Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العودة إلى سوزان فالادون المرأة الأولى العضو في أكاديمية الفنون

لاعبة السيرك التي رسمها وعشقها كبار رسامي السنوات الباريسية المجنونة

"الغرفة الزرقاء" لسوزان فالادون (متحف الفن الحديث)

إذا كان اسم الرسامة الفرنسية سوزان فالادون يعتبر اسم واحدة من أشهر الرسامات النساء اللاتي عشن ورسمن في باريس السنوات المجنونة واللاتي تشارك أعمال متنوعة لهن في المعرض المقام حالياً وحتى العاشر من يوليو (تموز) المقبل في "الغران باليه" في العاصمة الفرنسية، فإن من الصعب القول إن النقاد والمؤرخين يعتبرونها واحدة من أفضل رسامات المرحلة. ومع ذلك تقول سيرة حياتها إنها كانت المرأة الأولى التي قُبلت عضواً في أكاديمية الفنون الجميلة الفرنسية التي كانت معروفة بذكوريتها الفجة. ففالادون لم تدرس الرسم ولم تتخصص فيه حتى وإن كانت مارسته رسامة طوال أربعين عاماً، كما عملت "موديل" طوال سنوات عديدة أخرى مع كبار من طينة رينوار وتولوز – لوتريك وبوفيس دي شافان، كانوا جميعاً في مرحلة ما عشاقاً لها، لكنها لم تقترن بأي منهم حتى وإن قالت إنها شغفت بهم جميعاً. "لكني في المقابل لم أشغف بذاك الذي تزوجته أول شبابي ورفض الاعتراف بالابن الذي أنجبته منه، حارماً إياه اسمه، ما اضطرني إلى القبول بعابر في حياتي، إسباني منح طفلي ذلك الاسم بكل أريحية"، كما كان يحلو لها أن تقول. أما ذلك الطفل فإنه لم يكن لاحقاً سوى موريس أوتريو أحد كبار رسامي ما بعد الانطباعية في فرنسا. ترى أكانت سوزان فالادون تحتاج إلى أن يعشقها ثلاثة من كبار رسامي زمنها وإلى أن تنجب ابناً يصبح رابع الرسامين الكبار في حياتها كي تكون لها مكانة في فن لم تدرسه على الإطلاق؟

الذكاء والموهبة مدرسة وحيدة

بالتأكيد من يتأمل اليوم لوحات سوزان فالادون سيفهم كل الحكاية. وسيفهم بخاصة أنها التقطت مهارتها الفنية بشكل عفوي وبفضل ذكائها الشديد كما بفضل حساسية مدهشة. فكان أن ثبتت قدميها ولكن في صفوف الطبقة الثانية من رسامي ما بعد الانطباعية منوعة في مواضيعها بين صور النساء العاريات، والطبيعة الميتة والمناظر الطبيعية وحتى البورتريهات الشخصية والذاتية، وذلك في وقت عرفت كيف تتحول فيه من فتاة ريفية تركت مسقط رأسها وحيدة وغيرت اسمها لتعيش في باريس على هواها وتتوج بعد حقبة قصيرة ملكة في حي مونمارتر الذي كان عاصمة الفن والجمال في مدينة الفن والجمال. وفي عالم الليل الموصول بالنهار على تلك التلة التي كان يعيش عليها في جوارها رسامون كبار اكتشفوا جمالها وجرأتها واندفاعها وطيشها وحريتها فعشقوها ورسموها قبل أن يتخلوا عنها تباعاً إذ اكتشفوا قوتها التي رأوا أنها لا تتناسب مع نرجسيتهم وأنانيتهم. ومن هنا وبقدر ما كانت سوزان مرهفة الحس فنياً، علمتها تجارب الحياة كيف تكون شديدة البأس من الناحية الاجتماعية حيث باتت مناضلة نسوية قبل الأوان. وهو أمر لا يزال معترفاً به مثيراً للإعجاب والدهشة حتى اليوم.

بعيداً من نساء الفضائح

ولعل الغريب في سيرة هذه الفنانة بالقوة، والمناضلة بصورة عفوية، أنها لم تكن على الرغم من تعدد عشاقها وتعدد زيجاتها أيضاً، من نوع النساء "الفضائحيات" اللاتي كن يملأن الحياة الفنية الفرنسية وفي مونمارتر بخاصة في ذلك الحين، ومنهن تلك التي تعتبر دائماً من أجمل وأجرأ نساء عصرها ومن أبرزهن وأكثرهن تجديدية وخصوصية من الناحية الإبداعية، تمارا دي لمبيسكا التي شاركت أعمالاً بالغة الأهمية من رسمها في معرض "غران باليه" المشار إليه. ففي نهاية المطاف كان ثمة شيء من الخفر الريفي ولو البسيط يطبع أخلاقيات سوزان فالادون ويميزها، كما أن اضطرارها إلى الاهتمام بابنها موريس وتمكينه من أن يتجه صوب الفن بدوره وقد مهدت له كل السبل لذلك، كان في خلفية سلوكها. ومع ذلك لم يمنعها ذلك السلوك من أن تعشق صديق ابنها وتتزوجه ولو لسنوات قليلة حيث عاشت معه ومع ابنها في بيت واحد خيم عليه الزعيق والعنف وخبط الأبواب والفاقة بشكل لا يتناسب على الإطلاق مع مزاج السيدة البوهيمي المحب للحياة والمرح البورجوازي بعض الشيء. والغريب أن تلك الفترة كانت المرحلة الذهبية لتحولها من موديل إلى رسامة حيث أنجزت تباعاً، بين 1923 و1924 اثنتين من أجمل لوحاتها وهما طبعاً "الغرفة الزرقاء" التي تدنو إلى حد ما من لوحات ماتيس الاستشراقية، و"امرأة شابة بجرابات بيضاء" التي تشي بما تدين به في توجهها الفني لتولوز لوتريك الذي ستقول دائماً إنه كان ويبقى أعز حبيب على قلبها فهو الذي، بعد كل شيء، "علمني كيف أرسم بعد أن كنت أرسم وحسب، وعلمني كيف أخترق الحياة كما هي دون أن أعبأ بما كان يجب أن تكون" كما قالت ذات مرة.

من السيرك إلى تلة الفنانين

ولدت سوزان فالادون، تحت اسم ماري كليمانتين في عام 1865 وكانت تقول 1867، وعملت في صباها المبكر مساعدة خياطة ثم لاعبة في سيرك لكنها سرعان ما اضطرت إلى هجران تلك المهنة بعد سقطة أصابتها. ومن ثم تحولت إلى مونمارتر ملكة للحسن وسيدة للحرية فيها لتجد نفسها مطلوبة بكثرة كموديل وكامرأة متحررة. ولسوف يكون تولوز لوتريك أول المهتمين بسوزان كرسامة إلى جانب اهتمامه بها كموديل وحبيبة. ومن هنا سرعان ما وجد نفسه يعرض رسومها المبكرة على إدغار ديغا الذي شجعها بدوره على العمل على تطوير مواهبها الفنية الأكيدة. وهكذا بفضل تولوز لوتريك كما بفضل ديغا راحت تمعن في احتراف الرسم والتفاعل مع الألوان بشكل خلاق. وسوف يقال دائماً إنه قد يكون صحيحاً أن ملاحظتها لعمل وأساليب الفنانين الكبار الذين كانوا يرسمونها، ولا سيما منهم رينوار الذي استخدمها في بعض لوحاته الأكثر جمالاً ومنها "رقصة الخطيبين" و"الرقص في بوجيفال"، تلك الملاحظة المتراكمة هي مدرستها الفنية الحقيقية، ولكن لا بد من القول إن أسلوبها كان فريداً على تنوعه وألوانها مستقاة من نظرة متفائلة إلى الحياة، ناهيك بأن رؤيتها نفسها كانت شديدة الخصوصية. ويقيناً إن تأملنا في بعض لوحاتها الشهيرة كافٍ لتأكيد ذلك. ففي نهاية الأمر يقول لنا فن سوزان فالادون إنه فن شديد الذاتية. تماماً كما أن حياتها وشخصيتها قربتاها كثيراً من الصورة التي رسمها المعاصرون للكاتبة كوليت ولم يكن غريباً أن يدرج اسما كوليت وسوزان معاً في كل حديث عن امرأة بدايات القرن العشرين المبدعة والمتمردة، وبخاصة إن كانت تلك المرأة ابنة الشعب لا ابنة البيوت العامرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا تكلمت الأم

ومن هنا لم يكن من المغالاة أن تقول الصحف الباريسية عنها حين رحلت في عام 1938 عما يزيد على السبعين عاماً أن "تلك المونمارترية كانت مدينية فقط في روحها أما في حياتها ووعيها فكانت مغرمة بالطبيعة وبالزهور التي ملأت لوحاتها وكانت تتسلل إلى داخل تلك اللوحات ولو من طريق الوعي الخفي". وقد قال ديغا حين علم بموتها إنها كانت بالنسبة إليه "شيطانة تقمصها عبقر الرسم"، بينما لم يتوقف ابولينير الذي كان ناقداً فنياً ذا تأثير بقدر ما كان شاعراً، عن إبداء إعجابه بعارياتها اللاتي كن بالنسبة إليه أشبه بالطبيعة وقد تحولت أجساداً لكائنات خرافية. أما هي فكانت تقول إنها إنما تريد أن ترسم الحياة كما هي وأن ترد للحياة جميلها عليها، إذ جعلت من تلك الطفلة التي كانته خياطة في مشغل ريفي، لاعبة سيرك تخوض المخاطر بجرأة خلاقة وبعد ذلك إلى جسد بديع يحدق فيه الرسامون الكبار ثم يرسمونه وقد استبدت بهم الثمالة، وأخيراً إلى رسامة تعيد خلق الحياة والجمال ألواناً على مسطحات لوحاتها كما إلى فنانة أم تدافع عن ابنها الرسام حين يتهم بأنه ينقل رسومه عن بطاقات بريدية بقولها "لقد أنتج ولدي أعمالاً إبداعية كبيرة وهو يستلهم البطاقات البريدية، أما الآخرون فإنهم يعتقدون أنهم قد أبدعوا لوحات رائعة فيما لم ينتجوا في حقيقة أمرهم سوى بطاقات بريدية!".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة