Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النكتة المغربية أداة لـ"كسر التابوهات" وتنفيس اجتماعي وسياسي

تسخر من الإرهاب وكورونا والانتخابات ويرددها الفقراء والأغنياء وتذيب "الطبقية"

من مواسم النكت المزدهرة والمنتعشة فترة الانتخابات التشريعية في المغرب (أ ف ب)

"إذا بدأ أي شعب في إنتاج وصناعة النكتة، فاعلم أنه صار يشعر بالجوع والفقر"، مقولة الفيلسوف الدنماركي "كير كيغارد" لا تجانب الصواب كثيراً، وإن كانت ليست بهذا الحكم المطلق.

في المغرب ينتج ويصنع الناس النكتة، ليس بالضرورة بسبب فقر أو جوع، لكن خصوصاً عندما يعيشون أزمة جماعية، أو يمرون بأوقات عصيبة، أو لما يرغبون في التنفيس عن مشاعر الاحتقان، أو السخرية من واقع اجتماعي أو سياسي مدان.

النكتة في المغرب يرددها الفقراء، كما قد يروجها الأغنياء، فهي تضحك الجميع ويسمعها الكل، وبذلك تذوب "الطبقية" في المجتمع، لكنها تبقى لصيقة بمناطق جغرافية معينة أكثر من غيرها، وتزدهر في مواسم من دون سواها، كما أن هناك شخصيات مغربية اشتهرت بالنكتة "صدقاً أو بهتاناً".

النكتة نص تاريخي

النكتة في المجتمع المغربي قد تكون عبارات مكتوبة أو شفوية، أو حتى صوراً أو مقاطع فيديو أيضاً، خصوصاً في خضم تفجر الثورة التكنولوجية ووسائط التواصل الاجتماعي، لكن يظل هدف جميع هذه الأشكال رسم ابتسامة أو ضحكة على وجوه الآخرين.

تتمظهر النكتة، وفق دراسة جديدة للمؤرخ المغربي إبراهيم القادري بوتشيش، في عدة أصناف بحسب الدور الوظيفي الذي تقوم به، فهناك النكتة السياسية والنكتة الاجتماعية والنكتة الجنسية أيضاً.

وتبعاً للمؤرخ بوتشيش، قد يرتبط نوع النكتة بفئات مهنية، مثل نكت الأطباء، ونكت المعلمين، ونكت الحرفيين، ونكت الصحافيين، كما توجد نكت خاصة بالرجال، وأخرى تخص النساء، وثالثة ذات طابع جهوي أو قبلي أو عرقي.

الخيط الناظم لأغلب النكت كونها ترتبط بالواقع حتى لو ظهرت عليها مسحة من الخيال، وفق بوتشيش، فهي لا يمكن أن تنشأ من فراغ، بل هي انعكاس أمين للواقع وصدى للنظام السائد في المجتمع.

ويرى بوتشيش النكتة نصاً تاريخياً يسعى مؤلفها الذي يطلقها أول مرة إلى مطابقة إبداعه الفكاهي بالواقع، وربطه بمجريات الأحداث التاريخية والاجتماعية.

لكن نشأة النكتة لا تحيل أبداً على أول من أطلق النكتة، إذ يصعب إن لم يكن من شبه المحال معرفة أول من أطلق نكتة بعينها، بالتالي لا يمكن تحديد الملكية الفكرية للنكتة في المغرب وغيره من المجتمعات، فهي ترقى إلى أن تكون ملكية جماعية.

ثنائية الأمازيغي والبدوي

إذا كانت النكتة في المغرب لا يعرف لها مؤلف بعينه أو منتج محدد، بالنظر إلى تعدد الألسنة واللهجات واللغات المحلية، التي ترددها، فإن أكثر فئات جغرافية كانت ولا تزال موضوعاً للنكتة هي الإنسان الأمازيغي (الشلح)، وساكن البادية (العروبي بلغة المغاربة).

ولعل أكثر النكات انتشاراً على الألسنة داخل المجتمع المغربي تلك التي تتحدث عن الشخص أو التاجر الأمازيغي، الذي ينعت في هذه النكت بالبخل والحرص على جمع المال، والشخص البدوي (العروبي) الذي تصوره النكت إنساناً ساذجاً وغبياً في كثير من الأحيان.

وعلى مدى سنوات طويلة اشتهرت النكت المغربية بهذه الثنائية: الأمازيغي والبدوي (الشلح والعروبي)، ولم تكن تخرج عن هذا السياق إلا قليلاً، من أجل استدرار الضحك بإيحاءات يعتبرها كثيرون أنها عنصرية، ويعتبرها آخرون عفوية لا تقصد الإساءة إلى أي جهة أو قبيلة أو عرق.

يتذكر المغاربة النكتة، التي فجرت جدلاً سياسياً واسعاً عندما ألقاها المقرئ الإدريسي أبو زيد، القيادي في حزب العدالة والتنمية الإسلامي، قبل سنوات مضت. وقال فيها إن "أحدهم من فرط حرصه على المال، والخوف من سرقته، وضع مرآة في قعر درج النقود، حتى إذا فتحه تأكد أنه هو، وليس غيره"، الشيء الذي جلب عليه وابلاً من الانتقادات، بدعوى أنه كان يشير ضمنياً إلى تلك الصورة النمطية المتداولة التي تظهرها النكت المغربية عن الأمازيغ.

الصحراوي الجماني "ملك النكات"

ارتبطت النكتة في المغرب بشخصيات معروفة بعينها، لعل أشهرها القيادي الصحراوي الراحل خطري سعيد الجماني، والقيادي السياسي الراحل أرسلان الجديدي، و"بين بين" جليس ومؤنس الملك الراحل الحسن الثاني، ثم عبد الإله بنكيران الرئيس الأسبق للحكومة، والوزير الراحل محمد الوفا، وآخرون.

ولكن يبقى الجماني أشهر من التصقت النكتة باسمه، خصوصاً في سنوات السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، حيث كثيراً ما تبدأ النكت بعبارة "فعل الجماني، أو قال الجماني، أو يحكى أن الجماني".

بالمقابل، تكاد تتفق الروايات والشهادات الموثقة على أن الراحل الجماني كان رجلاً جدياً ولم يكن يطلق أو ينتج النكت، فلماذا التصقت "النكت السياسية" خصوصاً باسمه؟

يرى مهتمون بموضوع النكتة الشعبية، أن الجماني كان رجلاً متواضعاً، على الرغم من أهمية مركزه الاجتماعي والقبلي في الصحراء، التي تعتبر محور السياسة المغربية، كما كان عفوياً في تصرفاته مع القادة والمسؤولين، وكان متمرداً على "البروتوكولات" الرسمية، وهو ما قد يفسر التندر باسمه وإطلاق النكت عليه.

الباحث محمد باهي، صاحب كتاب "خطري ولد سيدي سعيد الجماني الأسد الجريح"، عزا سبب التندر والسخرية على الجماني في النكت، إلى أسباب سياسية بالأساس، حيث شهدت سنوات السبعينيات من القرن الماضي استرجاع المغرب للصحراء من الاحتلال الإسباني.

وشكلت الشخصية المحورية، التي اختار المغاربة التندر عليها وإطلاق النكت باسمها هي الجماني، في نوع أيضاً من التنفيس عن الاحتقان، الذي طالهم جراء تدهور أوضاعهم الاجتماعية، بعد اهتمام الدولة بالصحراء، وما تطلبته من ميزانية وأموال للإعمار.

مؤنس الملك وبن كيران

من الشخصيات الأخرى، التي طاولتها نكت المغاربة، السياسي الراحل محمد أرسلان الجديدي، ابن منطقة البادية، الذي تقلد مناصب وزارية وحزبية كبيرة.

وكانت النكت تصور الجديدي شخصاً أمياً وساذجاً، بينما كانت الحقيقة غير ذلك، فالرجل كان ابن مجتمعه، وكان يتحدث بلهجة منبثقة من منطقته في دكالة بالمغرب، فانطلقت الألسن تؤلف النكت باسمه وتتندر عليه.

بخلاف الجماني والجديدي، اللذين كانت النكت تطلق عليهما بشكل غير مسبوق في تاريخ المغرب المعاصر، هناك "محمد بين بين"، الذي كان يعمل قيد حياته مؤنساً للملك الراحل الحسن الثاني طيلة ثلاثة عقود، وكان متخصصاً في إلقاء وإنتاج النكت بنفسه عكس سابقيه.

وكان الحسن الثاني، وفق شهادات كثيرين، يستمتع بنكت وقفشات "بين بين" التي كان يؤلفها أحياناً كثيرة من عنده بالنظر إلى ثقافته الشعبية الهائلة واطلاعه على أحوال الناس، فكان أحياناً يؤلف نكتاً سياسية، وأحياناً ينقل نكتاً شعبية إلى الملك الذي لم يكن يتضايق من الأمر، وهي المعطيات التي وردت في رواية "مؤنس الملك" التي كتبها "ماحي بين بين" نجل المؤنس.

ومن الشخصيات السياسية الحالية، التي التصقت بالنكتة، يوجد عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة الأسبق، الذي صار المغاربة يروجون نكتاً باسمه، بالنظر إلى شهرته بالقفشات التي يطلقها في مجالسه الخاصة، وفي لقاءاته السياسية والحزبية.

ومن الوزراء الذين راجت بشأنهم نكت كثيرة، هناك وزير التعليم الراحل محمد الوفا، الذي كان معروفاً بـ"الوزير الضاحك"، حيث كان شعلة من الضحك يلقي بالقفشات والنكت أينما حل وارتحل، حتى إن هناك كتاباً صدر يجمع فيه قفشات الوزير الراحل بعنوان "خرجات الوزير الوفا في ما اختار واصطفى".

مواسم النكتة

إذا كانت للنكتة مناطقها الجغرافية وأجناسها العرقية وشخصياتها المعروفة، فإن لها أيضاً مواسم وأزماناً تروج فيها وتشتهر أكثر من غيرها.

وهكذا تنتشر وتنتعش النكتة في مواسم وأوقات الأزمات الاجتماعية أو الأوبئة الصحية، مثل جائحة كورونا، أو في الأحداث السياسية الكبرى التي تعرفها البلاد، مثل الانتخابات وغير ذلك من المواسم والأزمنة.

ولعل الخيط الناظم في نكت الأزمات أو نكت الأوبئة أو نكت الانتخابات أو نكت الأزواج والأسر، كونها جميعاً تسرق ضحكة خلسة ترتسم على الوجوه، في خضم هذه الأحوال والمشكلات الاجتماعية والنفسية.

وتتسم هذه النكت بالإيجاز وتكثيف المعنى والصور الذهنية، واللعب بالكلمات أحياناً، حيث لا يمكن لمستمع النكتة أن يتذوقها أو أن تضحكه إذا لم يكن أصلاً يعرف سياقات النكتة التي ينصت إليها.

الباحث السوسيولوجي منير برقادي ذكر في دراسة له حول النكت، ضمها كتاب جماعي حول آثار جائحة كورونا، أن "النكت باتت كتعبير اجتماعي ذلك المتنفس النقدي الذي يسخر من الواقع الاجتماعي، الذي تعمه أزمات أو مشكلات أو أمراض اجتماعية وسياسية، مثل الظلم والفساد والرشوة والقهر".

ووفق برقادي، "النكتة تخفي الوجه الآخر للواقع الاجتماعي وتفضح بعض مظاهره غير المقبولة، التي تسعى هذه النكت إلى تغييرها بطريقة فكاهية ساخرة".

وتبعاً لذات السوسيولوجي المغربي، النكتة أضحت "وسيلة من وسائل النقد والتجاوز وتوجيه أسهم الاتهام والتقويم والتعبير عن رفض بعض الممارسات والأخطاء والظواهر المخلة بتوازن وتقدم المجتمع".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نكت الإرهاب

انتشرت نكت مثلاً عندما عاش المغرب أحداثاً إرهابية لعل أبرزها الهجوم الانتحاري، الذي شهدته مدينة الدار البيضاء في 16 مايو (أيار) 2003، تعكس سخرية المغاربة من المتطرفين والإرهابيين، وتحول اللحظة الدرامية إلى لفتة كوميدية ذات أبعاد ودلالات.

ومن النكت الشهيرة في هذا الصدد، أن إمام مسجد، بعد التفجيرات الإرهابية، كان يصلي بالناس ويتلو سورة الفاتحة ولما بلغ آية "اهدنا.."، صمت برهة ولم ينبس ببنت شفة، فظن المصلون خلفه أنه نسي الآية، فقال المؤذن خلفه "اهدنا الصراط المستقيم"، ليتلفت الإمام ويقول للمصلين "كونوا شاهدين، هو من قالها ولست أنا".. والسبب أن "الصراط المستقيم" كان اسم جماعة تكفيرية ارتبط اسمها بأحداث الإرهاب في المغرب.

وتظهر النكتة مدى الخوف، الذي استبد بالمغاربة بعد تلك الهجمات الدموية، التي هزت المغرب في حدث غير مسبوق، لتتحول إلى مادة دسمة للتندر والتنكيت، للتخفيف من حدة اللحظة الدرامية التي عاشها المغاربة حينئذ.

وفي السياق، يرى المؤرخ بوتشيش، أن مثل هذه النكتة تعكس نوعاً من التوجس والشعور بعدم الأمان، كما يمكن اعتبارها مصدراً في التأريخ للتطرف الديني، وما يطرحه من تخوفات المجتمع المغربي بسبب إمكانية اتهام أي شخص مشتبه فيه بالتطرف الديني، تبعاً لقانون مكافحة الإرهاب الذي تم سنه بعيد أحداث الدار البيضاء.

نكت كورونا

من الأزمات الصحية، التي أنتجت نكتاً كثيرة في المغرب، جائحة كورونا، التي أسعفت إبداع المغاربة في إنتاج مستملحات ونكت مضحكة تدور عن الوباء الذي عصف بحياة كثيرين، وحول حياة آخرين إلى جحيم، فلم يجد المغاربة بداً من مواجهة ذلك سوى اللجوء إلى إلقاء القفشات وترويج النكات.

ويرجع سوسيولوجيون الكم الهائل من النكت التي عرفتها فترة الجائحة، خصوصاً في زمن الإغلاق والحظر، إلى كون النكتة كانت بمثابة تسلية وسلوى للعديد من الناس الذين وجدوا أنفسهم محاصرين وسط منازلهم، أو يتحركون في دوائر محدودة بشروط واحترازات لم يعهدوها من قبل.

وانتشرت نكت تتناول الإجراءات الحكومية لمواجهة الفيروس، وأخرى تسخر من عدد من رجال السلطة في مواجهة الجائحة، ونكت اختصت بالتعليم الافتراضي في زمن الجائحة، بينما أخرى تتحدث عن واقع الأزواج والأسر تحت رحمة كورونا، ومن بين هذه الأخيرة نكتة بالدارجة المغربية تقول على لسان أحد الأزواج "اليوم كله وزوجتي تمر من جانبي في البيت، وترفع يديها قائلة يا رب ارفع عنا هذه المصيبة، ولا أدري هل تقصدني أنا أم كورونا".

ويرى الباحث الاجتماعي منير برقادي، في دراسته، أن هذه النكت تعكس وضعية الأسرة المغربية في بعض مظاهرها الهشة من دون تعميم، وهي الوضعية التي تعيشها فئات عريضة في المجتمع، إذ إن توتر العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار مؤسسة الزواج يعرف حالة من الاضطراب، ويشتد أكثر حينما تعيش الأسرة تحدياً موضوعياً هو تجربة الوباء المعدي الذي يفرض عليها البقاء في البيت والتقيد بعدم الخروج".

نكت الانتخابات

من مواسم النكت المزدهرة والمنتعشة فترة الانتخابات التشريعية في المغرب، التي يقود الحزب الفائز بها الحكومة لمدة خمس سنوات. وتروج نكت كثيرة حول السياسة والانتخابات وواقع الناس، ومدى تزلف بعض المرشحين والسياسيين في زمن الانتخابات.

وتذهب أغلب النكت في المغرب التي تتناول موضوع الانتخابات مثلاً أو أحداثاً سياسية بعينها، إلى كشف الواقع الذي يعيشه المواطن، مقارنة مع السياسي الذي كثيراً ما تصوره النكتة شخصاً انتهازياً متملقاً وصولياً، ما إن يفوز بالانتخابات حتى يدير وجهه لمن صوتوا عليه.

وتقول إحدى النكت المنتشرة في زمن الانتخابات بالمغرب "اتصل شخص بزعيم حزب في الهاتف فرد عليه "من معي"، فقال المتصل "لا أحد معك.. الجميع ذهبوا مع خصمك".

المؤرخ بوتشيش يعتبر أن "النكتة السياسية" بصفة عامة تتسم بنوع من التفاعل والتشاركية، وتتميز بكونها وسيلة للنقد والفضح، سواء بالكلمة أو حتى بالرسوم الكاريكاتورية، وبأن النكتة السياسية أضحت سلطة مضادة للسلطة الرسمية"، يتمخض عنها أحياناً مواقف مفصلية في تاريخ المجتمع والبلاد.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات