Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل قام ماركو بولو حقا بتلك الرحلة التي وصفها في كتابه "تقسيم العالم"؟

دانتي شكك في ذلك وكثر من المفكرين والمؤرخين رأوا أن "الرحالة الشهير" لم يكتبه

رسم يمثل مشاهد من كتاب ماركو بولو "تقسيم العالم" (أمازون)

بعد كل شيء يبقى السؤال قائماً والحيرة سائدة: هل حقاً قام الرحالة الإيطالي البندقي ماركو بولو بتلك الرحلات التي وصفها في كتابه "تقسيم العالم"، بالتالي وضع عنها ذلك النص الذي سيضحى من أشهر نصوص عصر النهضة فاتحاً الفكر الأوروبي على تعامل مع الشرق يختلف عن التعامل الذي كان يمارسه؟ حسناً، يرى معاصر ماركو بولو، النهضوي الكبير دانتي أليغييري صاحب "الكوميديا الإلهية" أن ثمة دلائل عديدة تقول حقاً، إن الرحالة الشهير قد قام حقاً بالرحلة، وبالشكل الذي سنتناوله بعد سطور، ولكن النص الذي كتبه عنها يمكن أن يكون مبنياً عليها في أساسه، ولكن من المستحيل أن يكون "نزيهاً" في فصوله وصفحاته جميعاً. كان بالأحرى، ودائماً في رأي دانتي الافتراضي، تجميعاً لحكايات ونصوص ثانوية أخرى ضمها ماركو بولو إلى ما رآه هو شخصياً وما رواه له عمه وأبوه اللذان "ربما كانا قد سبقاه إلى هناك بزمن فلحق بهما أو رافقهما في رحلات متأخرة من سفرهما". والحقيقة أن ما يقوله دانتي هنا يمكن اعتباره الأخف وطأة بين الآراء السلبية التي تناولت بالتكذيب وما يشبهه ذلك الكتاب الذي لا بد من الإقرار مع ذلك بأهميته القصوى في تاريخ العلاقة بين جناحي العالم القديم، بل تاريخ النظرة الأوروبية إلى الشرق.

نظرة مختلفة عن السائد

فالواقع أن للكتاب، في هذا المجال بالتحديد أهمية قصوى سواء أكان مختلقاً أو حقيقياً. ففاعليته كانت بالغة القوة على تلك العلاقة، حيث إنه لا سيما في عديد من صفحاته وفصوله الرائعة، والمكتوبة بلغة بالغة الجمال والود، على عكس أخرى صورت الأمور بقدر كبير من القسوة، تمكن من أن ينسف صورة كان الغرب يحملها عن الشرق تضعه في خانة العدو الدائم، الهمجي والمعتدي والراغب دائماً في اكتساح أراضيه وتدمير شعوبه. ونعرف أن تلك الصورة التي سادت في العصور الوسطى إنما أتت من خوف من انتشار الإسلام حتى الأندلس، من ناحية ومن ذكريات الغزوات الشرقية لعقر دار أوروبا من ناحية ثانية. أتى يومها نص ماركو بولو ليبدل الصورة. ولو أنه لم يفعل سوى ذلك، لاستحق المكانة الكبيرة التي كانت، ولا تزال إلى حد كبير، له في تاريخ الفكر العالمي، كما في تاريخ ما سيسمى لاحقاً بـ"الاستشراق" في جانبه الإيجابي على الأقل. وهو الجانب الذي حول النظرة الغربية إلى الشرق إلى نظرة افتتان خلقت مئات الأعمال الفكرية والفنية والأدبية على الضد من النظرات السابقة التي كانت قد كرست العداء والخوف.

الظروف الجديدة

مهما يكن من أمر، فإننا نعرف - كما كان الأوروبيون يعرفون - أن كثيرين زاروا، وقبل ماركو بولو، بلدان الشرق الأقصى، كما كتب كثيرون عنها وبإيجابية في أحيان كثيرة، لكن أصوات هؤلاء كانت على الدوام خفيضة، ولم تسهم الظروف في انتشارها، ما حدث مع ماركو بولو كان العكس: انتشر كتابه وسط ظروف عالمية وفكرية كانت استجدت حينها، علماً أن "تقسيم العالم" سيظهر أنه كتب بالفرنسية أولاً، وقرأه الأوروبيون وتعرفوا من خلاله على صين كوبلاي خان، الذي صار منذ ذلك الحين أشبه بالشخصية الأسطورية، وتعرفوا كذلك إلى اليابان، التي راحوا يسمونها بلاد الشمس المشرقة، والتي كانوا نادراً ما سمعوا بها من قبل، وتعرفوا إلى حياة القصور والشعوب والعادات والتقاليد والاختراعات وضروب التقدم في مجاهل آسيا، وأيضاً في وسطها، وفي الشرق الأدنى وشرق أفريقيا. ومن المؤكد أن الأوروبيين، وبالنسبة إلى هذين الحيزين الجغرافيين الأخيرين الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، سيتلمسون في ثنايا كتاب ماركو بولو صورة مختلفة كثيراً عن تلك الصورة التي كانت لديهم مستقاة من رحالة ومبشرين ورجال دين زاروا المناطق وعادوا منها بانطباعات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها كانت مخيفة تنذر بالأهوال!!

ماركو وابن بطوطة

فما الذي يصفه ماركو بولو في كتابه- الذي يميل باحثون عرب وكثر من غير العرب أيضاً، إلى أن جزءاً كبيراً منه مستقى من رحلات ابن بطوطة، مع أن الرحالة الإيطالي عاش وكتب قبل ولادة ابن بطوطة بما لا يقل عن عقدين من الزمن؟! يصف ماركو بولو في كتابه ذلك العالم، ولا سيما سنوات إقامته هو فيه، وإقامة عمه وأبيه هناك طوال ما يقرب من ربع قرن، لكنه أكثر من هذا، وبين السطور، يصف الحياة في أوروبا نفسها إذ يقارن بينها وبين الحياة التي يعيش في خضمها الآن، هو الذي، في كل مرة يبدي اندهاشه بما يراه وبما يسمعه في بلاد الحضارات البعيدة، إنما يعبر في انتقاد لاذع عما ينقص موطنه. ولعل في هذه المقارنة بين بلاد التتار والمغول والصين وفارس واليابان وازدهار حضاراتها، وما ينقص أوروبا، تكمن أهمية هذا الكتاب، في تحريك المخيلة الأوروبية، هذه المخيلة التي لم تكف منذ ذلك الحين عن الاهتمام بالشرق، أولاً من موقع الصدمة وبعد ذلك من موقع التوق الرومنطيقي. وفي هذا الإطار، لم يكن صدفة أن يلعب كوبلاي خان دوراً كبيراً في مخيلة الأوروبيين الاستشراقية. فتصدت من بعد نص ماركو بولو "الرائد" هذا في مجال التعريف به، كتب كثيرة، شعرية ونثرية تحوله من إمبراطور صيني إلى أسطورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المرور بـ"بلاد مدهشة"

قام ماركو بولو إذاً بالرحلة إلى الصين عبر آسيا، مع أبيه وعمه بين عامي 1271 و1295. وكان الأب والعم، وهما تاجران من البندقية، قد سبق لهما أن زارا الصين قبل اصطحاب ماركو الشاب إليها، وكان كوبلاي خان، إمبراطور البلاد قد استقبلهما بكل احترام وكلفهما حتى بإيصال رسالة منه إلى البابا. وحين أوصل الرجلان الرسالة يبدو أن البابا أحب أن يجيب عليها بأحسن منها، وقد سرته تلك المبادرة الآتية من المكان البعيد، فكلف بإيصال الرد إلى والد ماركو بولو وعمه، اللذين إذ عادا بالجواب إلى كوبلاي خان، اصطحبا معهما هذه المرة ماركو الشاب، في رحلة عبروا خلالها طوال فترة لا بأس بها من الزمن مناطق عديدة في كل من أرمينيا وفارس وصولاً إلى الهند والصين، مروراً ببلدان "مدهشة لم نكن سمعنا بها من قبل"، كما يشير ماركو بولو في إحدى صفحات الكتاب. كما ويخبرنا أنهم كانوا طوال الطريق يتفحصون منتجات البلدان والمدن التي يزورونها ويسجلون انطباعاتهم عنها، عازمين على المتاجرة بها مستقبلاً. وفي الصين، وجد البندقيون الثلاثة أنفسهم في بلاد هادئة ووسط شعب مهذب، وعاشوا في بيوت مرفهة تحف بها طرقات أنيقة مزروعة بالأشجار على جانبيها. باختصار، سيقول آل بولو، إنهم إذ ذهبوا أولاً وهم يعتقدون أنهم سيلتقون قوماً همجيين، إنما التقوا بدلاً من ذلك شعوباً متحضرة في شكل استثنائي "شعوباً تفوق أخلاقها وعوائدها ما في بلداننا تقدماً". المهم أن كوبلاي أبقاهم لديه عشرين سنة أخرى، ثم حين أعلنوا عزمهم الرحيل سلمهم ابنته دليلاً على ثقته بهم. وهذه الابنة هي التي سيقول ماركو لاحقاً إنه اصطحبها إلى فارس.

إذا كانت حكاية الرحلة تنتهي بالعودة في عام 1295، فإن حكاية الكتاب تبدأ بعد ذلك مباشرة، إذ تقول الحكاية إنه حين عاد ماركو بولو إلى إيطاليا، وجد نفسه، وهو البندقي، منخرطاً في معركة بحرية ضد سفن مدينة جنوى المنافسة. وهو أسر خلال المعركة وأودع السجن في هذه المدينة، وهناك في السجن تعرف إلى أسير يدعى روستيسيان البيزي، وأملى عليه فصول الكتاب، الذي أطلق عليه أول الأمر اسم "المليوني" لسبب لا يزال غامضاً، وربما يحمل إشارة إلى طول الطريق التي قطعها في رحلته...، ثم عرف باسم "تقسيم العالم"، وكذلك باسم "كتاب العجائب". وكما أشرنا نال الكتاب منذ نشره شهرة كبيرة، وانقسم إزاءه الناس بين مصدق لكل ما فيه، بانياً على ذلك أحلاماً وخيالات، ومكذب رأى أن ماركو بولو اخترع معظم ما يرويه، أو هو- على الأقل- سرق مشاهدات أبيه وعمه. ومهما يكن من الأمر، فإن ماركو بولو عمر عقوداً بعد ذلك، وعاد إلى مدينته إثر إطلاق سراحه، وعاش حياة هادئة يتاجر بما أتى به أبوه وعمه ويروي حكايته لمن يحب أن يسمع حتى رحل في عام 1323 عن عمر يناهز السبعين.

المزيد من ثقافة