فاجأ الرئيس المكلف تأليف الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي الوسط السياسي وسائر المراجع السياسية بسرعة تقديمه لمسودة تشكيلة حكومية إلى رئيس الجمهورية ميشال عون صباح الأربعاء 29 يونيو (حزيران)، ولم تكن قد مضت 16 ساعة على انتهاء استشاراته النيابية غير الملزمة مع سائر الكتل النيابية من أجل جوجلة تشكيلته الحكومية، تاركاً له أن يدرسها ويدلي برأيه فيها. ولم يمنع ذلك المراقبين من توقع رفضها من جانب عون، إذ إنه أبلغ ميقاتي أنه سيدرسها، وسربت المصادر الرئاسية بأن لا صحة للتوقعات بأنه رفضها، بل هو وعد بمراجعتها تمهيداً لإبداء الرأي فيها. وكالعادة، ذهبت التكهنات إلى القول إن عون سيستأنس برأي صهره جبران باسيل قبل أن يعترض على الاقتراحات التي تضمنتها، من تبديل في بعض الحقائب والأسماء. لكن وسائل الإعلام رصدت هجوماً من مناصري "التيار الوطني الحر" ضد ميقاتي على مواقع التواصل الاجتماعي.
السرعة على غير عادة
ومع أن المسودة التي تقدم ميقاتي بها لم تغير في حكومته السابقة من 24 وزيراً، والتي تتولى تصريف الأعمال منذ 22 مايو (أيار) الماضي مع بدء ولاية البرلمان اللبناني المنتخب، سوى بأسماء أربعة وزراء مع تبديل بأربع حقائب فقط، جاء وضع ميقاتي لائحة بأسماء وزراء الحكومة بهذه السرعة مفاجئاً لأسباب عدة، أبرزها أنها المرة الأولى منذ سنوات التي يقدم فيها الرئيس المكلف على عرض مشروع حكومته بعد خمسة أيام على إعادة تكليفه. فاللبنانيون اعتادوا على التأخير والتمهل في استيلاد حكوماتهم نتيجة التعقيدات والمناورات والمطالب التوزيرية، التي كانت تسبب كثيراً من المداولات التي تسبق إيجاد المخارج للشروط والشروط المضادة التي كان يتبادلها الفرقاء، ولا سيما الفريق الرئاسي العوني ورئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل ورئيس الحكومة المكلف وسائر الفرقاء المعنيين بتمثيلهم في الحكومة. ومن عادة رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا منذ بداية عهد الرئيس عون (2016)، أي الرئيس سعد الحريري الذي شكل حكومتين، حسان دياب، السفير مصطفى أديب (اعتذر من دون التأليف)، ثم الحريري مرة أخرى قبل أن يعتذر، ثم ميقاتي، أن يعقدوا اجتماعات عدة معه لتذليل العقبات من أمام التأليف، قبل أن يتقدموا بأكثر من تشكيلة حكومية.
تغيير في الطاقة والاقتصاد والمالية والمهجرين
وأبقى ميقاتي على هيكل حكومة "معاً للإنقاذ" التي كان شكلها في سبتمبر (أيلول) 2021 بعد مرور زهاء شهرين على تكليفه في 26 يوليو (تموز) 2021، قائماً، وعدل في حقيبة الطاقة والمياه فاستبعد الوزير الحالي وليد فياض (عن أحد مقاعد الروم الأرثوذكس) ليقترح بدلاً منه الدكتور وليد سنو، الذي يشغل حالياً منصب المدير التنفيذي في مجموعة "دلتا أويل" الاستثمارية وكان سابقاً خبيراً في البنك الدولي في مجال الطاقة، التي هي سبب رئيس للأزمة الاقتصادية المالية غير المسبوقة التي يمر فيها البلد، سواء من ناحية الكلفة العالية التي رتبتها على الخزينة، أو من ناحية التقنين القاسي في التيار الكهربائي مع انقطاعه الكامل أحياناً في السنوات الماضية، مع ما سببه ذلك من ارتفاع قياسي في أسعار التغذية من قبل المولدات التجارية، بفعل ارتفاع أسعار المازوت عالمياً، وجراء جنون سعر الدولار الأميركي.
ومن الوزارات التي جرى فيها التبديل هي الاقتصاد، حيث نقلت تشكيلة ميقاتي الحقيبة من الوزير الحالي عن أحد المقاعد المخصصة للسنة أمين سلام، الذي يؤخذ عليه عدم فعاليته إزاء الأزمات المعيشية المتعلقة بمشكلة تأمين الطحين للأفران، إلى وزير الأرمن الأرثوذكس جورج بوشيكيان الذي كان يتولى حقيبة الصناعة، ليحل مكانه في هذه الحقيبة الصناعي والمصرفي وليد عساف، عن أحد المقعدين الدرزيين، بالاستغناء عن خدمات وزير المهجرين عصام شرف الدين الذي كان محسوباً على النائب طلال أرسلان بعد سقوط الأخير في الانتخابات النيابية، ليتولى الحقيبة النائب الشمالي الجديد عن عكار، الأرثوذكسي سجيع عطية الذي مثل الطائفة بدلاً من الوزير فياض، بعد تولي الوزير الدرزي الثاني عساف، حقيبة الصناعة بدلاً من المهجرين. وهذان التبديلان يعودان إلى أسباب تتعلق بالوقائع السياسية التي أفرزتها الانتخابات ولضرورة التعاطي بصدقية مع نتائجها. والتبديل في وزارة المالية فقضى باعتماد اسم النائب والوزير السابق ياسين جابر عن أحد المقاعد الشيعية بدلاً من الوزير الحالي يوسف الخليل الذي رغب بأن يتولى المهمة غيره لأسباب شخصية ولانشغالاته في أمور أخرى. وجابر مطلع على دقائق الوضع المالي والاقتصادي وكان مشرعاً نشطاً في هذه المجالات في دورات نيابية عدة، قبل أن يعزف عن خوض الانتخابات الأخيرة. كما أن بقاء حقيبة المال في يد الشيعة ترضي "الثنائي الشيعي"، الذي يرفض التخلي عنها.
وزارة الطاقة العقدة الأبرز
لم تمس التبديلات مواقع الوزارات التي يشغلها الوزراء الموارنة، والذين سبق أن سمى أكثريتهم الرئيس عون و"التيار الحر".
أما التبديل في حقيبة الطاقة التي يتولاها منذ عام 2009 وزراء من "التيار الحر"، أو من يسميهم، فقد حصل نتيجة الخلاف الذي حصل بين فياض وميقاتي في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء في 20 مايو الماضي، قبل يوم من أن تصبح الحكومة مستقيلة، حين سحب الأول عن جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء بندين يتعلقان بموضوع الكهرباء بناء على طلب الرئيس عون والنائب باسيل. الأول يتعلق بإقرار عقد مع شركة كهرباء فرنسا كي تضع دفتر الشروط لتلزيم بناء معملين للكهرباء في دير عمار (الشمال) والزهراني (الجنوب) لإنتاج أكثر من 1800 ميغاواط من الطاقة، بناء لعرض أولي تقدمت به شركتا "جنرال إلكتريك" و"سيمنز"، والثاني تأمين محطة تغويز لاستخدام الغاز في توليد الطاقة... وحصل في حينها سجال علني بين ميقاتي وفياض وردود متبادلة، فنفى ما قاله ميقاتي الذي رد متحدياً الوزير لكشف من طلب منه سحب البندين من جدول الأعمال. ولم يخفِ بأن موقفه جاء بإيعاز من باسيل لأن عرض الشركتين لا يشمل إقامة معمل الكهرباء في منطقته الانتخابية، سلعاتا - البترون. وأكدت مصادر مقربة من ميقاتي أنه على الرغم من أن سحب حقيبة الطاقة من الفريق الرئاسي و"التيار الحر" سيكون نقطة الاعتراض الأساسية لعون على تشكيلة رئيس الحكومة الوزارية، فإن الأخير لم يكن ممكناً لا دستورياً ولا سياسياً ولا منطقياً، أن يقبل ببقاء الوزير فياض الذي جيء به باعتباره مستقلاً ومختصاً، فإذا به يصعّد الخلاف معه علناً، ولو أنه قيل في حينها أن بيانات الرد على ميقاتي التي صدرت باسمه كُتبت من قبل قياديين في "التيار الحر" وليس من قبله، وأذيعت فتبناها.
انتقادات "التيار" لتشكيلة ميقاتي
وفي وقت صرح المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة بأن "تقديم التشكيلة حصل لكي تكون أمام فخامة الرئيس لإبداء الرأي، وليس صحيحاً أنه قدمها لفخامته من منطلق الفرض أو عدم الرغبة بتشكيل الحكومة"، فإن هذا جاء رداً على تسريبات من مصادر "التيار الحر" بأنه اقترحها على عون كي لا يتم قبولها وأن الأخير لن يرفضها بل سيطرح عليه أسئلة عن معايير التبديلات الطائفية في بعض الحقائب، قاصدة نزع وزارة الطاقة من التيار. ولا يستبعد مصدر مقرب من ميقاتي في هذا المجال أن يسعى باسيل إلى نسفها لهذا السبب وغيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وليلاً، جرى تسريب نص التشكيلة التي قدمها ميقاتي، فنفى القصر الرئاسي بأنه وراء هذا التسريب.
وقال النائب في "التيار الحر" عضو "تكتل لبنان القوي" سيمون أبي رميا، "فوجئنا صباحاً بأن الرئيس أعطى تشكيلة وزارية للرئيس عون مع تبديل ببعض الحقائب والأسماء".
ومع أن باسيل كان أعلن أن تياره لن يشارك في الحكومة اعتبر أبي رميا أن الحكومة "في حال كانت سياسية يجب أن تعكس التمثيل السياسي النيابي الذي أتى نتيجة انتخابات ديمقراطية من دون أن تكون أي حقيبة وزارية حكراً على طائفة أو جهة سياسية". وعكس بهذا الموقف رفض فريقه نزع الطاقة من وزير مسيحي وإسنادها إلى سني، فيما استبدل بوزير الاقتصاد السني أرمنياً، بدلاً من وزير من الطائفة الأرثوذكسية، وبقيت وزارة المال لشيعي، بينما يطالب "التيار" بالمداورة الكاملة في الحقائب الوزارية بين الطوائف.
وذكّر أبي رميا بأن الحكومة تُشكل بالتوافق بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، بما يعني أنها تولد بتوقيع الرئيسين.
لكن زميله في التيار كان أكثر وضوحاً في إيحاءاته حين غرد ليلاً على "تويتر" بأن "تشكيلة الرئيس ميقاتي هي كناية عن تعديل وزاري، ما يعني أن تصوره للحكومة غير قادر على إحداث فرق، فهل قدمها لقطع الطريق على التشكيل في انتظار الانتخابات الرئاسية المقبلة"؟
الإسراع يقطع الطريق على تكاثر الشروط؟
في المقابل يؤكد المصدر المقرب من رئيس الحكومة أنه "أسرع في تقديم تشكيلته قبل أن تتكاثر الشروط عليه، خصوصاً أنه سبق لباسيل أن طرح بعضها في مواقفه المعلنة ومنها إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وتغيير طائفة وزير المال ويريد احتفاظ فريقه بحقيبة الطاقة. كما أن ميقاتي أقدم فور انتهاء الاستشارات على طرح تشكيلته ليؤكد أن الدستور أناط به التأليف ومن ثم يتفق مع رئيس الجمهورية". وقال المصدر القريب من ميقاتي لـ"اندبندنت عربية" إن "التمهل في التأليف يعزز إمكانية عدم التوافق. والإبقاء على هيكل الحكومة المستقيلة يعود إلى أن لا وقت للأخذ والرد، وأن مهلة الأربعة أشهر الباقية من ولاية هذه الحكومة بالتزامن مع انتهاء العهد الرئاسي، لا تتيح الإتيان بوزراء جدد في كل الحقائب، لأن هؤلاء سيحتاجون إلى وقت ليتعرفوا إلى الملفات، والوقت عنصر داهم. أما بالنسبة إلى وزارة الطاقة فعلينا أن نبدأ بنفس جديد وتم اقتراح شخص له مقامه في هذا المجال وقادر على تلبية ما هو مطلوب أمام المجتمع الدولي واللبنانيين"، قاصداً بذلك الحؤول دون ربط الفريق الرئاسي خطة تأهيل الكهرباء بمطالب فئوية، وبعرقلته تنفيذ أحد المطالب الأساسية للدول المانحة، أي تشكيل هيئة ناظمة مستقلة للقطاع من المختصين، حتى تبقى صلاحيات إدارته في يد الوزير.