Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل سينجو بوتين من تبعات الحملة الأوكرانية؟

 الدروس المستفادة من انهيار الاتحاد السوفياتي

الاحتفال بفشل محاولة انقلاب الحزب الشيوعي في موسكو، أغسطس 1991، (اناتولي ساربونينكوف/ أ ف ب)

في 9 مايو (أيار) 2022، انطلق صف من الدبابات والمدافع هادراً في الساحة الحمراء في موسكو. وسار أكثر من عشرة آلاف جندي في شوارع المدينة. كان العرض العسكري هذا احتفالاً بذكرى النصر الروسية السابعة والسبعين، إحياء لانتصار الاتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وفي المناسبة، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المشرف على الاحتفالات، خطاباً أشاد فيه بالجيش وبثبات بلاده. وقال "لطالما اعتبرنا الدفاع عن وطننا الأم، عندما يكون مصيره على المحك، أمراً مقدساً. نحن لن نستسلم مطلقاً". والحق أن بوتين كان يتحدث عن الماضي، وكذلك عن الحاضر، برسالة واضحة إلى بقية العالم: روسيا مصممة على مواصلة حربها ضد أوكرانيا.

وتبدو الحرب في رواية بوتين مختلفة للغاية عما تبدو عليه في نظر الغرب. فهي عادلة وشجاعة، كما أنها ناجحة. وفي ذلك الإطار قال بوتين "محاربونا من أعراق مختلفة يقاتلون معاً، يحمون بعضهم بعضاً من الرصاص والشظايا مثل الإخوة". وحاول أعداء روسيا استخدام "العصابات الإرهابية الدولية" ضد البلاد، لكنهم "فشلوا تماماً". ولا شك في أن القوات الروسية قوبلت بمقاومة محلية شرسة عوضاً عن الدعم، ولم تتمكن من الاستيلاء على كييف وإقالة الحكومة الأوكرانية، ولكن بالنسبة إلى بوتين، النصر هو النتيجة الوحيدة المقبولة علناً، ولا مناقشة لنتائج بديلة، في روسيا.

وفي المقابل، تلك النتائج ناقشها الغرب الفرح إلى حد ما بنجاح أوكرانيا. وأدت النكسات العسكرية الروسية إلى تجديد نشاط التحالف عبر الأطلسي، وصورت موسكو في صورة قوة من الدرجة الثالثة يقوم نظامها على السرقة والسطو. واليوم، يحلم كثير من صانعي السياسة والمحللين بأن ينتهي الصراع ليس بانتصار أوكرانيا في نهاية المطاف فحسب، بل يأملون في أن يعاني نظام بوتين المصير الذي لقيه الاتحاد السوفياتي: الانهيار. ويتجلى هذا الأمل في عدد من المقالات والخطب التي تقارن بين حرب الاتحاد السوفياتي الكارثية في أفغانستان، والغزو الروسي لأوكرانيا. ويبدو ذلك باعثاً دفيناً للعقوبات القاسية المفروضة على روسيا. ويؤكد الحديث الأخير عن الوحدة الجديدة للعالم الديمقراطي. ويتوقع أن تسهم الحرب في إضعاف الدعم الشعبي للكرملين مع تعاظم الخسائر وتدمير العقوبات للاقتصاد الروسي. وبسبب امتناع وصولهم إلى السلع والأسواق والثقافة الغربية، سيطفح كيل كل النخب الروسية وعامة الروس من بوتين طرداً، وربما خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بمستقبل أفضل. وفي نهاية المطاف، قد ينحى بوتين ونظامه، إما في انقلاب أو في موجة من الاحتجاجات الجماهيرية.

بيد أن هذا التفكير قائم على قراءة خاطئة للتاريخ. الاتحاد السوفياتي لم يتفكك للأسباب التي يحب الغربيون التعليل بها، على غرار الهزيمة المذلة في أفغانستان، وضغط الولايات المتحدة وأوروبا العسكري، والتوترات القومية في جمهوريات الاتحاد، وإغراءات الديمقراطية المزعزعة. والحق أن السياسات الاقتصادية السوفياتية المضللة، وسلسلة الأخطاء السياسية التي تعثر بها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، هي التي تسببت في تدمير البلاد ذاتياً. وتعلم بوتين أموراً كثيرة من الانهيار السوفياتي، وتمكن من تجنب الفوضى المالية التي حتمت القدر المشؤوم للدولة السوفياتية على الرغم من العقوبات الشديدة. وإلى ذلك، تتميز روسيا اليوم بمزيج من الصمود والضعف، مختلف جداً عن ذلك الذي طبع الاتحاد السوفياتي في أواخر عهده. وهذا التاريخ جدير بالاعتبار، وعند التفكير في الحرب في أوكرانيا وعواقبها، على الغرب تجنب إسقاط مفاهيمه الخاطئة عن انهيار الاتحاد السوفياتي على روسيا الحالية.

لم يتفكك الاتحاد السوفياتي للأسباب التي يحب الغربيون التعليل بها

إلا أن هذا لا يعني أن الغرب عاجز عن رسم مستقبل روسيا. وصحيح أن نظام بوتين أكثر استقراراً مما كان عليه نظام غورباتشوف. فإذا تمكن الغرب من البقاء موحداً، فقد يظل قادراً على تقويض سلطة الرئيس الروسي ببطء. وبغزو أوكرانيا، أخطأ بوتين في الحساب على نحو فادح. وكشف عن نقاط ضعف النظام، وهي اقتصاد أكثر ارتباطاً بالاقتصادات الغربية مما كان عليه سلفه السوفياتي، فضلاً عن نظام شديد التركيز على السياسة، ويفتقر إلى أدوات التعبئة السياسية والعسكرية التي كان الحزب الشيوعي يمتلكها. وإذا استمرت الحرب، فستصبح روسيا لاعباً دولياً ضعيفاً. وقد يؤدي الغزو المتطاول زمناً إلى نوع من الفوضى التي أسقطت الاتحاد السوفياتي. ولا يسع الزعماء الغربيين الأمل في مثل هذا النصر، السريع والحاسم. وعليهم التعاطي مع روسيا الاستبدادية، مهما كانت ضعيفة، في المستقبل المنظور.

التدمير الخلاق

في الولايات المتحدة وأوروبا، يفترض عدد من الخبراء أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان محتوماً. وفي الرواية هذه، كان الاتحاد السوفياتي متحجراً اقتصادياً وأيديولوجياً مدة طويلة، وأجهد جيشه فوق الضرورة. واستغرق فعل الثغرات الاقتصادية، والتناقضات الداخلية وقتاً قبل أن يؤدي إلى تفكيك الدولة. ومع ازدياد الضغط الغربي على الكرملين، من طريق تعزيز القوة العسكرية، بدأت البلاد تنهار. وعندما اكتسبت حركات تقرير المصير الوطنية في جمهوريات الاتحاد الأولى زخماً، تداعى الاتحاد. ولم تستطع محاولات الإصلاح التي بذلها غورباتشوف، على الرغم من حسن النية، أن تنقذ نظاماً يحتضر.

وينبغي الإقرار بأن هناك بعض الحقيقة في هذه الرواية. فالاتحاد السوفياتي لم يقوَ على منافسة الولايات المتحدة وحلفائها لا عسكرياً ولا تقنياً. وفي السياق هذا بذل القادة السوفيات جهوداً كبيرة وغير مجدية للحاق بالغرب. وبقيت بلادهم متخلفة على الدوام عن الركب. وفي ساحة معركة الأفكار والصور، ساعد الازدهار والحرية الغربيان في تسريع زوال الأيديولوجية الشيوعية، وفقدت النخب السوفياتية الشابة إيمانها بالشيوعية وأولت اهتماماً شديداً السلع الأجنبية المرغوبة، والسفر، والثقافة الشعبية الغربية. ولا ريب أن المشروع الإمبراطوري السوفياتي لاقى استياء الأقليات العرقية الداخلية وازدراءها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بيد أن تلك المشكلات لم تكن جديدة، ولم تكن في حد ذاتها كافية لعزل الحزب الشيوعي من السلطة بسرعة في نهاية الثمانينيات. وفي الصين، واجه القادة الشيوعيون أشباه هذه الأزمات، في الوقت نفسه تقريباً، لكنهم قابلوا الاستياء المتزايد بتحرير الاقتصاد الصيني، واستخدموا القوة في قمع الاحتجاجات الجماهيرية. ونجح مزيج الرأسمالية من دون ديمقراطية، وبات قادة الحزب الشيوعي الصيني يحكمون بواسطة رأسمالية الدولة واستغلالها، وهم يقفون أمام عدسات التصوير تحت لوحات كارل ماركس وفلاديمير لينين وماو تسي تونغ. وفي الأثناء، خاضت أنظمة شيوعية أخرى، شأن النظام الحاكم في فيتنام، تحولات مماثلة.

ولم تسهم العيوب الهيكلية في تدمير الاتحاد السوفياتي على قدر ما فعلت الإصلاحات في حد ذاتها، في عهد غورباتشوف. ومثلما جادل اقتصاديون مثل مايكل بيرنستام، ومايكل إلمان، وفلاديمير كونتوروفيتش، أطلقت البيريسترويكا [إصلاحات إعادة الهيكلة] العنان لطاقات رجال الأعمال، إنما على نحو لم ينشئ اقتصاد سوق جديداً ولم يملأ رفوف المستهلكين السوفيات بالسلع. وبدلاً من ذلك، أدت هذه الطاقة إلى الدمار، فرواد الأعمال، على النمط السوفياتي، سطوا على الأصول الاقتصادية للدولة، وصدروا موارد ثمينة بالدولار، وسددوا الضرائب بالروبل. فحولوا الإيرادات إلى مواقع خارجية، ما مهد الطريق لحكم الأوليغارشية الفاسد. وسرعان ما تعلمت البنوك التجارية طرقاً ملتوية وبارعة لاستغلال الدولة السوفياتية، فاضطر البنك المركزي إلى طباعة الروبلات لتغطية التزامات البنوك التجارية المالية، فتوسع العجز الحكومي. وفي عامي 1986 و1987، مع انخفاض مبيعات الفودكا وأسعار النفط، والتداعيات التي جرتها كارثة تشيرنوبيل النووية، لم تطبع وزارة المالية سوى 3.9 مليار و5.9 مليار روبل، على التوالي، ولكن في عامي 1988 و1989، عند إقرار إصلاحات غورباتشوف، بلغ ضخ السيولة بالروبل 11.7 مليار ثم 18.3 مليار.

استغرق الأمر عقوداً ليقوم عشرات الملايين من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق بتطوير هويات ما بعد الإمبراطورية.

وعلى أي حال، تقدم غورباتشوف والإصلاحيون الآخرون بجهد جهيد. وفوض الزعيم السوفياتي مزيداً من السلطة السياسية والاقتصادية إلى الجمهوريات الخمس عشرة في الاتحاد. وسمح الحزب الشيوعي بإجراء انتخابات مجالس وطنية مخولة بالسلطة التشريعية والدستورية، وأدت إلى إخراج الأحزاب الشيوعية المحلية. وكان تصميم غورباتشوف صادراً عن قصد حسن، إلا أنه أدى إلى تعظيم الفوضى الاقتصادية، وعدم الاستقرار المالي. واحتجزت روسيا والجمهوريات الأخرى ثلثي الإيرادات التي كان من المفترض أن تذهب إلى الميزانية الفيدرالية، ما حمل وزارة المالية السوفياتية على طباعة 28.4 مليار روبل في عام 1990. وفي الوقت نفسه، تفككت الطبقة السوفياتية الحاكمة إلى جماعات عرقية: بدأت النخب الشيوعية في الجمهوريات المختلفة، على غرار الكازاخيين والليتوانيين والأوكرانيين وغيرهم، تشعر بالانتماء إلى "أممها" أكثر من ارتباطها بالمركز الإمبراطوري. وفاضت النزعة الانفصالية القومية وغلبت من غير مقاومة.

وإذا استعدنا تسلسل الحوادث، بدا تغير الموقف مدهشاً بشكل خاص في حال الروس. ففي الحرب العالمية الثانية، قاموا بمعظم أعباء القتال نيابة عن الاتحاد السوفياتي. واعتبر كثر في الغرب أن الإمبراطورية الشيوعية هي مجرد امتداد لروسيا، ولكن في 1990-1991، تولى عشرات الملايين من الروس، بقيادة بوريس يلتسين هدم الدولة السوفياتية. وكانوا مجموعة متنوعة، تضم مثقفين ليبراليين من موسكو، و"أباراتشيك" [رجال جهاز السلطة] في المقاطعات الروسية، وحتى ضباطاً في الاستخبارات السوفياتية والجيش. وما وحدهم هو رفضهم غورباتشوف وحكمه الفاشل. وبدوره، أدى ضعف الزعيم السوفياتي الملحوظ إلى محاولة انقلاب في أغسطس (آب) 1991. ووضع الانقلابيون غورباتشوف قيد الإقامة الجبرية، وأرسلوا الدبابات إلى موسكو على أمل إحداث صدمة لدى الناس وإجبارهم على الخضوع. وفشلوا على الجبهتين. وهم ترددوا في استخدام القوة الوحشية، وبعثوا احتجاجات جماهيرية على سيطرة الكرملين، ما تبع ذلك كان من قبيل التدمير الذاتي لهياكل القوة في الاتحاد السوفياتي. وأزاح يلتسين غورباتشوف جانباً، وحظر الحزب الشيوعي، وتصرف كحاكم يملك السلطة العليا. وفي 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991، أعلن يلتسين وزعماء بيلاروس وأوكرانيا أن الاتحاد السوفياتي "بناء على القانون الدولي والواقع الجيوسياسي، لم يعد قائماً".

ولولا إعلان يلتسين ربما، لاستمر الاتحاد السوفياتي قائماً. وحتى بعد أن زالت الإمبراطورية عن الوجود رسمياً، بقيت على قيد الحياة لسنوات على هيئة منطقة روبل مشتركة من غير حدود وجمارك. وافتقرت دول ما بعد الاتحاد السوفياتي إلى الاستقلال المالي. وبعد استفتاءات الاستقلال الوطني، ثم الاحتفال بالحرية المستعادة، استغرق الأمر سنوات، في حال عشرات الملايين من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق، خارج روسيا، قبل تطوير هويات ما بعد الإمبراطورية، والتفكير والتصرف على صورة مواطنين بيلاروس وأوكرانيين ومواطني دول جديدة. وعلى هذا، أظهر الاتحاد السوفياتي صموداً فاق هشاشته. ولم يشذ في ذلك عن الإمبراطوريات الأخرى التي استغرق تفككها عقوداً وليس شهوراً.

التعلم من الماضي

وبوتين يعرف هذا التاريخ معرفة عميقة. وهو أعلن ذات مرة أن "زوال الاتحاد السوفياتي كان أعظم كارثة جيوسياسية" في القرن العشرين. وهو بنى نظامه لتجنب المصير هذا. وأقر بأن ماركس ولينين كانا مخطئين في ما يتعلق بالاقتصاد. وعمل بجد لمعرفة كيف يمكن لروسيا البقاء والازدهار في ظل الرأسمالية العالمية. واستخدم اقتصاديين أكفاء، وجعل من بين أولوياته الملحة استقرار الاقتصاد العام ووضع ميزانية متوازنة. وخلال العقد الأول من حكمه، ملأت أسعار النفط المرتفعة خزائن روسيا، وسرعان ما انتهى من سداد الدين البالغ 130 مليار دولار والمستحق على روسيا في البنوك الغربية. وأبقى الديون اللاحقة عند الحد الأدنى. وبدأت حكومته في تكديس الاحتياطي من العملات الأجنبية والذهب. وأثمرت تلك الاحتياطات خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، فوسع روسيا من غير حرج إنقاذ شركاتها الحيوية (الخاضعة لإدارة شركاء بوتين).

غداة ضم بوتين شبه جزيرة القرم في عام 2014، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على النفط الروسي وصناعات أخرى، وانخفضت أسعار النفط بسرعة إلى المستوى الذي سجلته في عهد غورباتشوف، ولكن الحكومة الروسية تصرفت بمهارة. ففي قيادة حاكمة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، ووزير المالية، أنطون سيلوانوف، سمحت الحكومة بتخفيض قيمة الروبل، فاستعادت استقرار الاقتصاد العام. وبعد تراجع قصير، انتعش الاقتصاد الروسي مجدداً. وفي أثناء جائحة كورونا، حافظت البلاد على انضباط مالي صارم. وبينما طبعت الدول الغربية تريليونات الدولارات لدعم اقتصاداتها، زادت روسيا فائض ميزانيتها. ووفق ما قاله ديمتري نيكراسوف، وهو اقتصادي سابق في الدولة الروسية، كان علماء الاقتصاد الحكوميون أكثر من البابا تمسكاً بتطبيق النهج الذي دعا إليه صندوق النقد الدولي. وخلال السنوات العشر الماضية، لم يكن في العالم بلد يتقيد بمثل تلك السياسة المحافظة والمتشددة، المبنية على [أحد] النماذج الليبرالية للاقتصاد الكلي على قدر روسيا. ومع عام 2022، كانت دولة بوتين جمعت أكثر من 600 مليار دولار من الاحتياطات المالية، وهي من أضخم المدخرات في العالم.

لكن بالنسبة إلى بوتين، لم يكن الغرض الأساسي من انتهاج السياسة المالية السليمة تلك كسب الثناء الدولي، أو حتى مساعدة الروس العاديين على الاحتفاظ بمدخراتهم. كان الهدف هو تعزيز قوته. وهو استخدم الاحتياطات المتراكمة من أجل استعادة قوة الدولة الاستبدادية من خلال بناء الدوائر الأمنية، وتوسيع الجيش وقطاع التسليح الروسي، ودفع المال لرئيس الشيشان، رمضان قديروف، وقواته شبه العسكرية (وهي ركيزة أخرى من ركائز ديكتاتورية الكرملين).

عمل بوتين بجد لمعرفة كيف يمكن لروسيا أن تزدهر في ظل الرأسمالية العالمية.    

وعندما قرر بوتين غزو أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام، كان يعتقد أن الاحتياطيات الكبيرة في روسيا ستسمح للبلاد بالنجاة من العقوبات المترتبة على غزوه، ولكن رد الغرب المالي كان أقسى بكثير مما توقع. والصقور المتحمسون والمناهضون لروسيا في الغرب فوجئوا بذلك. وأخرج الغرب وحلفاؤه عدداً من البنوك الروسية الكبرى من نظام "سويفت" SWIFT، الشبكة الدولية لتسوية المدفوعات، وجمدوا 400 مليار دولار من الاحتياطيات الدولية الروسية التي كانت مودعة فعلياً في دول مجموعة السبع. ومنعت واشنطن وحلفاؤها مجموعة من شركات التصنيع من العمل مع الحكومة الروسية أو مع الشركات الروسية، في آن واحد. وبقرار مستقل ومنفرد، انسحب من روسيا أكثر من 700 شركة غربية متخصصة في التصنيع والبيع بالتجزئة، خجلاً من الرأي العام في بلدانها الأصلية. وتوقفت شركات النقل الدولية والمالية الكبرى والوسطاء عن العمل مع الشركات المرتبطة بموسكو. في الحقيقة، لا يشبه فك الارتباط هذا سابقة شهدها العالم منذ حصار ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية.

في الغرب، قوبلت تلك الإجراءات بالابتهاج. وأعلن النقاد أن العملة الروسية ستنهار وأن احتجاجات واسعة النطاق ستنتشر، بل إن بعضهم تكهن بإمكانية إطاحة بوتين. ولم يتحقق أي من تلك السيناريوهات. وفي البداية، انهار الروبل، بيد أن نابيولينا وسيلوانوف تصرفا بسرعة لإنقاذه. فعلقت الدولة الروسية حرية تحويل العملة، وأصدرت مرسوماً يقضي ببيع 80 في المئة من عائدات نفط الشركات الروسية والمصدرين الآخرين (بما في ذلك الإيرادات بالدولار) إلى البنك المركزي. وإلى ذلك، منعت الدولة المواطنين الروس من تحويل أكثر من عشرة آلاف دولار شهرياً إلى الخارج، فقمعت فورة الذعر الداعية إلى تحويل الروبل إلى الدولار. وعادت العملة الروسية في النهاية إلى مستويات ما قبل الغزو. ولو استعان غورباتشوف بخبرة مماثلة، ربما كان الاتحاد السوفياتي نجا بجلده.

في غضون ذلك، يتعلم رواد الأعمال في روسيا التكيف مع واقعهم الجديد. أغلقت أبواب أمامية كثيرة يملكها الاقتصاد الدولي. ورجال الأعمال الروس، بمن فيهم أولئك الذين يشرفون على صناعة الأسلحة، يعرفون كيفية استخدام الأبواب الخلفية للعثور على ما يحتاجون إليه. ولا تزال الشركات الروسية تتمتع بإمكان الوصول القانوني إلى عدد من الاقتصادات الرئيسة، بما في ذلك اقتصادات الصين والهند، اللتين ما زالتا على استعداد للاتجار مع روسيا. ولا يوجد سبب اقتصادي يمنعهم من ذلك، إذ إن قيمة الروبل تجعل من المربح شراء الطاقة الروسية والمواد الأخرى بسعر مخفض. ويمكن للحكومة الروسية بعد ذلك فرض ضرائب على تلك الأرباح، ثم فرض تحويلها إلى الروبل، ما يحافظ على السيولة المالية للدولة. إذن، على المدى القصير، من غير المرجح أن تؤدي العقوبات القاسية التي يفرضها الغرب إلى انهيار الروبل وإجبار الكرملين على الانصياع.

فرق تسد

قد لا تغير العقوبات الغربية تفكير موسكو، لكنها تضر بشكل لا لبس فيه بأجزاء من سكان روسيا: على وجه التحديد، النخبة في البلاد والطبقة الوسطى الحضرية. وقد ألغت الحكومات والجامعات والمؤسسات الأخرى حول العالم آلاف المشاريع العلمية والأكاديمية مع الباحثين الروس. والخدمات التي أصبحت جزءاً من حياة ذوي الياقات البيض الروس، من "فيسبوك" إلى "نتفليكس"، و"زوم"، اختفت فجأة. ولا يمكن للروس ترقية أجهزة "ماك بوك" MacBook أو "آي فون" iPhone الخاصة بهم. كذلك، أصبح من الصعب جداً عليهم الحصول على تأشيرات لدخول المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وإذا نجحوا في الحصول عليها، فلا رحلات جوية مباشرة أو قطارات يمكنها أن تنقلهم إلى هناك. وعلاوة على ذلك، لم يعد في مستطاعهم استخدام بطاقات الائتمان الخاصة بهم في الخارج، أو دفع ثمن السلع والخدمات الأجنبية. بالنسبة إلى الكوزموبوليتانيين في البلاد، فالغزو ضيق الخناق على الكوزموبوليتانيين المحليين.

وقد يبدو هذا نذير بالسوء لبوتين. فخلال الأزمة السياسية السوفياتية بين 1990 و1991، لعب أفراد الطبقة الوسطى والعليا دوراً كبيراً في انهيار الدولة. واحتشد مئات الآلاف من السوفيات المتعلمين في الساحات الرئيسة في موسكو وسانت بطرسبورغ، مطالبين بالتغيير. وبعد الانتخابات التي أجريت في عام 1990، استحوذت على السلطة نخبة روسية جديدة، اعتنقت القومية، وجابهت الحرس السوفياتي القديم. وتعاون منتجو المعرفة والمثقفون في البلاد مع تلك النخبة الجديدة على إسقاط الإمبراطورية.

وتقبل غورباتشوف مثل هذا النشاط السياسي، ويصح القول إنه شجعه. على خلافه، بوتين لم يفعل، فلم يسمح للمعارضين بالمنافسة في الانتخابات، وتصدى لظهور أي مواطن روسي قد يهدده. وأخيراً، سمم ثم اعتقل زعيم المعارضة أليكسي نافالني، في أغسطس (آب) 2021. ولم تسر تظاهرات ضد الحرب على النطاق الذي سمح به غورباتشوف. ويرجع الفضل في ذلك، إلى حد كبير، إلى فاعلية أجهزة الأمن الروسية التي تعمل بلا رحمة. ورجال أجهزة دولة بوتين البوليسية يملكون القوة والمهارات لقمع احتجاجات في الشوارع، ولا يتورعون عن أعمال التخويف والاعتقالات والعقوبات المتنوعة الأخرى، مثل الغرامات الباهظة. وعلى نحو مماثل، تنشط الدولة الروسية بقوة للسيطرة على عقول الناس. وفي الأيام الأولى للغزو، أقر المجلس التشريعي الروسي قوانين تجرم المناقشة المفتوحة، ونشر المعلومات عن الحرب. وأجبرت الحكومة وسائل الإعلام المستقلة في البلاد على الإغلاق.

 

 

بيد أن هذه ليست سوى الأدوات البارزة في نظام سيطرة بوتين. وعلى غرار عدد من المستبدين الآخرين، تعلم الرئيس الروسي أيضاً استغلال عدم المساواة الاقتصادية لإنشاء قاعدة دعم متينة، مستفيداً من الفروق بين ما تسميه العالمة الروسية ناتاليا زوباريفيتش "أربع دويلات روسية". دويلة روسيا الأولى هي سكان المدن الكبيرة. ويعمل كثيرون منهم في اقتصاد ما بعد الصناعة، ويرتبطون ثقافياً بالغرب. وهم مصدر معظم معارضة بوتين، وقد نظموا احتجاجات ضد الرئيس من قبل، لكنهم لا يشكلون سوى خمس السكان، بحسب تقدير زوباريفيتش. وفي المقابل، سكان الدويلات الثلاث الأخرى هم من سكان المدن الصناعية الأفقر، ويحنون إلى الماضي السوفياتي، والذين يعيشون في البلدات الريفية المتردية الحال، ومن غير الروس المتعددي الأعراق في شمال القوقاز (بما في ذلك الشيشان) وجنوب سيبيريا. وسكان الدويلات الثلاث يدعمون بوتين في أغلبيتهم الساحقة لأنهم يعتمدون على إعانات الدولة، ويلتزمون القيم التقليدية عندما يتعلق الأمر بالتسلسل الهرمي، والدين، والنظرة إلى العالم، أي ما يعود إلى المواقف الثقافية التي دافع عنها بوتين في بروباغندا الكرملين الإمبريالية والقومية ونشطت على نحو مفرط منذ بدء غزو أوكرانيا.

إذن، لا يحتاج بوتين إلى الانخراط في قمع جماعي ليحافظ على زمام القيادة. فمع الاعتراف بأن معارضة الدولة لا جدوى منها على ما يبدو، فر عدد من أهل روسيا الأولى، الذين سئموا بوتين، من البلاد. وهذا أمر يؤيده الرئيس الروسي علناً. وصرح بأن مغادرتهم تعتبر "تطهيراً ذاتياً طبيعياً" وضرورياً للمجتمع [الروسي] من "الطابور الخامس" الموالي للغرب. وإلى اليوم، لم يؤثر الغزو أثراً يقوض تأييد بوتين في الدويلات الثلاث الأخرى، ومعظم تلك الجماعات لا يشعرون بالارتباط بالاقتصاد العالمي، بالتالي، فهم لا يضيق عليهم حرمان الغرب روسيا ما تحرمها إياه العقوبات والحظر. وللحفاظ على تأييد هذه الجماعات، في وسع بوتين الاستمرار على دعم بعض المناطق، وضخ المليارات في مشاريع البنية التحتية والبناء في مناطق أخرى.

ويسعه مناشدة مشاعرهم المحافظة والحنين إلى الماضي. وهو ما لم يستطع غورباتشوف فعله أبداً. والحق أن تاريخ روسيا المضطرب حمل معظم شعبها على الرغبة في قائد قوي وتعزيز الدولة، بدلاً من الديمقراطية، والحقوق المدنية، وتقرير المصير الوطني. وغورباتشوف لم يكن رجلاً قوياً. وما كان يحرك الزعيم السوفياتي هو رؤية مثالية سامية، ورفض استخدام القوة للحفاظ على الإمبراطورية فحشد أكثر المجموعات تقدمية في المجتمع الروسي، وبخاصة المثقفين والمهنيين الحضريين، في سبيل مساعدته على إخراج الاتحاد السوفياتي من عزلته، وركوده، وممارساته المحافظة الراسخة. وعليه، دعم بقية روسيا وأجبر على التنحي عن منصبه، تاركاً وراءه اقتصاداً مأزوماً وعدم انتماء وفوضى ورغبة في الانفصال. فانخفض متوسط ​​العمر المتوقع للروس من 69 عاماً في عام 1990 إلى 64.5 عام في عام 1994. وتراجع هذا المتوسط بين الذكور، من 64 عاماً إلى 58 عاماً. وانخفض عدد سكان روسيا، وواجهت البلاد نقصاً في الغذاء. فلا عجب في أن يريد روس كثيرون رجلاً قوياً مثل بوتين، وعدهم بحمايتهم من عالم معاد واستعادة الإمبراطورية الروسية. وفي الأسابيع التي أعقبت غزو أوكرانيا، كان رد فعل الشعب الروسي التلقائي الالتفاف حول القيصر، عوض اتهامه بالعدوان غير المبرر.

تحت الضغط

ولا شيء من هذا يعد الغربيين الذين يريدون سقوط نظام بوتين بالخير، أو يزف إلى الأوكرانيين الذين يقاتلون في سبيل هزيمة الآلة العسكرية الروسية بشرى فأل، ولكن على الرغم من أن انهيار الاتحاد السوفياتي لا يرسم صورة عن مستقبل روسيا، فإن هذا لا يعني أن إجراءات الغرب لن يكون لها أي تأثير في مستقبل البلاد. وهناك إجماع بين الاقتصاديين الغربيين والروس البارزين على أن العقوبات ستؤدي على المدى الطويل، إلى انكماش الاقتصاد الروسي، وتفشي الاضطرابات في سلاسل التوريد. ويعتبر قطاعا النقل والاتصالات في البلاد عرضة للخطر بشكل خاص، فطائرات الركاب الروسية، وأسرع قطاراتها، ومعظم سياراتها، تصنع في الغرب. وهم الآن معزولون عن الشركات التي تحسن صيانتها. والإحصاءات الحكومية الرسمية نفسها تشير إلى أن تجميع (تركيب) السيارات الجديدة في روسيا انخفض بشكل حاد، ولو جزئياً، لأن المصانع الروسية محرومة من القطع الأجنبية. وقد يستمر اليوم المجمع الصناعي العسكري الروسي في العمل من دون عوائق، لكنه سيواجه نقصاً في النهاية. وفي الأمس، استمرت الشركات الغربية على إمداد مصنعي الأسلحة الروس، حتى بعد ضمها شبه جزيرة القرم، ولكنها لن تفعل اليوم، لأسباب أخلاقية لا غير، ما فعلته من قبل.

وأفلت قطاع الطاقة الروسي إلى حد كبير من العقوبات، ويكسب مع ارتفاع الأسعار أموالاً من الصادرات أكثر مما كان يجني قبل الحرب. وفي نهاية المطاف لن يتجنب إنتاج الطاقة الانكماش، وسيحتاج القطاع إلى قطع غيار، وتحديثات تكنولوجية لا يمكن أن يقدمها إلا الغرب على الوجه المطلوب، واعترفت السلطات الروسية، في هذا الشأن، بأن إنتاج النفط في البلاد انخفض بنسبة 7.5 في المئة في مارس (آذار) وقد ينخفض ​​إلى مستويات لم تشهد منذ عام 2003. ومن المرجح أن يصبح بيع الطاقة مشكلة، بخاصة إذا كان في إمكان الاتحاد الأوروبي أن يفطم نفسه عن النفط والغاز الروسيين.

بيد أن بوتين ينفي حدوث ذلك. وفي اجتماع مع رؤساء شركات الطاقة، وصف العقوبات الغربية بـ"الفوضوية". وقال إنها ستضر بالاقتصادات الغربية والمستهلكين أكثر من أضرارها بالروس بسبب التضخم، بل إنه تحدث عن "انتحار (أوروبا) الاقتصادي"، ووعد باستباق إجراءات الغرب المعادية. وأقنع نفسه بأن الغرب لم يعد يحتل صدارة الاقتصاد العالمي، نظراً إلى تعدد الأقطاب المطرد في العالم. وهو لا ينفرد بهذا التفكير. فالاقتصاديون الروس الذين يعارضون بوتين مقتنعون بأنه طالما أن الوضع المالي للبلاد مستقر، فبقية العالم، وبعض الشركات الغربية والتجار والوسطاء كذلك، سيخاطرون بانتهاك العقوبات، وعقد صفقات تجارية مع روسيا. ومع تداعي الاقتصاد العالمي تحت وطأة الحرب، وتلاشي صدمة الغزو، يعتقد هؤلاء أن علاقة روسيا بالعالم ستعود إلى طبيعتها، تماماً على نحو ما جرى بعد عام 2014.

لن يؤدي انخفاض أرباح الطاقة إلى تقويض قدرة نظام بوتين على الصمود.

وعلى الناحية المقابلة، يبدو أن الغرب مصمم على الاستمرار على سياسته. وقبل يوم واحد من احتفال بوتين بيوم النصر، أصدر قادة مجموعة الدول السبع إعلاناً بدعم أوكرانيا اعترفوا فيه بالبلد كحليف للغرب، وتعهدوا تقديم الدعم المالي له، وتزويده بالأسلحة بشكل ثابت، وتوفير الوصول إلى استخبارات "الناتو"، واستمرار الضغط الاقتصادي على روسيا على نحو حاسم. والجزء الأهم في الإعلان التصريح بالعمل على "عزل روسيا في جميع قطاعات اقتصادها". وهذا يترجم ما وصفته أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بأهداف الاتحاد الأوروبي، وأولها "منع البنوك الروسية من العمل في جميع أنحاء العالم"، و"منع الصادرات والواردات الروسية بشكل فعال"، و"جعل تصفية الأصول أمراً مستحيلاً على البنك المركزي [الروسي]".

لن يكون من السهل الحفاظ على هذا المستوى من الوحدة أو توسيع الضغط ليشمل مزيداً من القطاعات الروسية، على غرار فرض حظر الاتحاد الأوروبي على النفط والغاز الروسيين. وتدرك دول كثيرة، بما في ذلك المجر (التي لا يزال رئيس وزرائها، فيكتور أوربان، أحد أصدقاء بوتين القلائل في أوروبا) وكذلك ألمانيا وإيطاليا، أن فرض حظر على الطاقة يوجه ضربة قاسية لاقتصاداتها. وإذا فرضت أوروبا حظراً على الطاقة، فلن يؤدي ذلك إلى أزمة فورية في روسيا. والحق أن الاتحاد السوفياتي شهد انخفاضاً حاداً في عائدات النفط في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ولم يكن هذا ما أدى إلى إفلاس البلاد، بل فقدان غورباتشوف السيطرة على البنك المركزي والروبل والآليات المالية للدولة. فطالما احتفظ بوتين بالسلطة على تلك الأصول واتبع النصائح المهنية، فإن انخفاض أرباح الطاقة لن يقوض قدرة نظامه على الصمود.

ولكن إذا كان الغرب جاداً في شأن إيقاف بوتين، فسيتعين عليه محاولة مواصلة الضغط على أي حال. وكلما طالت مدة العقوبات واشتدت قسوتها، ستقوم الجهات الفاعلة الأخرى في الاقتصاد العالمي بتنفيذ النظام الاقتصادي الغربي المناهض لروسيا وستتبناه بشكل أكبر، وتزداد مخاوف الدول والشركات خارج الغرب من العقوبات الثانوية. وبعض الشركات قد تقلق على سمعتها. وقد علقت شركة الاتصالات الصينية العملاقة "هواوي" بالفعل العقود الجديدة مع روسيا. وفي المقابل، تتعرض الشركات الهندية التي أعلنت استعدادها لشراء النفط الروسي بحسم 30 في المئة، لضغوط شديدة لكي تتراجع.

وإذا دام نظام العقوبات وارتدى صفة مؤسسية، قد ينجح الغرب في تقويض نظام بوتين. وفي نهاية المطاف، لن يستطيع الاقتصاديون الموهوبون في موسكو حماية البلاد من التأثيرات المدمرة على الاقتصاد الكلي. وعلى الرغم من تريليونات الدولارات من الاستثمارات في البنية التحتية، وغيرها من تدابير التحفيز، لن تتمكن الدولة الروسية من التغلب على آثار الإقصاء، في ظل تعاظم أكلاف تلك المشاريع، وخصوصاً مع الفساد المصاحب. ومن دون الدراية التي يؤمنها الأجانب، ستعود كفاءة إنتاج البضائع الروسية وجودتها إلى ما كانت عليه في أوائل التسعينيات. ولسوف يراود الدويلات الثلاث الأخرى الروسية، وسكانها يعتمدون على الدولة في معاشهم، شعور حاد بضعف بلادهم وعزلتها المتزايدة في صورة لا يشعرون بها اليوم. وقد يصعب على الناس تحصيل لقمة العيش. وهذا من شأنه أن يقوض بشكل خطير رواية بوتين: الزعيم المختار والقادر على تشييد "روسيا عظيمة وسيدة"، وناهضة من عثرتها في عهده.

وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى إضعاف الدولة الروسية إلى حد خطير. وقد تتعاظم النزعة الانفصالية أو تُبعث في بعض المناطق، مثل الشيشان، إذا توقف الكرملين عن تسديد فواتير سكانها، وتتصاعد التوترات بشكل عام بين موسكو، حيث تجمع الأموال، والمدن والمناطق الصناعية التي تعتمد على الواردات والصادرات. ومن المرجح أن يحدث ذلك في المناطق المنتجة للنفط في شرق سيبيريا ووسط الفولغا، التي قد تجد نفسها مجبرة على إعطاء الكرملين حصصاً أكبر من الأرباح المتقلصة.

إن روسيا، في حال ضعف شديد، ليس مصيرها المحتوم أن تعاني التفكك على غرار الاتحاد السوفياتي. وخلافاً لما كان عليه الحال في الاتحاد السوفياتي، لا تمثل النزعة الانفصالية القومية تهديداً كبيراً لروسيا الحالية، حيث يعتبر ما يقرب من 80 في المئة من مواطني الدولة أنفسهم روساً أصيلين. وفي مقدور المؤسسات القمعية القوية في موسكو ضمان ألا تشهد روسيا تغييراً في النظام، أو ليس صنف تغيير النظام الذي حدث في عام 1991. وعلى الأرجح، ولو انقلب الروس ضد الحرب، فهم لن يقوموا بثورة أخرى تدمر دولتهم.

وعلى الغرب، على الرغم من ذلك، أن يكمل هذا المسار. وسوف تستنزف العقوبات صندوق تمويل الحرب الروسي تدريجياً، وتشل قدرة الدولة على القتال. ومع النكسات المتزايدة في ساحة المعركة، قد يوافق الكرملين على هدنة غير سهلة. وفي الوقت نفسه على الغرب أن يظل واقعياً. فلا يمكن لأحد أن يصدق أنه في عام 1991 لم تكن هناك بدائل للانهيار السوفياتي، غير أنصار "مبدأ" الحتمية المتشددين. وكان المسار الأكثر احتمالاً هو دوام استبداد الدولة السوفياتية، جنباً إلى جنب تحرير السوق الراديكالي، والازدهار لمجموعات مختارة، على غرار الطريق الذي سلكته الصين تقريباً. وعلى نحو يتحتم على الغرب أن يتوقع سقوط روسيا الضعيفة. وفي الأثناء قد يتعين على أوكرانيا والغرب التعايش مع دولة روسية ضعيفة ذليلة، ومقيمة على استبدادها. وعليه، ينبغي لصانعي السياسة الغربيين الاستعداد لهذا الاحتمال عوضاً عن الحلم بانهيار موسكو.

*فلاديسلاف زوبوك أستاذ التاريخ الدولي بكلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب "الانهيار: سقوط الاتحاد السوفياتي".

مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز)/ أغسطس (آب)، 2022

المزيد من تحلیل