Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دعاء الكروان" في زمن صحافة "الترافيك"

تحوّلت حسابات عديد من الصحف على مواقع التواصل الاجتماعي إلى متابعات مثيرة تعزز أنماطاً سلبية وتسيء إلى النساء من أجل الربح

يسهم بعض الإعلام في مصر في ترسيخ النظرة الدونية للمرأة (رويترز)

"مرّت الأيام واحنا ننتقل من بلد لبلد، يا ويلي من اليوم اللي فات، ويا خوفي من اليوم اللي جاي"، هكذا رثت آمنة حالها بعد أن تم طردها وأختها وأمها من بلدتهن بسبب الفساد الأخلاقي للأب الذي لقي حتفه على يد طالبي الثأر لشرفهم. تهجير الأم والابنتين القرويتين اللاتي لا معرفة لديهن بالعيش خارج حدود القرية، كان حلقة من حياتهن كدُمى يحركها الخال الذي يتحكم في مصائرهن، وصولاً إلى قتل هنادي بخفة يد وغلاظة قلب معهودة لدى رجال القبيلة تجاه النساء، إذ ذهب الخال لتحميل فتاة قروية بسيطة لم تنل حظاً من التعليم أو من حياة مستقرة، المسؤولية كاملة عما وقع بها من تغرير من ذلك المهندس الوسيم، بينما هي ضحية للأب والخال والقبيلة التي طردتها بذنب أبيها.

"دعاء الكروان" هي تلك الرائعة التي أراد من خلالها طه حسين تقديم طرح جريء للظلم الواقع على النساء في العالم العربي والعنف الذي يلقينه في كل مراحل حياتهن، بل تحمل المسؤولية عن أخطاء الرجال. كتب عميد الأدب العربي روايته في عام 1934، وحوّلها المخرج هنري بركات إلى فيلم فارق في تاريخ السينما المصرية، عام 1959، وبينما يفصلنا نحو 88 عاماً على صدور الرواية، وأقل قليلاً عن الفيلم، إذ مرّت المجتمعات العربية بتطورات على صعيد القوانين وتغييرات هائلة، لا سيما في ما يتعلق بوضع المرأة، لكن بقي العنف الذكوري صامداً لا سبيل لمواجهته سوى انتفاضات فكرية وثقافية يلعب فيها الإعلام وصناعة الفن دوراً هو الأهم.

صحافة "الترافيك"

بالعودة إلى حاضرنا، إذ الفضاء الإلكتروني الواسع الذي يضجّ بالجدل والرأي، والرأي الآخر، عند كل حادثة ومناسبة، فإذا ما سرحنا بالخيال قليلاً لنتصور ما سيكون عليه مشهد صفحات المواقع الإخبارية المصرية إذا ما وقعت جريمة مثل جريمة قتل هنادي على يد خالها، أو حتى إذا ما صدرت رواية طه حسين في عصرنا هذا ليدافع عن النساء، ويدعو إلى رفع الظلم عنهن، والنظرة المتدنية تجاههن، يمكننا أن نقرأ عناوين مثل "شاهد فيديوهات هنادي مع المهندس"، أو "قتلها خالها لغسل عاره"، وربما عناوين أخرى تهاجم الفيلم أو الكاتب بدعوى الدفاع عن "آثمة"، أو دعم وترويج "انحراف النساء". ولا مانع من الاستعانة بتغريدات داعية متطرف يدعم طرد الأم والفتاتين بعد خطأ الأب، أو يشرع قتل تلك الفتاة المخطئة، وربما قتل الأم التي لم تُجِد تربيتها، وإبرازها في عناوين ومقاطع فيديو تزيد عدد زوار الموقع وترفع "الترافيك"، ولا عزاء لسلامة المرأة وللجماعات النسوية أو للدستور الذي ساوى بين النوعين.

لن نذهب بعيداً في المدى الزمني، فعلى مدار الأشهر الستة الماضية، ضجّ عديد من حسابات الصحف المصرية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحظى بشعبية وعدد متابعين يتجاوز المليون، بل الملايين، بتغطيات لحوادث عنف ضد النساء تسابق فيها المراسلون على الفوز بلقاءات خاصة مع المعتدي و"تلميعه" في فيديو "لايف" يُدرّ كثيراً من المال مع زيادة عدد المشاهدات، وآخر ليبرر جريمته باعتباره عُرفاً وتقليداً لتربية النساء ممن هن ناقصات عقل. وهناك من الصحافيين من ذهب في عناوينه إلى تبرير جريمة بدعوى حماية سُمعة العائلة، ثم نجد النيابة والقضاء يخلصان إلى أن دوافع الجريمة مادية.

ليس ذلك فحسب، فهناك تسابق على استخدام ألفاظ مثيرة في الإشارة إلى الضحية لجذب مزيد من "اللايك" وزائري الموقع، مثل "عنتيلة المحلة" عند الإشارة إلى زوجة كانت ضحية زوج أراد التهرب من دفع النفقة بمقاطع فيديو مزيفة مخلة بالشرف لزوجته، أو حتى الهجوم الشرس على ابنة لاعب كرة قدم شهير لا يتجاوز عمرها بضع سنوات عندما عبرت في فيديو على حسابها الخاص عن مشاعر الغضب تجاه تنمّر والدها وإهماله لها بعد أن انفصل عن أمها وتزوج بأخرى. وهناك تغطيات تربط التحرش والعنف الجنسي بملابس الفتاة واستخدام صور خاصة بالضحية للإيحاء بذلك عند نشر الخبر، فيما أصبحت الفنانات مادة خصبة لمثل هذا النوع من صحافة "الترافيك"، فنجد لقاءات صحافية مع ممثلات تم اجتزاء عبارات منها لإبرازها في عناوين مثيرة تُدرّ عدداً أكبرَ من المشاركات والتعليقات التي تحمل كراهية للنساء.

هذا المشهد الفوضوي الذي يعجّ به الفضاء الإلكتروني في مصر، ربما يقف وراء قرار القضاء المصري بحظر النشر في قضية مقتل الطالبة نيرة أشرف أمام جامعة المنصورة بسكين شاب رفضت الزواج منه. فخلال الجلسة الأولى من محاكمة المتهم الذي ارتكب جريمته في العلن، وأقرّ بها أمام النيابة، تسابقت كاميرات تلك المواقع على نقل تصريحات المعتدى التي ذهب فيها إلى تبرير جريمته بمحاولة الإساءة إلى سُمعة الضحية واتهامها باستغلاله مادياً والإساءة إليه نفسياً، وهي الاتهامات التي لاقت رواجاً واسعاً عبر وسائل الإعلام، ومنها بين أولئك المتعاطفين مع الجاني ممن سعوا منذ وقوع الجريمة للتركيز على ملابس الضحية وأسلوب حياتها وغيرها من الأمور التي لا علاقة لها بالجريمة، ولكنها تتعلق بنوع الضحية كامرأة.

خطاب الكراهية

تقول العميدة السابقة لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، ليلي عبد المجيد، لـ"اندبندنت عربية"، إن تلك المواقع الإخبارية تهدف عادةً إلى استخدام أسلوب الإثارة لزيادة عدد المستخدمين والمتابعين لحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي من دون الالتفات إلى المعايير المهنية والأخلاقية، وهو الأمر الذي لا يقتصر على تناول المرأة والقضايا المتعلقة بها، بل يشمل فئات أخرى من المجتمع. وتشير إلى ممارسات سلبية عدة من جانب ممارسي مهنة الصحافة الإلكترونية مثل عدم احترام حرمة الموت في نقل الجنازات أو انتهاك الحياة الخاصة للناس. وتضيف، "كثيراً ما تكون المعلومات مضللة مثلما حدث مع سيدة المحلة التي لفّق لها زوجها فيديوهات مخلة بالشرف، بينما حتى التصحيح لا يتم نشره أو ينشر في حيز محدود لا يضاهي ذلك الذي حظي به الخبر".

وفقاً لورقة بحثية صادرة عن الجامعة الأميركية في القاهرة، تحت عنوان "خطاب الكراهية في البرامج الحوارية المصرية"، للباحثة كارولين إلياس، التي تناولت حالات وقعت ضحايا خطاب الكراهية، فإن آثار ذلك الخطاب واسعة، وهي نفسية وجسدية، مثل المضايقات. وتشير الدراسة إلى تفسير خطاب الكراهية على أنه "تحريض على العنف"، لذا أوصت بالحاجة إلى إجراء دراسات في شأن العلاقة بين خطاب الكراهية والإرهاب في مصر.

ويتفق متخصصون على أن أسلوب التناول الصحافي القائم على الإثارة والرغبة في جذب عدد أكبر من التعليقات والمشاركات لمنشورات الصحيفة على وسائل التواصل الاجتماعي يعزز تلك الثقافة السائدة، خصوصاً بين الفئات المتطرفة التي تنظر إلى النساء نظرة دونية. وتقول عبد المجيد إنه في حين من المفترض أن يكون للإعلام دور فاعل في مقاومة هذه النظرة والصورة النمطية للمرأة، فإن ما يحدث هو النقيض، فمن خلال التغطيات غير المهنية وغير الأخلاقية التي تهدف إلى الربح المادي يتم استخدام خطاب مُعادٍ هو أقرب إلى خطاب الكراهية. وتضيف، "لعب هذا دوراً كبيراً في العنف وخطاب الكراهية في المجتمع، وتعزيز النظرة النمطية السلبية إلى المرأة".

تطبيع العنف ضد المرأة

وتعتقد مي صالح، الباحثة في دراسات النوع الاجتماعي لدى مؤسسة المرأة الجديدة، أن تلك "الأنماط من الصحافة القائمة على الفضائح والترند تتسبب في مزيد من الضرر لصورة المرأة، في ظل سياق ثقافي ذكوري، إذ تجد تربة خصبة من أشخاص يتبنون بالأساس خطاباً عدائياً للنساء ويبررون العنف ضدهن". وتشير إلى التأثير السلبي لأسلوب التغطية الصحافية المثير على عمل المنظمات النسوية. وتحذر من أن هذه الأنماط من الصحافة تتمثل خطورتها في تعزيز التطبيع مع العنف وشرعنته، وتُضفي عليه صبغة من الاعتياد، وهو ما حدث على سبيل المثال في تناول بعض المواقع الصحافية لحادثة اعتداء عريس الإسماعيلية على عروسه بالضرب في الشارع، فسارع بعض الصحافيين إلى إجراء تسجيل مع المعتدي ونقل مشهد الصلح مع عروسه والادعاء بأن ضرب النساء جزء من التقاليد المعتادة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعادةً ما تتحول حوادث العنف، وخصوصاً العنف الجنسي، إلى وصم، أو شيطنة الضحية. وفي هذا الصدد، تشير صالح إلى استخدام عبارات مثل "فتاة المنصورة"، أو "فتاة ميت غمر" التي تتضمن إشارة ضمنية "فضائحية" تشعر القارئ بأن هناك أمراً ما. وليس ذلك وحسب، فهناك مواقع تستغل صوراً للضحية من حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما حدث مع ضحية حادثة التحرش الجماعي في ميت غمر، حيث استُعين بصور محددة للضحية، واقترن ذلك مع مزاعم محامي المتهمين وتصديرها إلى المشهد العام من منطلق أن "الضحية تستحق بسبب ملابسها"، وهو ما يُشرعن العنف الجنسي ضد النساء.

وتنتقد عميد كلية الإعلام السابقة نشر تفاصيل التحقيقات أو المحاكمات في القضايا الحساسة، وخصوصاً تلك المتعلقة بالعنف ضد النساء. وتشير، على سبيل المثال، إلى استغلال المتعاطفين مع القاتل في قضية نيرة أشرف، لتصريحاته أمام المحكمة، التي أدلى فيها بمزاعم حاول من خلالها تشويه صورة الضحية والادعاء بأنها تلاعبت به. وتقول عبد المجيد، "قانونياً، يجب عدم نشر تفاصيل التحقيقات، لأن الطبيعي أن يدافع المتهم عن نفسه بالكذب".

التغطية السطحية وصحافة "الترند"

يغلب على المواقع الإخبارية وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي أسلوب التغطية الخبرية السطحي، أو كما يصفه خالد البرماوي، المتخصص في مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي، بالتغطيات السريعة، مشيراً إلى أن كثيراً من المواقع الصحافية المصرية تفتقر إلى التغطية المعمقة أو القصص الدائمة للحوادث والقضايا. ويضيف أن "الصحافة الرقمية بشكل عام، أصبحت أسيرة للترند، والمشكلة ليست في الترند، أو القضايا الرائجة بحد ذاتها، وإنما المشكلة تتعلق بالكيفية التي تُجرى بها التغطية والاستغراق في التغطيات الأولية لتلك القضايا من دون وضع أجندة صحافية لتناول القضايا الحساسة". ويشير إلى أن "وقوع الصحافة الرقمية أسيرة للمحتوى الرائج (الترند) ينقص من قيمتها ويساويها بتدوينات المواطن العادي".

ويتجنب البرماوي التعميم في الإشارة إلى تبني الصحف الرقمية خطاباً مُعادياً للمرأة، غير أنه يشير إلى بعض الممارسات الخاطئة التي تضر بالمرأة وقضاياها وغيرها من الفئات. وفي حين يستبعد أن تكون تلك الممارسات السلبية متعمدة، يشير إلى أنها خارجة عن معايير مهنية غير منضبطة، مؤكداً أهمية وجود معايير تضمن حدوث توثيق وتحقق للمعلومات وتوازن في التغطيات، بينما ما يقوم به بعض الصحافيين هو مجرد النقل عن وسائل التواصل الاجتماعي من دون دراية بما يمكن أن تسببه هذه الممارسات من تقليل لشأن المرأة والمشاركة في نشر الأفكار الضارة واستهلاكها.

وهنا، تلفت مي صالح إلى حاجة قضايا المرأة لصحافة عميقة تبحث في جوانب الضعف والفجوات التي تؤدي إلى جرائم مثل مقتل نيرة. فعلى سبيل المثال، كانت هناك حاجة إلى تقارير تبحث في دور وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في الجامعة والتعرف عما إذا كانت الطالبات يلجأن إليها أم أن هناك خللاً ما، وكذلك جدوى البلاغات الشرطية التي تم تقديمها من الضحية، فكل هذه المسائل أولى بالتحليل من ملابسها، أو غيره، والتعامل بشكل غير أخلاقي مع عائلات الضحايا عادةً من خلال تعقُّبهم وتصويرهم خلال لحظات البكاء، "هذه المعايير تحتاج إلى إعادة صياغة بشكل أخلاقي، وأن تكون هناك مراجعة لها"، بحسب صالح.

وتؤكد ليلى عبد المجيد وجود "أكواد" مهنية تتعلق بما يُعرف بالصحافة الحساسة للنوع الاجتماعي ينص عليها ميثاق الشرف الصحافي والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ومع ذلك، فإن كثيراً من ممارسي الصحافة والصحف يتجاهلونها لأسباب تتعدد بين الربح المادي أو عدم الوعى بخطورة ما يُنشر. وتقول، "الناس يريدون أن يتسلوا ويقضوا وقتاً على حساب سُمعة الآخرين. نعلم أن صناعة الإعلام مكلفة، وهناك محاولات دائمة لجذب الإعلانات، لكن هذا ليس مبرراً لتجاوز المعنى الأخلاقي". وفي حين هناك إجراءات للمحاسبة، سواء للصحافي، أو الموقع، من قبل تلك الجهات المعنية، لكن عبد المجيد تشدد على الحاجة إلى أن يكون صانع المحتوى على وعي بالمسؤولية الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم هناك حاجة إلى نشر التربية الإعلامية والرقمية في المدارس والجامعات وبين المواطنين العاديين.

المزيد من تقارير