Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هذا هو سبب إضراب عمال السكك الحديد في بريطانيا

أكبر تحرك نقابي على نطاق وطني وحازم تشهده بريطانيا منذ عقود فيما تجنح الحكومة إلى العدوانية والوضع يتجه إلى مزيد من التدهور

"الهيئة النقابية التي انفصلت عن حزب العمال ... لم تعد تولي كثيراً من الاهتمام لزعيم المعارضة" (أ ب)

يواصل غرانت شابس وزير الدولة البريطاني لشؤون النقل والمتغطرس الذي يتعامل مع السياسة كأنها عمل استعراضي، مطالبة كير ستارمر زعيم حزب "العمال" المعارض باستنكار إضراب عمال السكك الحديد، كما لو أن "الاتحاد الوطني لعمال السكك الحديد والبحرية والنقل" National Union of Rail, Maritime and Transport Workers (RMT) ، الهيئة النقابية التي انفصلت عن حزب "العمال" ولم تعد تولي كثيراً من الاهتمام لزعيم المعارضة، ستنصاع بخنوع لأوامر رجل تحتقره على الأرجح أكثر من شابس نفسه.

ولا بد هنا من أن أقر بأن حكومة الظل "العمالية" المعارضة، تتصرف بالمقدار نفسه من العبث، من خلال مطالبتها الوزير شابس "بجمع إدارة القطاع والنقابات حول طاولة واحدة"، كما لو أن هذه الخطوة في حد ذاتها ستحل أي شيء. وفيما أن لا ضير من طاولات الحوار والمحادثات هذه كلها، فالمطلوب حقاً هو وضع استراتيجية أو سياسة للتعامل مع التراجع بنسبة 25 في المئة في حركة مرور القطارات التي ربما لن تعود لسابق عهدها، أما حزب "العمال" فليست لديه أي اقتراحات في شأن ما سيفعله لو كان في موقع الوزير شابس، وسيواجه حتماً المعضلات نفسها والخيارات الصعبة التي تعجز الحكومة البريطانية الراهنة والنقابات والوزير شابس نفسه عن مواجهتها.

سيكون هناك في المستقبل مزيد مما نشهده اليوم، وكما لو أنه لم يكن لدينا ما يكفي من الصراعات خلال الأعوام القليلة الماضية، لأننا نجد أنفسنا أمام مزيد من الإضرابات المقبلة، سواء من جانب المعلمين أو الممرضات أو العاملين لدى السلطات المحلية وكثير غيرهم، لكن للمرة الأولى منذ عقود يتم تنفيذ مثل هذه الإضرابات في هذا القطاع على نطاق وطني ونحو حازم، أما الحكومة فتجنح هي أيضاً إلى العدوانية من خلال سعيها إلى إضفاء شرعية على وضع العمال الموقتين المستقدمين من وكالات التوظيف Agency Labour (يوقعون عقوداً موقتة مع الوكالات)، بهدف ضرب فاعلية الإضرابات أو العمالة البديلة كما هي معروفة، علماً أن هناك نقصاً في تلك العمالة، وهذا ما سيعقد الأمور ويجعلها أشد سوءاً.

ربما يتعين أن نمعن النظر أكثر في ما يجري حقيقة، فأحد الأسباب البديهية لاكتساب الإضرابات فاعلية يتمثل في وجود نقص في العمالة على المستوى الوطني، ويعود ذلك جزئياً إلى التداعيات التي أفرزها وباء "كوفيد" بحيث ترك قرابة 400 ألف شخص سوق العمل بسبب "كوفيد" من جهة، وإلى مفاعيل الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ("بريكست") من جهة أخرى، وذلك أدى إلى الاستعاضة عن الحركة الحرة السلسة والمرنة للعمال من جميع الفئات داخل سوق عمل محررة مع الدول المجاورة، بنظام تأشيرات متقادم وتعسفي قائم على النقاط، يضاف إليه تدفق صغير وغير كاف من المهاجرين الاقتصاديين غير المسجلين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي قاعدة عامة، إذا تم خفض المعروض من أي شيء فجأة وظلت نسبة الطلب بلا تغيير سواء كان أكثر أو أقل، فسيقع نقص لا محالة وترتفع الأسعار، وفي مثل هذه الظروف لا تحتاج النقابات العمالية لاستعراض كثير من عضلاتها لتحصيل أجور أعلى، خصوصاً أن عدداً من أرباب العمل بدوا فعلاً في حاجة ماسة لتوظيف عاملين لقاء أي سعر وأي مكافأة تقريباً كي يتمكنوا من مواصلة أعمالهم، وبطبيعة الحال فإنه في ظل هذه الضغوط تساعد الأتمتة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في استبدال العمالة برأس المال، أي استخدام الآلات بدلاً من العمال، وهو بعض مما تحاول شركات السكك الحديد القيام به، لكن هذه الجهود تتطلب استثماراً ووقتاً ومالاً كي تبصر النور.

وفي انتظار ذلك يجد الجميع أنفسهم عالقين في عنق الزجاجة، ولا بد للاتجاهات السائدة الآن من أن تنعكس على القطاعين العام والخاص والقوى العاملة النقابية وغير النقابية.

ثانياً، يعاني الاقتصاد البريطاني بطئاً في النمو، ويوجد في الواقع نوع مختلف من الفلسفة السياسية المفضلة لرئيس الوزراء بوريس جونسون المعروفة بـCakeism  (الاحتفاظ بالكعكة وأكلها(، فعندما لا ينمو حجم "الكعكة" الوطنية سنة بعد أخرى ويريد الناس المزيد منها، فإن الطريقة الوحيدة لمحاولة الحصول على حصتهم تكمن في التقاتل للحصول على شريحة أكبر من الكعكة الموجودة.

المعركة تقع عندما تحاول مداخيل الأفراد مواكبة التضخم أو حتى تخطيه، فالأشخاص الذين يتمتعون بقدرة أكبر على المساومة، سواء كانوا في الاتحادات النقابية أم لا، سينجحون في حين أن المؤسسات التي يكون العمل فيها مقتصراً على أعضاء النقابات العمالية مثل المحامين أو الذين لديهم ضمانات قانونية مرتبطة بالتضخم والأجور الحقيقية مثل المتقاعدين الحكوميين (بافتراض أنهم حازوا الضمانات المعروفة بـ  Triple Lock القائمة على فكرة أن معاش التقاعد يرتفع كل سنة تماشياً مع أعلى ثلاثة إجراءات، ارتفاع ثابت بنسبة 2.5 في المئة ومتوسط ​​نمو الأرباح والتضخم)، فهؤلاء يتمتعون بقوة حماية إضافية، كما أن أولئك الذين تكون ثروتهم مبنية على أصول حقيقية أو ما يتصل بها من ممتلكات وأسهم وأراض وسلع يتمتعون أيضاً بحماية أكبر على الأمد البعيد.

أما الأشخاص الذين لديهم أسوأ الحالات فهم أولئك الذين يفتقرون إلى القوة، مثل الذين يحصلون على دخل ثابت من مدخرات نقدية أو الذين يعتمدون على الدولة كي تفي بالتزاماتها نحوهم، ومنهم العاملون في مرافق "الخدمات الصحية الوطنية" (أن إتش أس) NHS.

إنه الفارق بين المحامين الذين يعملون لحساب عملاء أثرياء في القطاع الخاص في مجال الدعاوى الضريبية أو المدنية، على سبيل المثال، والذين يعتمدون فقط على المساعدة القانونية لعملائهم أو الذين يعملون في النيابة العامة، فالطرفان يحظيان بميزة العمل وفق عقود توظيف محصورة في المنضوين إلى نقابات، وهما محميان من منافسة الآخرين، لكن الأفراد الذين يعتمدون على التمويل الحكومي ينحو وضعهم نسبياً إلى أن يكون أسوأ.

على مستوى الاقتصاد ككل، سنشهد خلال السنوات القليلة المقبلة بعض عمليات إعادة التوزيع العشوائية وغير العادلة للدخل والثروة، لأن هذا ما يسببه النمو المنخفض والتضخم المرتفع، ويكاد أن يكون من المؤكد أنه سيجعل من بريطانيا مجتمعاً غير متكافئ أكثر فأكثر، لأن الأفراد الذين هم في القمة ينحون إلى أن يكونوا أكثر حصانة حيال التضخم وأكثر تشرذماً، وفي حال بحث مستمر عن أكباش فداء لمستويات معيشة تعاني ركوداً وخدمات عامة سيئة، ويتمثل هؤلاء في عمال النقابات والمهاجرين والأشخاص الذين يعتمدون على إعانات الضمان الاجتماعي.

وحتى لو حصل انهيار في أسعار المنازل فإن الذين هم في القاع سيظلون مفتقرين إلى الأموال والثقة التي تمكنهم من الاستفادة منه، وسيكون هناك عدد قليل من الفائزين في مثل هذه الحال.

أما على المستوى الدولي فستتأخر بريطانيا والبريطانيون أكثر فأكثر عن الركب في جداول التصنيفات، ويشعرون بأنهم أكثر فقراً مقارنة بدول تعد أكثر ديناميكية وتنافسية.

من هنا، فإننا جميعاً نلوم الآخرين على أخذ كل طرف الطرف المقابل رهينة، أو بكونهم جشعين أو أنانيين. إنه هراء، فالمسألة هي مجرد عرض وطلب ورغبة عقلانية تماماً في رعاية الفرد مصالحه ومصالح أسرته عندما يطغى التضخم بطريقة لم يشهدها معظم الناس من قبل في حياتهم كبالغين.

أما السبب في تراجع معدلات النمو وارتفاع نسب التضخم، تضخم يرافقه ركود، فهو أن لكل فرد الحق في الاحتفاظ بعمله ضمن مجتمع حر.

الوضع انفجر فجأة وسط محيط هائج من الاضطرابات الصناعية "الثائرة" والتضخم، لأن الاقتصاد مصاب بشلل عميق، وذلك ببساطة لأنه لا يمكنه تحقيق الزيادة السنوية في السلع والخدمات للحفاظ على مستويات المعيشة وتحسينها بالطرق التي عهدناها، لذا علينا جميعاً أن نكافح من أجل الحفاظ على ما لدينا.

هذا التباطؤ في النمو والارتفاع المفاجئ في التضخم يشكلان ظاهرة عالمية تكمن وراءها مجموعة من العوامل عالمية النطاق، سواء اضطرابات ما بعد الوباء وتطبيق مزيد من عمليات الإغلاق لمكافحة "كوفيد" في الصين، أو الحرب في أوكرانيا والاتجاه نحو الحمائية. صحيح أيضاً أن بريطانيا تعاني منذ فترة طويلة من مشكلة الإنتاجية والاستثمار، لكن الإشكال الخاص بها الآن والذي يسهم بشكل أساس في نقص العمالة وانخفاض الصادرات وتهشيم الثقة في الأعمال والاستثمار، وبالتالي تفاقم ضعف نمو الإنتاجية وركود مستويات المعيشة، إنما يتمحور حول صديقنا القديم "بريكست". فكم هو عدد الشركات التي سلمت في القطاع الخاص ستقدم على الاستثمار في بريطانيا عندما تتردد أحاديث واسعة النطاق عن حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي، الكتلة التي لا تزال أقرب وأكبر سوق للمصدرين ومصدر الإمدادات للصناعات؟

الحقيقة غير المطمئنة هي أن بريطانيا ما كانت قد وصلت إلى الحال التي هي عليها اليوم لو أنها بقيت جزءاً من الكتلة الأوروبية، فالمشكلات نفسها التي واجهناها قبل انضمامنا إلى أوروبا في العام 1973، والتي ظلت أثارها مستمرة خلال الثمانينيات، سببها أننا كنا خارج مدار المنطقة التجارية الأكثر ديناميكية في العالم آنذاك، وهي اليابان.

غير أن عوامل ثلاثة ساعدت في تغيير اتجاه بريطانيا خلال الفترة الممتدة ما بين سبعينيات القرن الماضي وتسعينياته، وهي السوق الأوروبية الموحدة والإصلاحات الاقتصادية التي استحدثتها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر والهجرة، وكانت تلك العوامل وراء مرحلة النمو طويلة الأمد التي تمتعنا بها، إلى جانب انحسار التضخم وتزايد الازدهار الاقتصادي، لكن "رجل أوروبا المريض" تحول إلى نموذج بات مصدر حسد الآخرين.

ويبدو الآن أننا نسير في اتجاه يتعارض مع تلك العوامل الثلاثة، أوروبا والثاتشرية والهجرة، فنحن نتعامل مع حكومة تلقي بالمال جزافاً وتتبنى سلوكيات تحاكي تلك التي كان يلجأ إليها ملوك القرون الوسطى سعياً إلى استرضاء أباطرتهم لجهة انتقائية "تحسين أوضاع المناطق".

إن بلاداً تعاني نقص اليد العاملة تدفع بشبان هم في سن العمل إلى الرحيل إلى رواندا، في وقت باتت فيه أوروبا عدوة اقتصادية جديدة لا شريكة في الازدهار.

وبالنسبة إلى الذين هم في مثل عمرنا ويتذكرون تلك الأيام الغابرة، فالشعور هو كأننا في آلة زمن تعود بنا لممارسة عادات قديمة انعكست سوءاً علينا، فقبل الانضمام إلى أوروبا، حين وجدنا أنفسنا مجبرين على المنافسة وإجراء تعديلات مؤلمة على اقتصادنا للتأقلم، حاولنا أن نعيش بما يتجاوز قدرتنا على الاستمرار، وانتهى بنا المطاف أن وقعنا فريسة تضخم معدلاته تفوق تلك المسجلة لدى نظرائنا.

وإذا ما استطعنا الحفاظ على مستويات معيشتنا في وقت تخطت فيه نفقاتنا معدلات أرباحنا كدولة، فإن ذلك كان بفضل طيبة بعض الغرباء، بحيث أقرضتنا الأسواق المالية المال لتغطية العجز في التجارة والقطاع العام، على أمل ضعيف في تحسين أوضاعنا، وإن بأسعار فائدة مرتفعة بشكل مناسب، وعندما لم نتمكن من الحصول على مصدر تمويل قمنا "بطبع النقود".

لم يكن أحد يرغب فعلاً في الاستثمار في بريطانيا، الأمر الذي سبب معدلات بطالة بنيوية سجلت ارتفاعات هائلة، وحاولنا أن نحض النقابات والإدارة على وضع قيود لضبط معدلات الأجور والأسعار للحد من وتيرة التضخم وإبقائها في مستوى 10 في المئة أو خمسة في المئة، وفي بعض الأحيان قمنا حتى بسن قوانين لدفعها على القيام بذلك، لكن الخطوة لم تجد نفعاً لفترة طويلة، وعمد تالياً "مؤتمر اتحاد العمال" Trade Union Congress (الذي يمثل معظم النقابات العمالية في إنجلترا وويلز) و"اتحاد الصناعات البريطانية" Confederation of British Industry (منظمة غير ربحية تدافع عن مصالح الشركات المحلية في القضايا الوطنية والدولية) والحكومة إلى إقرار الحد الأقصى للزيادة في الأجور التي يمكن أن يحصل عليها أي شخص في المملكة المتحدة (مع السماح ببعض الإعفاءات).

أما محاولات إرغام البريطانيين على معاملة بعضهم بعضاً بالحسنى فباءت بالفشل، بحيث عمت الإضرابات وأعمال الشغب، فيما استفاد اليمين المتطرف في البلاد والاشتراكيون الثوريون من ظروف الانقسامات والانحطاط تلك.

لقد تقاتلنا كفئران محشورة داخل كيس وإذا بالتاريخ يعيد نفسه، ومن الصعب فعلاً ابتلاع الموسى؟

© The Independent

المزيد من تحلیل