Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشارع التجاري الرئيسي آخذ في الاندثار ونهايته الوشيكة لا تستحق الحزن... لماذا؟

كان رجال الأعمال المحليّون يُوصلون السّلع والبضائع إلى المنازل، وذلك قبل فقاعة الشّارع التّجاري. والأرجح أننا حالياً نُعيد الأمور اليوم إلى ما كانت عليه بالأمس

يعلن متجر "مابلين" إغلاقه بعد أن أشهرت الشركة إفلاسها (رويترز)

أثارت أخبار نجاة امبراطورية "أكارديا" (Arcadia) لصاحبها الملياردير فيليب غرين من الإفلاس، بعد إنهاء خدمات الكثير من العاملين في مقرّها الرئيسي، نوبات هلع جديدة حيال مصير قطاع التجزئة في بريطانيا.

وإذا لحقت خسائر قليلة أخرى بهذا القطّاع، سيُدقّ ناقوس الخطر ويبدو منظر شوارع البلاد التجارية الرئيسية ومراكز التسوّق كئيباً كما لو كان مشهداً من  فيلم "الموتى السائرون": مساحات صامتة تنتظر بترقب التخفيضات التي تُجرىها المخازن قبيل إقفالها النهائي. 

إنّه تناقضٌ صارخٌ لتصوّرٍ آخر للبيع بالتجزئة، يقوم فيه مزوّدو الخدمات بتوصيل الأطعمة إلى المنازل داخل عبوات مستدامة، ويتولّى فيه العمّال اليدويّون المحليون حياكة الكنزات الظريفة التي ترغبون بشرائها لأطفالهم؛ فيما عدا أنّ هذا ليس إعلاناً للعلامات التجارية الحديثة مثال "فارم دروب" (Farmdrop) أو "إتسي" (Etsy)، بل هذا ما كانت عليه الحياة في المجمّعات البلدية في ساوث شيلدز أوائل سيتينيات القرن الماضي.

عاش والدايّ حياتهما وكبرا في منطقة وايتلاس العقارية جنوبي تاينيسايد. وبحسب ما أخبرني به أبي مؤخراً، كانت المنطقة خالية من المتاجر عندما انتقلا إليها. وفي وقتٍ لاحقٍ، أُنشئت فيها محال البقالة المحليّة التي انتقلت ملكيّتها من السّيد ميكس إلى السّيد سينغ، ومقهى "بيتيز"  الذي فتح أبوابه يوم عيد الميلاد بعدما ساد عدم الانسجام بين المسكينة بيتي و زوجها.

لكن قبل ذلك، كان هناك بائع حليب وشاحنة لبيع البقالة وأخرى لبيع السمك ورجل من رينغتونز  يبيع الشاي وحلوى كريات جوز الهند.

وفي تلك الأثناء، كان بإمكان مَن لا يمتلك ثمن ملابس "بولي فليندرز" أن يشتري ملابس الأطفال الشتوية من نساء عديدات كنّ، إن أسعفتني الذاكرة، يعتبرن أنماط الحياكة أكثر من مجرّد توجيهات صعبة. كانت جدتي آنذاك النموذج المميّز لجيل الألفيّة المدلّل: بقيت شريكةً نشطة في الاقتصاد القائم على الطلب، وعملت بكدّ كلّ حياتها، لكنّها لم تستطع يوماً شراء منزل لنفسها.

قد تبدو هذه المقارنة صعبة نوعاً ما، لكنّ الرأي السائد عن إمكانية تحوّل الحياة التجارية في بريطانيا إلى خرابٍ نووي في غياب شارعٍ تجاري يحوي أسماء مهمة، صعبٌ كذلك. ولطالما كان هناك أكثر من طريقة واحدة معتمدة من تجار التجزئة لتصريف البضائع والسلع. فمنهم مَن كان يتجوّل في الشوارع ويتنقّل من بابٍ لآخر ليبيع بضاعته فيما سوّق آخرون ما لديهم من خلال الكاتلوغات والإعلانات.

لكن بين ستينيات القرن العشرين وأوائل الألفية الثالثة، بات قطاع التجزئة يتمحور حول الحجم والكفاءة، بمعنى آخر، قلّ عدد المتاجر وازداد حجمها.

وما فتئ عدد المتاجر في المملكة المتحدة المسمّاة "أمة من أصحاب المتاجر" يتناقص على مدى القرن الماضي تقريباً، إذ تراجع بحسب دراسة ذات صلة، من 950 ألف متجر في عشرينيات القرن الماضي إلى 583 ألف متجر عام 1950، ووصل ما يزيد قليلاً على 300 ألف متجر بحلول العام 1997. حينها، كانت المتاجر عبارة عن أعمال تجارية على درجة عالية من الكفاءة.

وبفضل آلية الخدمة الذاتية التي اعتمدتها، كانت حاجتها للموظفين قليلة، ولو تطلّب ذلك اتخاذها بعض الإجراءات، على شاكلة تعليب السلع الهشّة في حاويات بلاستيكية صلبة لحمايتها.

كذلك انتقلت المتاجر حينها إلى ظاهر البلدات حيث كانت مواقف السيارات متاحة بكثرة. وهناك، بدأت تفتح أبوابها حتى ساعة متأخرة وارتفع متوسط إيراداتها من 5 آلاف جنيه إسترليني للمتجر الواحد عام 1950 إلى 35 ألف جنيه إسترليني عام 1997.

وفي ذلك الوقت، كانت الصحف تزخر بمقالاتٍ تحليلية ترثي الأعمال التجارية الأبطأ التي تقودها الخدمات وتقوم على مبدأ التوصيل إلى المنازل، مثال بائع الحليب المحلي أو كاتالوغ "غراتان" (Grattan). فسيطرة المتاجر الكبرى على جيوبنا وأحاديثنا أطاحت بكل طريقة أخرى ممكنة للوصول إلى المستهلك، لذا نسيناها ووضعناها جانباً.

كان ذلك منذ عشرين عاماً عندما لعبت المواقع الإلكترونية العملاقة، على غرار "أمازون"  دوراً مهماً في تصفية هذا النوع من أعمال التجزئة. لكن ثمة عامل آخر يتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن زوال الشارع التجاري، وهذا العامل هو: "صندوق الاستثمار العقاري" (REIT).

و"صندوق الاستثمار العقاري" هو أداة مالية تم إنشاؤها عام 1960 لأجل تحفيز صغار المستثمرين على الاستثمار في العقارات التجارية عبر صناديق مخصصة. وهذا يعني أنه بإمكان صناديق العقارات التجارية ضخّ مليارات الجنيهات في مراكز التسوّق ومنتزهات التجزئة خارج البلدات، وهو تمويل ضروري لضمان تسوق كبير وفعّال.

كما يعني بأنه يمكن لهذه الصناديق أيضاً سحب مليارات إضافية من تجار التجزئة لقاء إيجار محلاتهم.

كما هي الحال مع سائر الفقاعات، حاول الأشخاص المعنيّون بهذه الفقاعة إقناع أنفسهم بأنّها ستستمرّ إلى الأبد، ولكنّ ذلك لم يحصل طبعاً. وفي شهر كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، أفادت أرقام صادرة عن "الكونسورتيوم البريطاني لعمليات البيع بالتجزئة" و"سبرينغ بورد" أنّ 10% من مساحات التجزئة في المملكة المتحدة شاغرة، ومع استمرار مؤسسات البيع بالمفرد على غرار "مجموعة أركاديا" بالتعثّر، من المستبعد أن نشهد تحسّناً من أيّ نوع.

ومن المحتمل أن ننظر عمّا قريب إلى الفقاعة العقارية التي دامت طويلاً وحوّلت المتاجر إلى مساحات مستقبلية، بالطريقة نفسها التي ننظر فيها اليوم إلى صور القصور الفخمة التي تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

فمالكو هذه المتاجر رأوا في ضخامتها واتساعها وسيلةً لجني الأموال الطائلة، لكنّهم سرعان ما اكتشفوا أنّ ثمن إدارتها يُكلّف الكثير عندما يبدأ الناس بالتوجّه إلى أماكن أخرى.

لكن إلى أين يتوجّه هؤلاء؟ الإنترنت أو ربما هم لا يتسوّقون من أساسه. وسواء أكان السبب الفعلي هو تدني الأجور أو الخوف من تحقيق الاستدامة أو انشغال الناس بأمور أخرى كثيرة، يبدو أنّ مستقبل قطاع التجزئة البريطاني قد تحجّم وبات أقل اعتماداً على الخدمات والمتاجر.

وها نحن نعود الآن إلى نقطة البداية التي انطلقنا منها في القرن التاسع عشر حين تحول تركيز المتسوّقين من السلع المباعة في المتاجر إلى المتاجر بذاتها. وبالنّسبة إلى الجيل الذي اعتاد على التسوّق أسبوعياً في متاجر "أسدا"، قد تبدو الأعمال التجارية على شاكلة "هيلو فريش" أو "فارم دروب" مجرّد ترهات مترفة.

لكن هناك طريقة أخرى للنظر إليها، وهي النظر إليها على أنّها عودة بالزمن إلى الأوقات التي كان التسوّق فيها يتركز حول السلعة التي تشتريها وليس المتجر التي تشتريها منه. أنا أكيد من أنّ جدتي كانت لتُصدم بأسعار الوصفات التي تُقدّمها شركة "هيلو فريش" اليوم، لكنّها كانت ستفهم المبدأ أيضاً.

© The Independent

المزيد من اقتصاد