Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"من هنا وهناك" عرض سوري يستعيد رؤية زرقاء اليمامة

المخرج زهير العمر قدم توليفة درامية في قالب احتفالي خارج المسرح التقليدي

من العرض السوري الذي يدمج بين نصوص عدة (اندبندنت عربية) 

تجاوز الفنان زهير العمر في عرضه الجديد "من هنا وهناك" الإطار التقليدي لمعالجة نص مسرحي واحد، بل راح ينبش في تقاطعات درامية بين نصوص عربية وأجنبية، مشتغلاً على ما يشبه تطعيم شخصيات رئيسة من هذه النصوص. وهكذا خلق علاقة جدلية في ما بينها على امتداد عملٍ مسرحي اختار تقديمه في فِناء جامعة المنارة في اللاذقية، خارجاً بذلك من مسرح العلبة الإيطالية، أو ما يعرف بمسرح الإطار نحو فضاء مغاير للفرجة، ومفتوح على مقترحات جديدة، على مستوى تصميم السينوغرافيا، من إضاءة وديكور وسواها لصالح بطولة الأداء الجماعي.

العرض الذي قدمه العُمر مع ثلاثة عشر ممثلاً وممثلة من خريجي (كلية فنون الأداء) فاجأ جمهور اللاذقية منذ البداية. استهله مخرجه ومُعدُّه بلوحة شعبية راقصة من التراث السوري (تصميم عيسى صالح) كانت بمثابة مخادعة لفحوى العرض، ومخاتلة لم تفصل بين الشعبي والنخبوي، بل نسفت كل الحدود بين ما هو محلي وما هو عالمي. واعتبرت أن المسرح هو فن المشترك الإنساني، وبأن قوة العرض تنبع من قدرته على تحقيق الانسجام بين مؤلفات العديد من كتّاب المسرح على اختلاف جنسياتهم ومشاربهم الفكرية والفنية، بشرط تقديم فهم عميق لها، وقراءة تتعدى الزمن الذي كتبت فيه نحو زمن العرض الراهن.

برنارد شو وسعد الله ونوس

هكذا التقت شخصيات مسرحية "الميجور بربارة" لجورج برنارد شو (1856-1950) مع شخصيات "ملحمة السراب" لسعد الله ونوس (1941-1997)، ليصبح أندرو شافت تاجر وصاحب معامل السلاح الإنكليزي في الأولى، الوجه الآخر لشخصية عبود الغاوي، تاجر الأراضي، الجشع في الثانية. وهي الثيمة التي جعلها ونوس عنواناً للفصل الثاني من مسرحيته، فوظّف فيها بيع الأراضي لتفعيل صدامات وهيجانات بين أهالي القرية، مما سيدفع مروان لقتل أخيه أمين من أجل بيعه أرض أبيه، والظفر بحصته منها. بينما تذعن الرائد بربارة في مسرحية الكاتب الإيرلندي، لآراء أبيها عن شرور الفقر ومخاطره على المجتمع، وبأن الإجرام أفضل من العبودية، فتستقيل من عملها في "جيش الخلاص" مقابل توريث زوجها اللقيط ثروة أبيها.

 

في كلا النصين يوجّه مخرج العرض شخصياته المتصارعة، ويجد دائماً قواسم مشتركة تدفعها إلى ارتكاب الخطأ التراجيدي، والضلوع في الجريمة، كحق للقوة بدلاً من قوة الحق وبهاء الخير. وهذا ما يجعل الأخ يقتل أخاه، فمنطق النار والدم أبلغ من الدور الإنساني التبشيري الذي يقدمه متطوعو "جيش الخلاص" في نص برنارد شو. ولعل بيع أرض الأجداد أبقى من حراثتها وفلاحتها والحفاظ عليها في نص ونوس، وحيث شخصية الأم تستعير عبارة "زرقاء اليمامة" كنبوءة: "إني أبصر أكثر مما أسمع". العبارة التي تحيل إلى مأساة قتل قابيل لأخيه هابيل، في إسقاط على المأساة السورية المعاصرة، وفي لعبة تتداخل فيها شخصيات المسرحيتين في مشهدٍ واحد كإشارة قوية لدور تجار الحرب ومافيا السلاح في تدمير الأوطان، ونفي إنسانها وتسخيره لصالح ثقافة القتل، والانتصار للأقوى.

التجاور الثاني كان في عرض "من هنا وهناك" بين نصي "سيدة الفجر" للإسباني أليخاندرو كاسونا (1903-1965)، وقصة "رندة" للأديب السوري زكريا تامر (1931). نطالع في الأولى حكاية فتاة تهرب مع عشيقها في ليلة زفافها، فيما يشيع أهلها بأنها ماتت غرقاً في النهر، ويكتم زوجها الحقيقة التي يعرفها عن الجميع. وما إن تعود بعد سنوات لزيارة أهلها حتى تنصحها الزائرة وهي هنا "الموت" بأن تحافظ على صورتها كشهيدة، فتلقي بنفسها في النهر، وتظهر جثتها لأهالي القرية الذين سوف يعتقدون بأنها قديسة، لظهور جثمانها في ذكرى ليلة رحيلها، والذي يتزامن هنا مع احتفالهم فجراً بعيد ديني شعبي.

الفتاة تصبح أسطورة لجمال مزيف، هو في العرض وجه آخر للحقيقة، وهذا ما تقاطع مع تلك المناجاة التي كتبها زكريا تامر في مجموعة قصصه "أوّل الدروس"، على لسان طفلة تدعى رندا تشاهد مع صديقها طلال كيف تقوم مجموعة من القتلة بإطلاق الرصاص نحو رجل مقيد إلى شجرة خضراء، فيضمان بعضهما بعضاً، هرباً من قسوة المشهد ورؤية الرجل ميتاً. ثم يستحيلان إلى صخرة، هرباً من شناعة الواقع ودمويته، وحفاظاً على حسِّهما البريء الفطري نحو الجمال.

لقاء مصري - سوري

تشريح بنية القهر الاجتماعي والقمع السياسي تتجلى أيضاً في استحضار نصين لكاتبين مصريين هما "الزوبعة" لمحمود دياب (1932-1983)، و"إيزيس حبيبتي" لميخائيل رومان (1924-1973). وفي كلا النصين يكمل العرض السوري مفارقته على صعيد تنوع اللهجات، فيقدم حواراته باللهجة المصرية ملتزماً بالبيئة والأزياء كما أوردهما النصان، جنباً إلى جنب مع اللهجات السورية ومحكيات مناطق السويداء ودمشق والساحل السوري.

نتعرف أكثر إلى شخصية صالح في مسرحية "الزوبعة"، الذي ورث ظلم قريته له عن أبيه (حسين أبو شامة) الذي تم توريطه بتهمة قتل وسرقة، فأودع السجن ظلماً وبهتاناً، وهو الرجل الطيب البسيط الذي كان يحلم بحياة كريمة له ولأبنائه. ولكن، وما أن يشاع خبر خروجه من السجن حتى يتداعى أهالي القرية نحو ابنه، بالاعترافات الواحد تلو الآخر، مقسمين ببراءة أبيه وصدقه وأمانته، وذلك خوفاً من الانتقام الذي توعد به والده أهالي القرية لظلمهم إياه. ثم نشاهد سقوطاً جماعياً للأقنعة، وتبياناً لطبيعة المجتمعات الغيبية، وكيفية تشكيل الظلم الاجتماعي فيها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الوقت ذاته نطل على حياة كلٍ من حمدي وجمالات في مسرحية "إيزيس حبيبتي" فنجد زوجين يجمعهما الحب، ثم لا تلبث حياتهما أن تتوتر وتهتز، نتيجة رفض حمدي التوقيع على معاملة غير قانونية تخص أحد المسؤولين في إحدى الجهات الأمنية، أيام حكم جمال عبد الناصر. لا يكتفي حمدي برفض التوقيع، بل يرفض تلبية طلب ذلك المسؤول بالحضور إلى مكتبه، إلى أن يتم اعتقاله على يد الجهات الأمنية، وتعرضه لشتى ألوان التعذيب والإهانة، وصولاً إلى تلفيق الأمن تهمة له بأنه على علاقة بامرأة أُخرى. وهذا ما يؤدي إلى زرع الشك بين حمدي وجمالات، ومن ثم تدمير علاقتهما، وتكون النتيجة انفصالهما بعضهما عن بعض في نهاية المطاف. ويختم العرض بقصيدة "مدد مدد... شدي حيلك يا بلد" للشاعر رضوان إبراهيم، التي كتبها الشاعر المصري كرد عفوي على هزيمة يونيو (حزيران) 1967، وصارت في ما بعد نشيداً وطنياً جرت استعادته بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011.

ومع كل هذا الحشد من الشخصيات حاول زهير العمر أن يمضي بتوقيعه الشخصي على كل عناصر العملية المسرحية، ويفسح المجال واسعاً أمام بطولة جماعية للممثلين، وإدارة مستويات متعددة وعميقة من الصراع. ومع أن بعض المشاهد وقعت في فخ الميلودراما، ومالت إلى المأساوية في أداء بعض الممثلين، إلا أن القليل من القفشات الضاحكة لطّفت من هذا المزاج، ولا سيما في لوحات الارتجال التي قام الممثلون بأدائها، من مثل لوحة "إجازة" أو كما في لوحة "المتعادلان" عن نص للروسي فيكتور روزوف... وجميعها دارت مع دوران ما يشبه نورجاً خشبياً، كان هو قطعة الديكور الوحيدة في مساحة فارغة، وبلا كشّافات إضاءة مسرحية، بل بالاعتماد على الإضاءة النهارية. يقترب العمر بذلك من أسلوب المخرج البريطاني بيتر بروك (1925-2022)، لا سيما على صعيد تكيف الممثلين لتقديم عرضهم في الهواء الطلق، وفوق ما يشبه بلاط رصيف شارع عمومي، ووجهاً لوجه مع الجمهور الذي أحاط بهم، وتنازع معهم فضاء اللعب المفتوح، بلا خشبة تقليدية تحد من عملية التلقي أو تصادر عليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة