مشكلات أوكرانيا مع روسيا ليست جديدة لأن هذه الدولة لطالما كانت بمثابة حائط صد بين الشرق الروسي والغرب الأوروبي، إضافة إلى مجموعة أخرى من الدول السوفياتية المجاورة كجورجيا وأرمينيا وإستونيا وليتوانيا وغيرها، فهذه الدول مجتمعة كانت بمثابة "سور الصين" الروسي لمنع تغلغل الغرب باتجاه أوراسيا، ولمنع الدول الصغيرة المجاورة من الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، لكن بعد انتهاء الحرب الباردة وإرساء الاتحاد الأوروبي علاقات اقتصادية متينة مع روسيا، بدءاً من استيراد الغاز والنفط الروسيين، مروراً بالحبوب والمواد الغذائية الصناعية كالزيوت النباتية، انفتحت العلاقات رويداً رويداً بعد أن اعتقد الأوروبيون، تحديداً الألمان والفرنسيون، بأن التعامل الاقتصادي المباشر مع روسيا وانفتاحها الاقتصادي سيؤديان إلى علاقات ودية أساسية وثابتة، لكن كما حذر الجغرافي وعالم السياسة الأميركي روبرت كابلان في كتابه الشهير "انتقام الجغرافيا" قبل عقدين، من أن الروس سيعودون في النهاية لبناء حائط سد بينهم وبين الأوروبيين وكأن هذا الأمر من طبيعة الجغرافيا والسياسة هناك، وقد صح توقعه في الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا، التي بدأت قبلها بأعوام بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا على أساس أنها هدية مؤقتة من بريجينيف لأوكرانيا وقد حان أوان استعادتها.

لكن الأوكرانيين لم يكونوا دائماً عند حسن ظن الروس، ولو أن العرق السلافي بمثابة صلة وصل بين الشعبين والثقافتين، فقد رفضوا أوامر ستالين السوفياتية بتحويل ملكية الأراضي الزراعية إلى كومونات شيوعية (السوفيات) أو تعاونيات اشتراكية، تعود ملكيتها إلى الدولة ذات السلطة المطلقة ويعمل فيها الفلاحون كموظفين لديها. وكان أن حاصر ستالين أوكرانيا ليقع شعبها في مجاعة أدت إلى موت ما يقارب 4 ملايين شخص، وهي تضاهي في المآسي التي خلفتها المجازر النازية، لكن ستالين تمكن من إخفاء معالم جرائمه زمناً طويلاً.

ستالين يرتكب "هولودومور"

كانت ذروة المجاعة الأوكرانية بين عامي 1932 و1933 في عهد الديكتاتور الفولاذي جوزيف ستالين (اسم الشهرة يعني الفولاذ). وكانت تلك المجاعة سياسية وليست من عمل الطبيعة كما كانت حال مجاعة الشرق العربي إبان حصار الولايات العثمانية خلال الحرب الأولى، فالحصار ساعد الجفاف وموجات الجراد الهائلة في قتل مئات آلاف المشردين في هذه المنطقة من العالم العربي، لكن في الحالة الأوكرانية كانت الحرب الأولى قد انتهت والثانية لم تبدأ بعد والاتحاد السوفياتي في حالة اقتصادية جيدة، لكن إجبار شعب بأكمله على اتباع التعليمات الستالينية التوحيدية لم يكُن ليحدث إلا بواسطة الحصار والتجويع.

في هذين العامين، جاب الأوكرانيون الجوعى الأرياف والبراري، هائمين على وجوههم علهم يجدون ما يأكلونه. وفي تقارير وشهادات جمعتها لجنة تابعة للكونغرس الأميركي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، جاء فيها أنه كان "يمكن أن تراهم يمشون ويمشون وكان أحدهم يسقط، ثم آخر... وهكذا دواليك. في المقبرة خارج مستشفى القرية، حمل الأطباء الجثث على نقالات وألقوا بها في حفرة ضخمة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أودت المجاعة الأوكرانية - المعروفة باسم "هولودومور"، وهي مزيج من الكلمات الأوكرانية لـ"المجاعة" و"إلحاق الموت" بحياة 3.9 مليون شخص أي نحو 13 في المئة من السكان. يوضح أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي ومؤلف كتاب "المجاعة الجماعية: تاريخ ومستقبل المجاعة" أن المجاعة الأوكرانية كانت مثالاً واضحاً لمجاعة من صنع الإنسان. وصارت مزيجاً من المجاعة التي تسببت فيها السياسات الاجتماعية والاقتصادية الكارثية التي تستهدف مجموعة معينة من الناس بالقمع والعقاب".

في عام 1929 كجزء من خطته لإنشاء اقتصاد شيوعي بالكامل بسرعة، فرض ستالين نظاماً جماعياً استبدل بالمزارع المملوكة والمدارة بشكل فردي، أخرى جماعية كبيرة تديرها الدولة، فقاوم صغار المزارعين في أوكرانيا ومعظمهم من مزارعي الكفاف التخلي عن أراضيهم وسبل عيشهم. ورداً على المعترضين، هاجم النظام السوفياتي "الغولاك" أي الفلاحين أصحاب الأرض الذين كانوا يعتبرون في الأيديولوجية السوفياتية أعداء للدولة. وطرد السوفيات هؤلاء الفلاحين من مزارعهم بالقوة وخططت الشرطة السرية لستالين لترحيل 50 ألف عائلة زراعية أوكرانية إلى سيبيريا، كما كتبت المؤرخة آن أبلباوم في كتابها "المجاعة الحمراء: حرب ستالين على أوكرانيا".

يقول تريفور إيرلاشر، المؤرخ والمؤلف المتخصص في أوكرانيا الحديثة ومستشار أكاديمي في مركز الدراسات الروسية وأوروبا الشرقية والأوراسية بجامعة بيتسبرغ إن التحركات الجماعية في أوكرانيا لم تسِر بشكل جيد. وبحلول خريف عام 1932، أمر ستالين بمصادرة قليل من محصول الحبوب في أوكرانيا كعقاب لعدم الوفاء.

يشرح ستيفن نوريس، أستاذ اللغة الروسية والتاريخ في جامعة ميامي أن وثيقة صدرت في ديسمبر (كانون الأول) 1932 بعنوان "شراء الحبوب في أوكرانيا وشمال القوقاز" وجهت كوادر الحزب إلى مصادرة مزيد من الحبوب من المناطق التي لم تؤمن الحصص المطلوبة منها. ودعا كذلك إلى اعتقال رؤساء المزارع الجماعية الذين قاوموا أعضاء الحزب. في غضون ذلك، اعتقل ستالين بالفعل عشرات الآلاف من المعلمين والمفكرين الأوكرانيين وأخفى كتباً باللغة الأوكرانية من المدارس والمكتبات.

كيف أخفى ستالين مجاعة أوكرانيا؟

تقول المؤرخة الأميركية المعروفة آن أبلباوم إنه في ذروة الأزمة، دخلت فرق منظمة من رجال الشرطة ونشطاء الحزب المحليين بدافع الجوع والخوف وعقد من الدعاية البغيضة منازل الفلاحين وأخذت كل شيء صالح للأكل من البطاطا والبنجر والكوسا والفاصولياء والبازلاء وحيوانات المزرعة، ثم تم فرض حصار على الجمهورية الأوكرانية لمنع هروب الجائعين المحرومين عمداً من الطعام.

لكن الاتحاد السوفياتي لم يعترف رسمياً بالمجاعة الأوكرانية ولا المجاعة السوفياتية الأوسع داخل البلاد، وقمع كل ما يشير إليها وعدل الإحصاءات لإخفائها، وكان الرعب ساحقاً إلى درجة أن الصمت كان كاملاً، لكن خارج البلاد، تطلب التستر تكتيكات مختلفة وأكثر دقة. كتب ويليام هنري تشامبرلين، الذي كان حينها مراسل صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" في موسكو أن المراسل الأجنبي "يعمل تحت سيف التهديد بالطرد من البلاد أو رفض السماح بدخولها مرة أخرى".

مع تفاقم المجاعة عام 1933، بدأت وزارة الخارجية السوفياتية الطلب من المراسلين الأجانب بتقديم مسار محدد قبل أي رحلة إلى المقاطعات، ورفضت جميع طلبات زيارة أوكرانيا. وسمحت ببعض العبارات مثل "نقص حاد في الغذاء" أو "قسوة غذائية" أو "عجز غذائي" أو "أمراض ناتجة من سوء التغذية"، لكن لا شيء آخر.

كتب يوجين ليونز، مراسل "يونايتد برس" في موسكو، الذي كان في وقت من الأوقات ماركسياً متحمساً، بعد أعوام، أن "جميع الأجانب في المدينة كانوا على دراية جيدة بما كان يحدث في أوكرانيا وكذلك كازاخستان ومنطقة الفولغا". كان ليونز شاباً من ويلز يبلغ من العمر 27 سنة فقط وقت رحلته إلى أوكرانيا عام 1933.

استقل ليونز القطار في موسكو في 10 مارس (آذار)، لكن بدلاً من السفر طوال الطريق إلى خاركيف، نزل من القطار على بعد نحو 40 ميلاً شمال المدينة. كان يحمل حقيبة ظهر مليئة "بعدد من أرغفة الخبز الأبيض والزبدة والجبن واللحوم والشوكولاتة المشتراة بعملة أجنبية"، بدأ اتباع مسار السكة الحديد باتجاه خاركيف لمدة ثلاثة أيام من دون مرافقة رسمية، وسار في أكثر من 20 قرية ومزرعة جماعية في ذروة المجاعة، وسجل أفكاره في دفاتر أخرجتها أخته من الخزائن في ما بعد، وكتب فيها "لقد عبرت الحدود من روسيا العظمى إلى أوكرانيا. تحدثت في كل مكان إلى الفلاحين. كلهم لديهم القصة ذاتها: "لا يوجد خبز. لم يكُن لدينا خبز منذ أكثر من شهرين. كثير يموتون. الماشية تموت، لا يوجد شيء لإطعامها. اعتدنا أن نطعم العالم والآن نحن جوعى. كيف نزرع عندما بقي لدينا قليل من الخيول؟ كيف سنتمكن من العمل في الحقول ونحن ضعفاء بسبب نقص الغذاء". في أعقاب مقالات ليونز، أعلن ليتفينوف، وزير الخارجية السوفياتي حينها فرض حظر أكثر صرامة على الصحافيين الذين يسافرون خارج موسكو.

مع وصول عام 1934، ثم عام 1935، ازداد قلق الأوروبيين في شأن هتلر. وبدأت إدارة روزفلت الجديدة تبحث بنشاط عن أسباب لتجاهل أي أخبار سيئة عن الاتحاد السوفياتي. خلص فريق الرئيس إلى أن التطورات في ألمانيا والحاجة إلى الحد من التوسع الياباني تعنيان أن الوقت حان للولايات المتحدة لفتح علاقات دبلوماسية كاملة مع موسكو.

المزيد من تحقيقات ومطولات