Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المغربي عبد الفتاح كيليطو تعلم الفرنسية ليكتب بالعربية

عبد السلام بنعبد العالي يضيء جوانب مختلفة من مسارات الكتابة لديه

المفكر والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو (اندبندنت عربية)

اختار المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي أن يسرح، متخففاً من كل منهج أكاديمي، في حقول الكتابة لدى الكاتب المغربي الإشكالي عبد الفتاح كيليطو، متعقباً أفكاره الغزيرة، خصوصاً تلك التي تظل مثار دهشة عند المتلقي العربي. فكيليطو من طينة الدارسين الذين ينتبهون لما لا ينتبه إليه الآخر، أو بصيغة أدق، إنه يملك قدرة على لفت أنظارنا إلى تفاصيل دقيقة قريبة منا، كنا نظن أنها غير موجودة، أو أنها توجد على مبعدة هائلة.

في كتابه الجديد "عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللسانين" الصادر حديثاً عن (منشورات المتوسط)، "يقف بنا عبد السلام بنعبد العالي في منطقة الحيرة اللغوية عند صاحب "لن تتكلم لغتي" و"متاهات القول" و"الأدب والارتياب" و"أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية"، وغيرها من الكتب التي كان اشتغال كيليطو فيها مبنياً على حدين: التنقيب والمكاشفة. فالرجل نباش كبير في التراث العربي بأدوات متجددة. ومن حين لآخر يخرج للقارئ العربي وغير العربي بما يدهشه من المناجم العميقة للثقافة العربية المعتقة. أما المكاشفة فنقصد بها الاعترافات المتعاقبة التي يدلي بها كيليطو كلما واجهه هاجس من هواجس الحيرة أو الاندهاش والانجذاب خلال رحلة البحث والتنقيب. فكيليطو يملك خاصية نادرة لدى الباحثين، وهي القدرة على قول أي شيء في أي مقام بشجاعة ومن دون تحفظ. إنه قادر، بكامل رصانته المعرفية، أن يعبر عن عجزه أو قصوره أو عدم شساعة مرجعيته القرائية، هو الذي التهم رفوفاً من الكتب الممتدة في التاريخ والجغرافيا.

حيرة بين العربية والفرنسية

يذكّرنا عبد السلام بنعبد العالي بحوار أجرته أمينة عاشور مع كيليطو، سألته فيه عن سبب التأخر في النشر قياساً مع زملائه، فاعترف لها أن التعدد اللغوي لديه كان عائقاً، "كانوا يعرفون بأي لغة عليهم أن يكتبوا، العربية أم الفرنسية. أما أنا فكنت متردداً بين اللغتين. وهكذا فما كان منتظراً أن يكون مصدر غنى وثراء، تحول عندي عائقاً". لقد كانت حيرة صاحب "الأدب والغرابة" متفرعة ومتشعبة، هل يكتب بالعربية عن العرب، أم يكتب بها عن الفرنسيين؟ هل يكتب بالفرنسية عن الفرنسيين أم يكتب بها عن العرب؟ لم تكن المشكلة لديه هي اختيار اللغة التي عليه أن يكتب بها، بل أيضاً اختيار الانتماء اللغوي للنصوص والتجارب التي سيكتب عنها. إن أسئلة مثل هذه لن تراود إلا كاتباً يملك مشروعاً، ويملك بالتالي فلسفة لهذا المشروع.

لماذا يختار كاتب عربي أن يكتب بالفرنسية؟ يجيب كِتاب "عشق اللسانين" عن هذا السؤال بإجابتين متوازيتين، الأولى سريعة ومتداولة، والثانية عميقة وتدعو إلى التأمل. فمن جهة يبدو التكوين العلمي للكاتب عنصراً حاسماً في هذا الاختيار، فضلاً عن كونه قد لا يتقن لغة أخرى غير اللغة الأجنبية التي اختارها للكتابة. لكنْ ثمة عامل أكثر عمقاً، يرتبط بمساحات الحرية التي تتيحها اللغة الأخرى. إن اللغة الأم ليست أداة للتعبير فحسب، بل هي حاملة إرث ثقافي وفكري قد يحضر بكامل ثقله أثناء الكتابة بها.

يستدل بنعبد العالي على هذه الفكرة بتعريف سابق لعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي، فيقول، "الكتابة هجران الذات، والتحرر منها لاكتشاف عوالم جديدة". فاختيار لغة أخرى ييسر سبل هذا الهجران.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا ما يدعمه كيليطو الذي يعتبر أن اللغة البعيدة هي وسيلة للاقتراب أكثر من الذات. لكن هل تغيب اللغة العربية عند العرب الذين يكتبون بالفرنسية؟ يجيب كيليطو بالنفي، فبالنسبة إليه "الذين يكتبون باللغة الفرنسية يكونون تحت تأثير اللغة العربية أكثر من أولئك الذين يستعملون العربية". يحضر الروائي المغربي إدمون عمران المالح نموذجاً حياً لهذه المفارقة. يقول صاحب "المجرى الثابت"، "وأنا أكتب باللغة الفرنسية، كنت أعرف أني لا أكتب بها. هناك لغة أخرى مضمرة، إنها لغتي الأم، العربية، تلك النار الدفينة".

بالنسبة إلى كيليطو فالذين يكتبون بالعربية، ويملكون اللغة الفرنسية، يكتبون بالضرورة تحت تأثير اللغة الأجنبية. إنهم، وهم يكتبون بالعربية، يكتبون أدباً فرنسياً نوعاً ما.

إن الحيرة اللغوية عند كيليطو قادته في كثير من أعماله إلى بداية تأليفها بالفرنسية لتنتهي في المطبعة باللغة العربية. إن صاحب "لن تتكلم لغتي" يعترف بشكل صريح بأنه تعلم الفرنسية ليكتب باللغة العربية.

الأدب العربي يحتاجنا أكثر 

لقد درّس كيليطو الأدب الفرنسي لأكثر من أربعين سنة، غير أنه لم يكن ينشر دراسات عن الأدب الفرنسي إلا لماماً. فهو يعترف، "لن أضيف شيئاً يذكر لما كتبه الفرنسيون. وفضلاً عن ذلك، فإنهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون مني أن أكتب عن أدبهم". يستطرد صاحب "الأدب والارتياب"، "أدبهم لا يحتاجني. على العكس من ذلك، لم يفارقني شعور، ساذج بلا شك، أن الأدب العربي يحتاجني بقدر ما أنا أحتاجه، كان ذلك اعتقاداً ثابتاً لدي، ولولاه لما كتبت على الإطلاق".

لقد درس كيليطو الأدب الفرنسي استعداداً للكتابة بالعربية، على حد تعبيره، ويرى عبد السلام بنعبد العالي، في هذا الصدد، أن الأدب الأوروبي شأن أوروبي، يمكن الاطلاع عليه وتدريسه، لكنه ليس في حاجة إلى عربي ليسلط عليه مزيداً من الضوء. والحقيقة أن الأدب العربي اليوم أحوج إلى من يقدمه لأوروبا قراء ودارسين ومترجمين.

لكن رهان كيليطو بهذا الخصوص كان متطلباً، فقد أراد في ذروة حيرته اللغوية أن يكون مختلفاً، أن يملك ثقافة أوروبية، لكن ألا يكتب مثل الأوروبيين، وأن يلوذ باللغة العربية كلغة كتابة، لكن ألا يكتب مثل المؤلفين العرب الذين اطلع على مصنفاتهم، وفق تعبيره.

ما يقترحه عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللسانين" هو بمثابة فسحة مفتوحة في بساتين الكتابة لدى واحد من أبرز الباحثين العرب، خصوصاً في التراث الأدبي. وهي فسحة لا تخضع لمنهج معين أو خريطة مسبقة. إنها شبيهة أيضاً بكتابة كيليطو، الذي يعترف أنه يحب أن يكتب تنويعات متفرقة ومضيئة على أن يؤلف كتباً أكاديمية تخضع للمناهج والحواشي والتذييلات والتبويبات والتفصيلات. إنها كتابة "بالقفز والوثب" على حد تعبير كيليطو الذي اقتبسه من مونطيني، متأثراً في ذلك بالجاحظ مؤسس فن الاستطراد في تاريخ الكتابة العربية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة