Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جماعة بلومسبري التي جمعت كينز وفرجينيا وولف وآخرين

شوكة أخلاقية بورجوازية في خاصرة الإمبراطورية البريطانية وتراثها الفكتوري المحافظ

لوحة تجمع بين أبرز أعضاء بلومسبري بريشة فانيسا بيل (ناشيونال غاليري)

"كنا حينها آخر المثاليين الطوباويين. كنا نؤمن بحتمية التقدم الأخلاقي المتواصل بفضل ما يتكون منه الجنس البشري بالفعل من أناس يمكن الوثوق بهم وبتفكيرهم السليم، أناس محترمين لا يتأثرون إلا بالحقيقة والمعايير الموضوعية، ويمكنهم أن ينعتقوا بكل أمان من كل قيود خارجية تفرض عليهم من جانب الأعراف والمعايير التقليدية، وقواعد السلوك الجامدة، فاكتفوا بأن يتركوا من الآن وصاعداً لوسائلهم العقلانية ودوافعهم النقية ونياتهم الخيرة التي يمكن الركون إليها". بهذه العبارات تحدث الاقتصادي الإنجليزي الكبير جون ماينارد كينز في المذكرات التي نشرها في عام 1937، عن المرحلة التي كان فيها واحداً من جماعة بلومسبري التي كان قد آن الأوان حينذاك ليتحدث عنها بصيغة الماضي. فهي، حين كتب تلك المذكرات كانت قد "أقفلت أبوابها" بحسب تعبيره منذ نحو عقد من الزمان، وباتت جزءاً من حنين إلى زمن مبكر. ومهما يكن من أمر فإن حياة تلك الجماعة لم تزد على ربع قرن (بين عام 1907 وبداية ثلاثينيات القرن العشرين) ناهيك بأن عدد أفرادها لم يزد كثيراً على 12 فرداً في أية لحظة من لحظات تاريخها. ومع ذلك، وقبل أن يتحول اسم "بلومسبري" إلى اسم تجاري، كانت الجماعة اسماً كبيراً ومجيداً في الثقافة الإنجليزية وحداثتها وعلى العديد من الصعد، إلى درجة أن كثراً يتصورون أنها عاشت أكثر مما عاشت بالفعل، وأنها ضمت من المبدعين والمفكرين بأكثر مما فعلت حقاً.

نشاط فكري فعال

على أية حال، لا شك أن مفعول الجماعة وما قامت به يبرران ذلك الاعتقاد، سواء أكان ذلك على الصعد الفكرية والإبداعية، أو حتى على الصعد السياسية المعادية في الأحوال كافة، للإمبريالية الإنجليزية، ولشتى ضروب الاضطهاد والعنصرية التي يمارسها الإنجليز، باحثة عن تلاحم ما مع أرقى درجات الفكر الإنجليزي التنويري وصنوف الإبداع المنفتحة على العالم الخارجي كما على الحداثات الأوروبية. ولعل في إمكاننا هنا أن نستند في هذه التأكيدات إلى ارتباط الجماعة في لحظة أو أخرى، بأفكار برنارد شو التحررية وكتابات جيمس جويس وجوزف كونراد ودي. أتش لورانس، وبخاصة إي أم فورستر، صاحب "ممر إلى الهند" والكتاب "السياحي" البديع عن "الإسكندرية" والذي كان ذات لحظة من العناصر الفاعلة في الجماعة، كما أن في إمكاننا هنا أن نتحدث عن انفتاح الجماعة الخلاق على أجانب من طينة الأميركيين سكوت فيتزجيرالد وزوجته زيلدا وجرترود شتاين، وتفاعل فنانيها مع تيارات تشكيلية فرنسية كالتكعيبية والمابعد انطباعية، بعيداً من الانغلاقية البريطانية المعهودة. غير أن الأهم من ذلك كله يبقى العناصر الإبداعية التي كونت نواة الجماعة في بلومسبري بالتحديد.

فرجينيا وولف وأختها

فإلى جانب كينز الذي رافق الجماعة منذ بداياتها حتى انطفائها ولا سيما منذ كانت لحظات انبعاثها الأولى مع انضمام الشقيقتين المبدعتين فانيسا وفرجينيا ستيفن إليها خلال السنوات الأولى من القرن العشرين ما أسس لانطلاقتها الفعلية. وحسبنا هنا أن نذكر بأن تينك الشقيقتين لن تكونا سور فانيسا بيل، الرسامة والتي ستكون من أنشط أعضاء الجماعة لكنها ستعرف أكثر بكونها شقيقة فرجينيا الكاتبة التي سرعان ما ستحمل اسم زوجها الذي كان من أبرز أعضاء الجماعة أي الناشر ليونارد وولف فتصبح فرجينيا وولف بدلاً من فرجينيا ستيفن، وتنشر خلال سنوات قليلة بعض أقوى روايات الأدب الإنجليزي كـ"مسز دالاواي" و"غرفة يعقوب" و"بين الأمواج" وغيرها ناهيك بـ"يوميات كاتبة" التي ستروي فيها تفاصيل حكاية تلك الجماعة التي لا شك أنها أحدثت في زمانها واحدة من أقوى "الخضات" في الأدب الفردي والاجتماعي الإنجليزي. وفي معية هؤلاء الذين كانوا، إلى جانب كينز طبعاً، يشكلون النواة الصلبة لتلك الجماعة كان هناك طبعاً الناقد والكاتب ليتون ستراتشي والناقد روجر فراي والمؤلف الموسيقي ويليام والتون ورسام البورتريه الأشهر في زمنه دانكن غرانت والفنان فردريك آشتون مصمم الرقص الأكثر ارتباطاً بحداثة هذا الفن حينها.

حداثة القرن العشرين

والحقيقة أننا إذ نذكر هذه الأسماء هنا فإنما نستعرض أسس الحداثة كما بدت عند بداية القرن العشرين في نتاجات هؤلاء ومن لف لفهم. فإذا أضفنا إلى هذا، تلك "المواصفات" التي استعرضها جون كينز في الفقرة التي افتتحنا بها هذا الكلام، سنجدنا أمام مشروع إبداعي - أخلاقي يتناقض تماماً مع ما كانت عليه أسس "ازدهار" الإمبراطورية البريطانية كما انبنت طوال العقود السابقة من السنين. ولم يكن هذا من قبيل الصدفة. فإذا كانت المبادئ الجمالية التي سار مبدعو الجماعة تبعاً لها تحتفي بالنزعة الفردية والحرية المطلقة على الرغم من "الضوابط الأخلاقية" التي يبدو واضحاً أن فقرة كينز تشيد بها، فإن تلك الفردية إنما كانت السند الأساسي لكون أفراد الجماعة قد جعلوا من أنفسهم شوكة في خاصرة تلك الإمبريالية الضارية. وكانوا يستفيدون في ذلك من زوال العهد الفكتوري في صرامته الأخلاقية ونزعته الإبداعية المحافظة. فالملكة فكتوريا كانت قد رحلت غير مأسوف عليها منذ سنوات قليلة، وحل ما سيسمى العهد الإدواردي الذي راح الفكر والإبداع البريطانيان يعيشان خلاله ذلك الانفتاح على العالم وعلى الحداثة ما جعل كثراً يتحدثون عن أن "أوسكار وايلد قد انتصر أخيراً على عدوته اللدود فكتوريا على الرغم من أن رحيلهما كان في وقت واحد تقريباً". تحدثوا عما سموه "انتصار ما بعد الموت"! ولسنا في حاجة إلى التذكير هنا بأن بلومسبري وعلى كل الصعد كانت تعتبر نفسها وريثة أوسكار وايلد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من حول مور وبرتراند راسل

ولنذكر هنا أن اسم "بلومسبري" قد التصق بالجماعة من جراء أن اجتماعات أفرادها كانت تتم في البداية في منزل آل ستيفن، فانيسا وفرجينيا وأخيهما آدريان الواقع تحديداً في منطقة بلومسبري غير بعيد من المتحف البريطاني في العاصمة لندن. وكان الهدف من اللقاءات أول الأمر تبادل الآراء حول مواضيع فكرية وفلسفية محددة ضمن منظور "لا أدري" (أغنوستي) ولا سيما من خلال قراءاتهم المشتركة والمتبادلة لمؤلفات الفيلسوف جورج مور كما لكتب وايتهيد وبرتراند راسل. ولعل اللافت حقاً هو أن معظم الأعضاء الذين توالوا على بلومسبري طوال ربع قرن كانوا من أبناء البورجوازية المتوسطة المتنورين الدارسين بخاصة في كليتي الملك وترينيتي في جامعة كامبردج، وكان من شأن معظمهم أن كانوا قبل ذلك منتمين إلى بعض الجمعيات الجامعية السرية لكنهم هنا بدلاً من التجمع من حول تلك التقاليد الطبقية الإنجليزية الشهيرة، كمدافعين عنها أو منافحين ضدها، نراهم يتجمعون من حول قيم فكرية بالغة العمق. ومن هنا كانت تلك الخصوصية التي طبعت بلومسبري وأعطتها تلك المسحة الأخلاقية والسياسية بالغة الخصوصية والتي جعلت أعضاءها يعتبرون ولو أول الأمر في الأقل ورثة تلك التجمعات الفكرية نصف السرية التي وجدت في كامبردج قبل ذلك بقرن ثم اندثرت قبل أن تعود إلى الحياة من جديد، ولكن هذه المرة متسمة بقيم أخلاقية على الرغم من النزعة الفردية التي طبعت أفرادها. وهي قيم جعلت المجموعة تتجه في أحيان كثيرة في توجهات سياسية معادية للممارسات الاستعمارية للإمبراطورية ومؤيدة لحقوق الشعوب في حق تقرير مصيرها. وهذا كان بالتحديد تحت دفع من إي أم فورستر كما بتحبيذ من كينز الذي كان محسوباً على بلومسبري حين شارك في مؤتمر فرساي ضمن إطار الوفد الإنجليزي وعبر عن مواقف إنسانية دفعته إلى الانشقاق عن وفد بلاده.

حراك أخلاقي

غير أن ذلك كله كان قد بات جزءاً من التاريخ حين أطلت سنوات الثلاثين وراحت نشاطات جماعة بلومسبري تتضاءل حتى انعدمت تماماً ولا سيما تحت وقع التوجهات الفردية التي ذهبت بكل مبدع في اتجاه يتمايز عن اتجاهات الآخرين راسمة لهم مصائر تتمايز جذرياً. ولا سيما مصائر كانت من الخصوصية والفردية إلى درجة حالت بين أن تشكل قيم الجماعة وممارساتها الفكرية أية مدرسة حقيقية خارج إطار البعد الأخلاقي الذي جعل من بلومسبري حالة أخلاقية أكثر من أي شيء آخر!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة