Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وجودية كامو "الميتافيزيقية" كما تجلت واضحة في واحدة من أبسط مسرحياته

"سوء تفاهم" في ما هو أبعد كثيراً من الجريمة العائلية والمآسي المترتبة عليها

من تقديم معاصر لـ "سوء تفاهم" (موقع المسرحية)

لعل السؤال الأول الذي يخطر في بال من يقرأ مسرحية "سوء تفاهم" لألبير كامو، أو يشاهدها على الخشبة حيث تؤدى بنجاح وبشكل متواصل موسماً بعد آخر في فرنسا أو في بلدان أخرى، أو حتى تقتبس للسينما، هو من أين أتى كامو بهذه الحكاية؟ وثمة بالتأكيد جواب جاهز هنا يمكنه أن يحل اللغز ولكن جزئياً، جواب يعرفه الذين قرأوا رواية "الغريب"، أشهر روايات هذا الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير الفائز بجائزة "نوبل" الأدبية قبل رحيله شاباً بحادثة سير.

ففي لحظة من لحظات "الغريب" يحكي لنا بطلها ميرسو الحكاية التالية، "بين مرتبتي ولوح السرير وجدت ذات لحظة قطعة صحيفة قديمة ملتصقة بالقماش، مصفرة وشفافة، ووجدت قصاصة الصحيفة تروى خبراً كانت بدايته مفقودة، ولكن لا بد من أنه يحكي عن واقعة حدثت في تشيكوسلوفاكيا. ترك رجل قريته التشيكية وتغرب ليجمع ثروته. بعد 25 عاماً وقد بات غنياً، عاد إلى مسقط رأسه مع زوجة وطفل. كانت والدته الآن تدير فندقاً مع أخته في القرية، ولما كان راغباً في مفاجأتهما ترك زوجته وطفله في نزل آخر، وقصد فندق والدته التي لم تتعرف عليه عندما دخل، وثم على سبيل المزاح خطرت له فكرة رآها طريفة: استأجر غرفة وأظهر ماله. أثناء الليل، قتلته أمه وشقيقته ضرباً بمطارق قصد سرقته ثم تخلصتا من جثته رمياً في النهر، وهو أمر سيتبين أن المرأتين كانتا قد اعتادتا فعله بغية جمع مال من سرقتهما الضحايا للتخلص من فقرهما والتمكن من السفر، وعند الصباح جاءت زوجة القتيل وكشفت عن هويته من دون أن تدري شيئاً عما حدث له، وكانت الأم على أية حال قد شنقت نفسها ندماً على جرائمهما حتى قبل أن تعرف شيئاً عن هوية الضحية. أما الأخت فقد ألقت نفسها في بئر منتحرة بدورها بعدما انكشف أمامها هول جريمتها وهوية آخر ضحاياها. 

قلت في نفسي يجب أن أقرأ هذه القصة آلاف المرات. من ناحية، كانت غير قابلة للتصديق، ومن ناحية أخرى كانت طبيعية. على أي حال، وجدت أن المسافر قد استحق قليلاً ما حدث له وأنه لم يكن ينبغي له أن يمارس هذا النوع من اللعب مطلقاً". ("الغريب" الجزء الثاني، الفصل الثاني).

من الحياة إلى الرواية فالمسرح

من ناحية مبدئية لا يشكل هذا المقطع من رواية "الغريب" جواباً قاطعاً وواضحاً، فنحن هنا أمام مشهد مبدع آخر من عمل روائي للكاتب نفسه، ومع ذلك اكتفى كثر من المتسائلين به جواباً يرضيهم ولو مؤقتاً معتبرين أنه يفسر ما يمكن أن يكون أصلاً للمسرحية التي قدمت للمرة الأولى على خشبة مسرح "ماثورين" الباريسي عام 1944 وما توقفت عن أن تقدم من حينها، ولكن بالتأكيد ليس انطلاقاً من الحادثة نفسها أو من شغف المتفرجين بتلك الجريمة العائلية، فحين يحمل عمل إبداعي ما توقيع مفكر وكاتب من طينة ألبير كامو لا تعود الحادثة هي قلب المسألة بل دلالاتها، ولئن كانت هذه الحادثة كما يرويها ميرسو في "الغريب" اكتفى بالتعبير عن دلالتها الحدثية متسللاً إلى عمق الأفكار العبثية التي كانت تسير حياة هذا الغريب وفكره، وربما مفسرة كجريمة عابثة لم ير ميرسو منها سوى الجانب الذي سيفسر جريمته العبثية التي ارتكبها هو الآخر في حق الفتى العربي الذي قام بالإجهاز عليه، فإنها، أي الحادثة، اتخذت حين استقلت بنفسها وبدلالاتها في المسرحية أبعاداً أخرى مختلفة تماماً، ومن والمؤكد أن هذه الأبعاد هي التي قللت من شأن اهتمام القراء بالتحري بعمق عن جذور تلك الحكاية، فبعد كل شيء في المسرحية لا يعود الحدث - الحادثة سوى ذريعة يستند الكاتب إليها ليقول أموراً أخرى كثيرة تتجاوزها.

الفلسفة في الحلبة

ولعل أول هذه الأمور وأكثرها أهمية تلك التي تفسر العنوان الذي اختاره الكاتب لمسرحيته، فهنا في المسرحية لا يعود سوء التفاهم مرتبطاً بالحادثة الإجرامية بمعنى عجز الأم عن التعرف على ابنها بعد غياب طويل وبالتالي إجهازها عليه، بل وفي تحليل معمق للمسرحية يصبح سوء التفاهم مرتبطاً بالوجود البشري في هذه الحياة الدنيا، وفي تخلي العناية الإلهية عن الإنسان وتركه في مهب صدف تتلاعب بحياته، فالمسرحية تفتتح عند منتصف النهار وليس كما كان في مقدورنا أن نفترض بالنسبة إلى حدث مرعب في تكرره وفي ضخامته هذه المرة، ونحن في البداية في غرفة النزل المشتركة، كل شيء هنا نظيف ومضيء، وكل شيء أنيق هناك، والشخصية المحورية شخصية جان، الشاب الذي بعد أن أمضى في الغربة حياة ناجحة فبات ثرياً محباً لزوجته وطفله، يقرر إعادة التواصل مع عائلته التي تركها منذ سنوات، هذه هي الطريقة التي يعود بها إلى قريته الأصلية وبشكل أدق إلى النزل الذي تديره والدته وأخته، لا يعرف جان كيفية الإبلاغ عن هويته الحقيقية ويبقى في النزل في انتظار فرصة مؤاتية لإعلان هويته وعودته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ماريا زوجته تحاول ثنيه عن مواصلة تردده و"مزحته" وتبرر نفسها بمخاوفها وعبثية سلوك جان، لكن هذا الأخير لن يستمع إليها، بيد أن ما لا يعرفه جان ولا تعرفه ماريا هو أن مخاوفها "الواهية" ستتبدى حقيقية، وهذا ما يدركه المتفرجون على الأقل، ففي الواقع اعتادت الأم وابنتها مارثا قتل المسافرين الذين يقيمون عندهما أثناء نومهم من أجل الحصول على وسيلة للهرب من هذه المنطقة الرمادية وتمويل توقهما إلى العثور على أراض مشمسة.

ضحية لعبته العابثة

جان إذن هو في الوقت نفسه ضحية لعبته كما أنه ضحية سوء التفاهم، بيد أنه سوء تفاهم وجودي كما يصوره كامو في ثنايا المسرحية، وجان الذي لم يكشف عن هويته سيعاني من سوء التفاهم وسيكون ضحية المخطط الذي أصبح ميكانيكياً، كما بتنا نعرف الآن، وبالتالي هو ضحية قدره والشرط الإنساني الذي يجابهه، وانطلاقاً من كينونة جان ضحية لهذا الشرط الإنساني لن يعدم قارئو المسرحية أو مشاهدوها أن يجدوا أنفسهم تلقائياً في مواجهة المواضيع الأساس التي صاغت الفكر الوجودي عند منتصف القرن الـ 20، لدى سارتر في الفلسفة ولكن بشكل أكثر ارتباطاً بالحياة الاجتماعية للبشر، ولدى ألبير كامو في إنتاجه الفلسفي والأدبي، فها هي العناية الإلهية قد تخلت عن مخلوقاتها ولم تعد مبالية بهم، وها هو الإنسان وقد بات يعيش وحدته المطلقة، فجان بقي وحده في حضرة أمه وأخته لأنه لم يشأ أن يلتقيهما حقاً إلا وقد أمّن لنفسه حنانهما، بينما نعرف منذ البداية أن ذلك الحنان لم يعد من شيمهما بعد أن تحولتا إلى قاتلتين لغايات قد لا يصعب على أية حال تبريرها، إذ لم تريا في جان أكثر من مسافر سيمكنهما قتله والاستيلاء على ثروته الوفيرة من الإسراع في مبارحة وضعهما وتحقيق ما تتوقان إليه.

ومارثا، الابنة التي تعتقد أنها قد عثرت عبر هذه الضحية الجديدة على حقها في السعادة، لا تجد من حولها سوى وحدتها المطلقة بدورها بعد أن تخلت عنها أمها، شريكتها في وحدتها وجرائمها، إذ فقدت الرغبة في مواصلة طريق الجريمة حتى من دون أن تدرك أن ضحيتها الأخيرة إنما هو ولدها العائد، ولئن كانت الأم قد قتلت نفسها فإنها لم تفعل ذلك انطلاقاً من ندمها بل كنوع من الثورة على واقعها وعلى الكون كله، هذا الكون الذي تكتشف الآن أنه لم يعد مناسباً للإنسان.

ثقل اللغة وكرم الترجمة

باختصار وبكلمات أخرى، ليس سوء التفاهم لدى ألبير كامو (1913 – 1960) هنا سوى ذلك التطلع إلى المسرة والسعادة والحب من قبل إنسان يجد نفسه عاجزاً تماماً عن الحصول عليها مرمياً في غياهب وحدة مدمرة، ولئن كان كثر من النقاد ولا سيما الميالون منهم إلى التفسير الفلسفي للأعمال الأدبية، بخاصة حين تأتي من لدن كاتب كبير من طينة كامو، قد أثنوا على هذه المسرحية، فإنهم لفتوا النظر في الوقت نفسه إلى ما اعتبروه عيباً عضوياً فيها، لغتها الثقيلة المتمثلة في حوارات يؤديها ممثلون "من سوء الطالع أنهم أدوها بشكل يبديهم متحدثين باسم الكاتب الفيلسوف بأكثر مما هم شخوص من لحم ودم"، غير أن ذلك لم يقلل من شأن المسرحية وإن كان قد أمعن في وسمها بنخبوية تمكنت على أي حال في الإفلات منها حين ترجمت إلى لغات أخرى خدمتها بشكل أفضل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة