لم يمر فوز رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" (دار مسكلياني) للكاتب الليبي محمد النعاس بجائزة البوكر للرواية العربية، من دون أن يثير عاصفة من الجدل في الأوساط الثقافية، بحيث ذهبت أنظار جمهور صفحات "السوشيال ميديا" والمواقع الإلكترونية إلى تشجيع روايتين هما "ماكيت القاهرة" للكاتب المصري طارق إمام التي تستند إلى مخيلة جامحة تجمع بين العبث والفانتازيا والواقع، ورواية "دلشاد" للعمانية بشرى خلفان بمعمارها الروائي المتشعب والقائم على مرجعية تاريخية وتعدد في أصوات الرواة. هذه الترشيحات استبعدت أربعة أعمال أخرى لم يجر تداول آراء بشأنها إلا في نطاق محدود، ثم كانت المفاجأة بأن تحط الجائزة بين يدي كاتب شاب عن روايته الأولى، مما وضع الرواية وصاحبها تحت الضوء الساطع مباشرة، من دون مرحلة تمهيدية، في مرمى النقاد والقراء في آن واحد. من جهة بسبب انتظار عمل أدبي فذ لكونه حاز جائزة بهذا القدر من الأهمية، ومن جانب آخر اعتبار الكاتب موهبة ساطعة حققت روايته الأولى الفوز وسط كوكبة من الأسماء الإبداعية.
لكن بمعزل عن هذا كله، يبدو تناول الرواية نقدياً بعد عاصفة التخمينات والتنافسات، أكثر واقعية على المستوى الإبداعي والنقدي، بغرض إبعاد الظلال العالية والأصوات المرتفعة سواء بالتأييد أو الرفض، وتقييمها كما يتم تقييم العمل الأول لكاتبه.
وبعد فوز روايته الأولى "خبز على طاولة الخال ميلاد"، بجائزة البوكر، انضم اسم الكاتب محمد النعاس إلى قائمة الكتاب الليبيين، الذين تمكنوا عبر فن الرواية والقصة من تقديم صورة اجتماعية وسياسية لهذا البلد الذي لديه خصوصية ثقافية وجغرافية وتاريخية، تحمل شيئاً من الالتباس بالنسبة إلى القارئ العربي، ولا تزال في حاجة إلى الكشف عنها إبداعياً.
صدام الأنوثة والذكورة
تبدأ الرواية بجملة رئيسة هي "عيلة وخالها ميلاد، مقولة شعبية منتشرة بين الليبيين، يعيرون بها الرجل الذي لا يملك سلطة على النساء اللائي يتبعنه، وهو إلى ذلك يقدح في أخلاق النساء أنفسهن".
منذ بداية النص لا يؤجل الكاتب الطرح الجندري، فالعبارة الأولى تضع القارئ في قلب المواجهة الجندرية بين أكثر من طرف، المجتمع الليبي الريفي من جهة، الذي يعير الرجل بعدم السيطرة على "تابعاته من النساء" كما تشي العبارة، ثم الطرف الآخر "المرأة" التي تتعرض للذم في أخلاقها، فقط، لأن ليس هناك رجل يدير الحياة، وعليها اتباعه. إذن، يقف القارئ بعد تفكيك الجملة الافتتاحية أمام تساؤل مباشر حول ما سيؤدي إليه هذا التقريع الساخر منذ البداية، وإلى أين سيأخذ أبطال العمل.
يقوم البناء الروائي مضموناً على تقديم واقع البطل السارد ميلاد الأسطى، وتفاصيل من يومياته التي تمضي في أعمال منزلية، فهو يعمل على تنظيف البيت، وكي الملابس، وطهو الطعام. يبحث عن وصفة إعداد الخبز في ورقة نسيها بين كتب زوجته التي يصفها بأنها تقرأ الكتب مثل "دودة"، فيما هو لا يجد بين كتبها ما يمتعه. تراوح الرواية عبر تقنية "الفلاش باك" بين الحاضر والماضي مع ميلاد الذي ظهر في أول النص وهو يتكلم مع شخص ما يسرد له حكايته، وظل محتفظاً بصوت السرد بضمير المتكلم، مما قصر مساحة الرؤية حول كثير من الأحداث المحورية، كي تسرد كلها من وجهة نظره فقط، مع تعتيم كامل على أي آراء أخرى. فالمرأة لا صوت لها في النص على الرغم من أنها جزء محوري من الصراع الرئيس، وعلى الرغم من أهمية تقديم رؤيتها للواقع الاجتماعي ولشخصية ميلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحمل الرواية فخاً يضمر الصراع بين الذكورة والأنوثة، إذ تمتلك الزوجة زينب صفات اعتادت المجتمعات العربية اعتبارها ذكورية "زينب تحب نفسها أكثر من أي شيء آخر، لكنها تعيش في فوضى كبيرة". وللمفارقة هي لا تجيد الاعتناء بنفسها، فتنقلب الأدوار بينها وبين ميلاد، الذي يجيد الاعتناء بها وكي ثيابها، والاهتمام بتفاصيلها. أما علاقته بعمله فتنحصر في أن يذهب إلى وظيفته الحكومية ليوقع الحضور ثم يعود إلى البيت، لمواصلة مهامه المنزلية، التي يستمتع بها. وهذا يناقض التكوين الاجتماعي للرجل الشرقي، كما أن زينب التي يعتبرها امرأة متحررة ومثقفة لم تحب قصص ميلاد عن المخبز وأبيه، وظل الحوار بينهما غالباً يدور عن عملها هي.
بيد أن الفكرة المطروحة سردياً عن البطل ميلاد الذي تربى مع أخواته البنات، ومال إلى الأعمال المنزلية التقليدية التي اعتادت النساء على القيام بها، لا تنبثق من واقع اختياره الشخصي لهذا الدور عن وعي به، وإيمان بضرورة مشاركة الحياة اليومية بكل أثقالها مع المرأة، بقدر ما نتجت عن ضعفه وعجزه عن تنفيذ الدور الذكوري المنوط به مع العائلة والمجتمع. يقول "في تلك الليلة وأي ليلة كنت أجرجر مذلتي وراء ظهري وأبكي... هل يمكن أن أستعيد رجولتي؟ ثمة خياران لا ثالث لهما، إما أن أستعيد رجولتي أو أنهي حياتي... حدثتني نفسي أنني لم أتلقَّ تدريباً عملياً على أن أكون رجلاً، كل ما تلقيته هو تعليمات من أبي، ومحاولته لحشري في العسكرية".
هذا العجز تجلى أيضاً في أكثر من موقف حين ضربه والده وطلب منه أن "يسترجل"، ولما واجهه ابن عمه بما تلوكه الأفواه حول تخاذله، وغيره من المواقف، كان أول ما فكر به أن ينتحر في مشهد بدا أقرب إلى الكوميديا منه إلى الدراما حين علق الحبل في الثريا، ولما أراد فك الحبل من حول عنقه لخوفه من الموت سقط أرضاً هو والثريا، ثم قبل هذا المشهد، فكر الراوي بأن زوجته تخونه، بلا مبرر مسبق لهذا التفكير، سوى أنه لم يجدها في البيت، ولا يتذكر إن كانت أبلغته أنها ستذهب إلى بيت أهلها أم لا.
البيت ورمزيته
ثمة تمثيلات ورموز دلالية عدة تحفل بها الرواية وقد منحتها الخصوصية والحميمية حتى منتصف السرد، وكان من الممكن أن تتخذ أبعاداً أكثر عمقاً، مع تخلي النص عن تفاصيل وصفية وإنشائية بدت مكررة في عدة مواقف، وكان من الممكن الاستغناء عنها، مثل الحديث المتكرر عن الخبز، والخميرة، وطرق الإعداد والأنواع، مما قلص مثلاً من دلالة الخبز.
مثلت العلاقة مع البيت بالنسبة إلى ميلاد حقيقة موقفه الوجودي من العالم، هو الرجل الذي يريد الاحتماء من العالم الخارجي داخل جدران البيت. في المقابل أرادت زينب التي لا نسمع لها صوتاً، إلا عبر ما يقوله ميلاد، الانطلاق من البيت إلى العالم، مما ينقض الكثير من الأفكار المثبتة مسبقاً بالنسبة إلى الجنسين، وأهمها "العمل". زينب مثلاً التي نعرف أنها تحب الفن وتفوقت على رجال العائلة بأن أنقذت لوحات عمها من الضياع، تصفها والدتها بأنها تعرضت للإغماء "بسبب ضغوط العمل".
اختار الكاتب أن يضمن الرواية أيضاً أحداثاً سياسية مهمة مرت على ليبيا في سنوات الستينيات والسبعينيات، لكنها بدت مجرد خلفية للمشهد. وأراد من خلالها الإشارة إلى المراحل الزمنية، أيضاً في ربط فكرة أنواع الخبز بالاحتلال وزواله. يقول "في تلك الفترة، كان الخبز علامة على التفاوت بين طبقات المجتمع، فالطليان والبعض القليل من أبناء المجتمع الراقي من الليبيين يشترون الأنواع الفاخرة... أما بقية الشعب فكانوا يأكلون المحورة وخبز التنور من أسواق الخبز الشعبية. في الستينيات ومع ثورة النفط صار الليبيون يحبون الخبز الإفرنجي".
الهوية النفسية
لا يعاني ميلاد اضطراباً في هويته الجنسية، فهو في علاقته مع زوجته، وفي انجذابه الجسدي لاحقاً لمدام مريم، استطاع أن يضع الحدود الفاصلة بين ميوله النفسية للعوالم الأنثوية، وميوله الجسدية الذكورية نحو الأنوثة أيضاً. يحمل ميلاد تركيبة نفسية غير محددة ومضطربة كنتاج اجتماعي لأحداث عدة في حياته، أبرزها اتهامه بالغباء والضعف والتخنث، ومطالبته بأن يكون حامياً لنساء العائلة، فيما هو غير مهتم حقاً بهذا الدور، مما يزيد العبء النفسي داخله.
لذا ربما أرادت الرواية عبر اختيار النهاية المفجعة تأكيد مقولة "الضغط يولد الانفجار"، لكن هذا ممكن قبوله واقعياً من خلال تحولات نفسية تدريجية، أما فنياً فلم يبدُ مستساغاً أن تتحول الشخصية الرئيسة في شكل عبثي على المستوى النفسي، من النقيض إلى النقيض من دون مقدمات. لم يأتِ هذا مقنعاً، أو متماهياً مع البناء النفسي لشخصية ميلاد، ولا مع التصاعد الحدثي للتفاصيل المحيطة به.
تظل الإشارة إلى المستوى اللغوي للرواية، فقد اختار الكاتب لغة سلسة منسجمة مع المضمون الحكائي، بيد أن اللغة والأسلوب تضافرا معاً في إيقاع واحد منذ بداية النص وحتى نهايته. وفي الفقرات التي ينقل فيها السارد وجهات نظر شخصيات أخرى، ظل المستوى الخطابي غالباً عليه صوت الراوي ميلاد، من دون أي تنويعات لغوية أخرى.