Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عيد الموتى" رباعية البولندي ميكييفتش توقظ العداء ضد الروس بعد قرنين

مسرح يمزج بين السياسة والمقابر والإيمان والغضب في لغة شاعرية واحدة

آدم ميكييفتش (غيتي)

في عام 1822 حين أنجز شاعر البولنديين الأكبر آدم ميكييفتش الفصول الأولى من رباعيته الشعرية المسرحية الكبرى "عيد الموتى"، هل تراه كان يتصور أن تلك القصائد الممسرحة التي كتبها طوال سنوات في بلده كما في منافيه العديدة، سينظر إليها قراؤه بعد قرنين من الزمن، يوماً بيوم، باعتبارها العمل الإبداعي الوطني بامتياز. وليس بالنسبة إلى بولندا فحسب بل كذلك بالنسبة إلى ليتوانيا وغيرها من دول البلطيق، وصولاً إلى أوكرانيا وحتى بيلاروس، وباختصار في مواجهة العملاق الروسي الذي دائماً ما اعتبر المعتدي بامتياز في تلك المنطقة من العالم، تماماً كما هي حاله اليوم؟ هل كان ذلك الشاعر الكبير الذي عاش أقل من ستين عاماً لم يطأ في معظمها تربة وطنه (بولندا)، ولا تربة الأرض التي أنجبته (ليتوانيا) يفكر أن شعوب تلك المناطق ستتذكر تلك الرباعية لمناسبة وطنية تجمعها في وجه سادة روسيا؟ من المؤكد أن الجواب عن السؤالين واحد: أبداً! فميكييفتش كان كغيره من مناضلي تلك المرحلة الحالمين، يعتقد أن زمن الخضوع لهيمنة الجغرافيا لن يطول وأن يوماً سيأتي سيعم فيه الوئام بين شعوب يجمعها إيمانها بقيم إنسانية تحكمها، لكن هذا لم يحصل كما نعرف.

بعد انتظار طويل

من هنا، تتجدد الحاجة اليوم إلى التذكير بهذا العمل المسرحي الشاعري الكبير الذي لم يكتب ميكييفتش، المعتبر بطلاً قومياً في بلاده حتى وإن كان قد عاش معظم سنواته في فرنسا، لم يكتب سوى مسرحيتين أخريين لا تصل أي منهما إلى المستوى الذي بلغته مسرحية "عيد الموتى" أو "يوم الأسلاف" التي توزع ميكييفتش على كتابتها طوال سنوات عديدة (1822- 1832) بادئاً من القسم الثاني واصلاً بعد ذلك إلى القسمين الرابع ثم الثالث تباعاً ليعود إلى القسم الأول، ولكن بعد نشر تلك الأقسام الثلاثة الأولى من دون أن يتمكن من نشر البداية، فلا تُنشر إلا بعد عقود من رحيله. بالتالي، بالكاد تعرف المتفرجون وحتى القراء على البداية طوال سنوات وسنوات. علماً بأن العمل ككل لم يقدم مكتملاً في مدينة كراكوفيا إلا في عام 1901 بعد أن أكمله ستانيسلاف فيسبيانيسكي بعد نحو نصف قرن من رحيل صاحب العمل الأصلي. ونعرف أن العمل الذي شاب الحذر تقديمه طوال سنوات الهيمنة السوفياتية على بولندا، لم يعد إلى الحياة إلا خلال الربع الأخير من القرن العشرين، فيما كانت النضالات البولندية تتراكم للتحرر من الربقة الستالينية.

الميتافيزيقا المحظورة

والحقيقة أن ذلك الحذر لا يعود إلى كون العرض المسرحي يغمز، بوضوح يزيد أو يقل، من قناة الجارة الروسية، والسوفياتية في الأزمان اللاحقة، فحسب، بل إلى كون الأشعار والحوارات والأغنيات والمواقف تتسم بطابع ميتافيزيقي وروحي وديني حتى، تبدى دائماً غير مستساغ أيام هيمنة الستالينية وفكرها المادي. واليوم، لئن كان من شأن هذا العمل أن يستعاد لمناسبة الأحداث التي تعصف بتلك المنطقة من العالم، ولا سيما بين سادة الكرملين ومجموعة البلدان المعنية بالموضوع، من المؤكد أن الجانب الميتافيزيقي، المسيطر بخاصة على القسم الثالث من الرباعية حيث المجابهة العنيفة بين العناية الإلهية والبطل كونراد الذي يتهمها بالتخلي عن شعبه، هذا القسم لا يبدو مهماً قدر أهمية البعد السياسي- التاريخي للعمل وهو البعد الذي كان الأكثر أهمية بالنسبة إلى ميكييفتش (1798 - 1855) حين شرع يكتب الرباعية ضمن إطار نضاله السياسي ضد الهيمنة الروسية على بلاده كما على مناطق أخرى من المنطقة نفسها. وهو نضال قاده كما تقول سيرته إلى أن يقع في قبضة الشرطة الروسية التي سجنته ثم نفته إلى روسيا حيث عاش ما لا يقل عن أربع سنوات ارتبط خلالها بصداقات مع كثر من المبدعين الروس ومن بينهم ألكسندر بوشكين. وعلى الرغم مما سيقوله ميكييفتش من أن سنواته الروسية كانت ممتعة ومثمرة فإنه ظل يحن إلى البعيد. وهكذا حين سمحت له السلطات الروسية بالسفر، قام بجولة في عواصم أوروبية عديدة وتعرف خلال وجوده في إيطاليا إلى الكاتب الأميركي جيمس فينيمور كوبر الذي شجعه على النضال ضد الروس حين قاموا بغزو مباشر لبولندا وكتب في الصحف الأميركية داعياً إلى تأييد قضيته.

مصير غامض لأطفال ميتين

في تلك الأثناء إذاً، استكمل ميكييفتش كتابة بقية أجزاء رباعيته، الرابع ثم الثالث فالأول كما أشرنا. والحقيقة هي أنه لئن كان قد فعل ذلك من دون أن يلجأ إلى ترتيب منطقي، فما هذا إلا لأن الأجزاء الأربعة ليست مترابطة في ما بينها، لا من الناحية الكرونولوجية، ولا من ناحية تتابع حكاية محددة، ولا من ناحية التصعيد الدرامي في موضوع محدد تحمله. من هنا، ما اصطلح عليه كثر من المؤرخين والنقاد من أننا هنا أمام قصيدة مسرحية طويلة أعطى الكاتب لنفسه حرية مطلقة في صياغة أجزائها وتحديداً تبعاً لتفاعله مع الأحداث السياسية التي كان يعايشها ويرصدها. ومن هنا أيضاً، نجده ينطلق بشكل إجمالي من الطقوس الدينية السرية إلى حد كبير التي تصاحب الاحتفال، في ليتوانيا تحديداً بذكر الأسلاف الميتين وذلك عبر استعادة أشعار وأغنيات شعبية تتواكب هنا مع شكاوى الأطفال الميتين وهم يتجولون حائرين في المقابر يتحدثون عن ألمهم لبقائهم في المطهر ممنوعين من الفردوس لأنهم لم يتعذبوا كفاية في الحياة الدنيا، ومن بينهم الراعية التي تعاني مثلهم في ما يبكيها حبيبها غوستاف الذي يتبين لنا بسرعة أنه ليس في الحقيقة سوى ميكييفتش نفسه يبكي حبيبته، في الحياة الحقيقية، ماريا فيريجزاكا.

بين عالم الأشباح والمباشرة السياسية

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا ما يقودنا إلى القسم التالي الذي يشكل القسم الأخير من الرباعية ويطغى عليه مناخ من عالم الأشباح يبرز من بين شخصياته غوستاف نفسه الذي كان مروره سريعاً في الجزء السابق، الثاني، لكنه هنا يحضر من خلال مونودراما يشكو فيها لوعته عبر أشعار يوجهها إلى قسيسه الذي يظهر ظهوراً عابراً بين الفينة والفينة يهدئ خاطره ويعده بالفردوس... لاحقاً. وينقلنا هذا الآن إلى القسم الثالث الذي يتألف من تسع قصائد تحدثنا هذه المرة، بدءاً من تمهيد واضح في دلالاته السياسية والتاريخية عن استشهاد الوطن البولندي أمام الهيمنة الروسية وخضوع الأرستقراطيين البولنديين أنفسهم لتلك الهيمنة ساكتين عن اعتقال الروس عدداً كبيراً من "المتمردين" البولنديين وغير البولنديين، وتحديداً عن اعتقالهم في دير حوله الروس يومها إلى سجن كبير ظل سيئ السمعة إلى زمن طويل بالنسبة إلى الشعوب البلطيقية. والحقيقة أن هذا القسم الختامي من الرباعية لم يقدم دائماً حين كان يحدث لهذا العمل أن يعرض في واحدة من مدن بولندا. مع ذلك، حدث في عام 1963 حين كان ثمة فترة استرخاء أيديولوجي، أن عرضت الرباعية بكاملها في كراكوفيا فجن جنون "الرفاق الروس" واحتجوا، خصوصاً أنهم اعتبروا كثيراً من الحوارات في ذلك القسم "مهينة للشعب الروسي وليس لحكامه في الماضي فحسب، وتزرع الكراهية بين الشعوب الشقيقة". والحقيقة أنهم كانوا محقين في احتجاجاتهم تلك.

عودة إلى الماضي المقلق

مهما يكن من أمر، سواء عرضت منقوصة أو كاملة تبقى "رباعية عيد الموتى" واحدة من الأعمال الإبداعية الأكثر حضوراً في ذاكرة الشعب البولندي وغيره من الشعوب المجاورة جاعلة من آدم ميكييفتش بطلاً قومياً تستعاد ذكراه في الأوقات الصعبة، ولا شك أن الأوقات التي تمر بها بولندا بالتحديد، أسوة بما يحدث للشعب الأوكراني منذ أشهر، أوقات بالغة الصعوبة، وليس فقط من جراء الحدث الأوكراني وتداعياته الثانوية، بل من جراء تصريحات رسمية روسية تتواتر في هذه الأيام بالذات لتعلن أن "القوات الروسية قد تمكنت من أن تقتل ثمانين جندياً بولندياً شاركوا في الحرب الأوكرانية". صحيح أنهم لم يكونوا كثراً الذين نظروا إلى هذا التصريح بعين الجدية، لكن كثراً من البولنديين فهموا مغزى الرسالة وأدركوا أن جيرانهم الروس يعدون العدة لإيذائهم بشكل أو بآخر متذكرين "عيد الموتى" وكاتبها الكبير، كما يفعلون عادة في لحظات تاريخية مماثلة!

المزيد من ثقافة