القلق من المواجهة العسكرية بين إسرائيل و"حزب الله" الذي تسبب به إطلاق الأخير في الثاني من يوليو (تموز) الحالي، المسيرات الثلاث غير المسلحة نحو حقل كاريش الغازي في إطار إنذاره تل أبيب والجانب الأميركي بأنه لن يقبل أن تستخرج إسرائيل النفط والغاز ما دامت المفاوضات على ترسيم الحدود مع لبنان لم تنتهِ، تراجع نسبياً لدى الأوساط اللبنانية الرسمية وبعض الجهات الدبلوماسية الوسيطة، لكنه لم يتبدد كلياً.
ومع أن الأوساط الرسمية المعنية بمتابعة مفاوضات ترسيم الحدود تتوقع أن يزور الوسيط الأميركي، كبير خبراء الطاقة في وزارة الخارجية الأميركية، آموس هوكشتاين لبنان قريباً، فإن أوساط "حزب الله" سربت لبعض وسائل الإعلام أنه سيطلق المزيد من المسيّرات بحجة أن الجانب الإسرائيلي يتهيأ لبدء استخراج النفط والغاز من حقل كاريش، لكنه لم يصدر عنه أي بيان علني بهذا المعنى باستثناء البيان الذي أصدره عن أن "الرسالة وصلت" عبر مسيّرات الثاني من يوليو الثلاث بعد إعلان الجيش الإسرائيلي أنه أسقطها.
التهديد بمزيد من المسيرات قائم؟
وتدور لعبة التهديد والإنذارات بين "الحزب" وإسرائيل، في وقت يدرك الطرفان أن الرسالة تتجاوز مسألة التفاوض على الحدود البحرية، إلى أمور تتعلق بالوضع الإقليمي وبالضربات الإسرائيلية المتتالية ضد "حرس الثورة" والميليشيات التابعة له في سوريا، والاغتيالات لضباطه الكبار في قلب طهران وغيرها من المدن الإيرانية... ورسالة المسيرات تتوخى تهديد استفادة إسرائيل من الغاز لبيعه إلى أوروبا، مقابل ما تتعرض له طهران من ضغوط في عدد من ميادين نفوذها. وهناك معطيات بأن "الحزب" لم يخفِ قصده هذا من وراء إطلاق المسيرات، في اتصالات بعض الوسطاء معه، من أجل التهدئة والامتناع عن التصعيد. وهذا التهديد بتكرار إرسال المسيّرات، حدث على الرغم من بيان التبرؤ من العملية، الذي صدر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بو حبيب، معتبراً إطلاق المسيرات "خارج مسؤولية الدولة والسياق الدبلوماسي للتفاوض"، ومشدداً على استمرار وساطة هوكشتاين، ما أزعج قيادة الحزب لأنه لم يجد مَن يتضامن معه حتى من حلفائه في السلطة مثل الرئيس ميشال عون.
فضلاً عن الرسائل التي بعث بها هوكشتاين إلى الحزب بالسؤال عن أسباب التصعيد الذي قام به، محذراً من أن يؤدي إلى وقف المفاوضات، ومشدداً على أن واشنطن لا تريد حرباً أو توتراً، فإن الدبلوماسية الفرنسية في بيروت تحركت في اتصال مباشر مع قيادة "الحزب" في ضاحية بيروت الجنوبية، إثر لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وعده في 5 يوليو الحالي، بمساعدة باريس على دعم التهدئة واستئناف المفاوضات بين الجانبين. وعلى الرغم من ذلك، تخشى أوساط رسمية ألا يقيم "حزب الله" وزناً في سلوكه الأمني والعسكري للتحذيرات الأميركية والأوروبية من التصعيد، مشيرةً إلى سوابق له في هذا المجال، إذا كان هناك مصلحة إيرانية. وهو أصلاً لم يحسب حساب أحد من الفرقاء الآخرين في البلد لدى إطلاقه المسيرات.
التحذير الفرنسي من كارثية التصعيد
وأوضح مصدر دبلوماسي فرنسي لـ"اندبندنت عربية" أن ماكرون "وعد بالفعل لبيد علناً أنه مستعد للمساعدة إذا كانت هناك حاجة لإحداث تقدم في شأن الحدود البحرية. أما في شأن الاتصالات المتواصلة للسفارة في لبنان مع السلطات والأحزاب كافة بما فيها (حزب الله)، كان هناك تواصل من أجل دعوة جميع الفرقاء إلى الهدوء وتفادي أي عمل عنيف واستفزازي تجنباً للتصعيد ومن أجل معالجة الخلافات بطريقة سلمية. وهذه رسالة مررناها للحزب ولكل المعنيين، بأن التصعيد لا يفيد أحداً، لأن أي عمل عسكري ستكون له تداعيات كارثية على الجميع وخصوصاً على اللبنانيين الذين يمرون بصعوبات كثيرة حالياً".
ولم تتوقف جهود التهدئة واستدراك انعكاسات خطوة الحزب حيال المفاوضات على الجانبين الأميركي والفرنسي، بحسب قول مصادر دبلوماسية. وهذه الجهود أسهمت في تغطية تبرؤ ميقاتي وبو حبيب، نظراً إلى إعطاء الفرقاء كافة الأولوية للمفاوضات التي يقودها هوكشتاين. بل إن الموقف الدولي، لا سيما الأميركي كان ضاغطاً على رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزير الخارجية، لا سيما من زاوية التشديد عليهما وغيرهما من المسؤولين بمَن فيهم نائب رئيس البرلمان إلياس بوصعب، بأن استمرار التفاوض يحتاج إلى موقف يتنصل مما قام به "الحزب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجواب الخطي المطلوب وعودة هوكشتاين
أتاح التبرؤ اللبناني الرسمي التأكيد من الجانب الأميركي بأن هوكشتاين سيتابع اتصالاته للحصول على جواب إسرائيلي خطي طلبه لبنان من الجانب الإسرائيلي حول الاقتراح الذي قدمه رئيس الجمهورية عون ورئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحكومة ميقاتي لهوكشتاين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت في 14 يونيو (حزيران) الماضي، بعدما نقلت السفيرة الأميركية دوروثي شيا جواباً شفهياً بأن المسؤولين الإسرائيليين لم يكونوا سلبيين بل طرحوا ملاحظات.
وترجح مصادر رسمية عودة هوكشتاين إلى معطيات لدى الجانب اللبناني حول إمكان تجسير التباين في الموقف مما سيحمله الوسيط الأميركي، مستبعدةً أن يزور بيروت قبل ختام زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة بين 13 و16 يوليو الجاري، إذ سيكون منشغلاً معه كون التركيز خلالها سيكون على مسألة الطاقة.
لا تراجع لبنانياً... وطلب ضمانة أميركية خطية
ويقول مصدر قريب من مفاوضات الترسيم، إن "العرض الذي قدمه لبنان للوسيط الأميركي في يونيو الماضي شمل رسماً لخط الحدود البحرية ينطلق من الخط 23 مع انحناءة نصف دائرية في اتجاه الخط 26 لضمان حصول لبنان على حقل قانا للغاز كاملاً كون جزءاً منه يقع خارج الخط 23، ليعود بعد ذلك متطابقاً مع الخط 23. وهو خط مغاير للذي اقترحه هوكشتاين قبل أشهر حين رسم خطاً متعرجاً يضمن الحصول على قانا للبنان ويعطي إسرائيل مقابل المساحة التي يحصل عليها لبنان، في عمق البحر فتعود انحناءته نحو ما سُمي "خط هوف" الذي كان لبنان سبق أن رفضه عام 2012.
وفيما كانت السفيرة الأميركية لدى بيروت، دوروثي شيا نقلت عن هوكشتاين جواباً بأن تقدماً حصل في الرد الإسرائيلي على الاقتراح الأخير، وأن رد فعل تل أبيب لم يكن رفضه، بل طرح جملة ملاحظات تبقى طي الكتمان، وهو ما استدعى طلب لبنان أن يكون الرد مكتوباً، فإن كبار المسؤولين اللبنانيين اتفقوا على أنه لا تراجع عن اقتراحهم الأخير "لا تحت الخط 23 وفي اتجاه الخط 29" ما يعني أن حقل كاريش يكون في المنطقة الإسرائيلية. كما طلب لبنان من الوسيط الأميركي ضمانة أميركية خطية لأي اتفاق على الخط المتعرج الأخير الذي اقترحه.
حملة "حزب الله" على ميقاتي وبوحبيب
ويعتبر المصدر الرسمي أن معرفة "حزب الله" بتفاصيل الموقف اللبناني المتشدد خصوصاً أن حليفه الموثوق في "الثنائي الشيعي" رئيس البرلمان نبيه بري شريك أساسي في صياغته أحرجه في صياغة اعتراضه على بيان ميقاتي وبوحبيب الذي تبرأ من إرساله المسيرات، فامتنع عن إصدار موقف رسمي عنه في هذ الصدد وأوكل مهمة الحملة على الموقف اللبناني الرسمي إلى الإعلام الموالي له، للتغطية على الرسالة الإيرانية التي أراد تسطيرها بالمسيرات وقوامها الرد على الضغوط والعمليات التي يتعرض لها من قبل إسرائيل، سواء في سوريا أو في إيران من خلال الاغتيالات التي تنفذها لمسؤولين إيرانيين.
ومع ذلك فإن معطيات دبلوماسية رجحت أن يكون أحد أسباب إلحاح الجانب الأميركي على تبرؤ السلطات اللبنانية من مسيرات الحزب، والتحذير من أنها قد تقوض استمرار المفاوضات، أن المسؤولين اللبنانيين وتحديداً عون وبري كانا وراء الإصرار على عودة هوكشتاين من أجل استئنافها. ولا تستبعد بعض الأوساط أن يقود انخراط هوكشتاين مجدداً في المفاوضات بين البلدين، إلى طرح بايدن خلال محادثاته في إسرائيل مسألة ترسيم الحدود مع لبنان، لدعوة حكومتها إلى تسهيل إنجاز هذا الملف بسرعة وإلى التعاطي بليونة مع الاقتراح اللبناني الأخير، من أجل تسريع إنتاج الغاز من حقل "كاريش"، كي يسهم تصديره إلى أوروبا خلال الشتاء المقبل، في تعويض بعض الغاز الروسي جراء العقوبات الغربية على موسكو، وبعد وقف الكرملين بيعه لبعض هذه الدول التي رفضت تسديد ثمنه بالروبل الروسي.
هناك مَن يعتقد أن من مصلحة واشنطن نزع فتيل التوتر الذي تريده طهران انطلاقاً من الجبهة اللبنانية وعن طريق "حزب الله"، مع إسرائيل عبر ممارسة ضغوط على حكومة يائير لبيد كي تتعاطى بليونة مع الاقتراح اللبناني الأخير، ولإزالة حجة "الحزب" بالتصعيد العسكري ضد استثمار حقل "كاريش".