Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

107 مليارات دولار للدفاع... هل هي قيامة المارد الألماني؟

أيقظت الحرب الأوكرانية اهتمام العملاق الاقتصادي الأوروبي بالقوات المسلحة وتجاوز فكرة السلام مع موسكو "بأي ثمن"

منذ انتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي قلصت ألمانيا بشكل كبير حجم جيشها من نحو 500 ألف جندي عام 1990 إلى 200 ألف الآن (أ ف ب)

في خطابه الشهير بالبرلمان الألماني بعد يومين فقط من الحرب في أوكرانيا، وصف المستشار الألماني أولاف شولتز، التحرك الروسي بأنه "نقطة تحول تهدد نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية"، معلناً في الوقت ذاته، انقلاباً تاريخياً في السياسة الأمنية والدفاعية لبلاده، شمل إلغاء القواعد المتعلقة بصادرات الأسلحة، ورصد ميزانية خاصة بنحو 100 مليار يورو (107 مليارات دولار) لإعادة تسليح الجيش وتحديث معداته، ما مثّل محطة فارقة في عقلية العملاق الاقتصادي الأوروبي، وكذلك فكر المستشار المنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي كان حتى ساعات قبل الرابع والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، يعتقد أن "ذنب برلين التاريخي والواجب الأخلاقي لتعويض الجرائم النازية، يعني السلام مع موسكو بأي ثمن".

وعلى الرغم من أن مسألة الجيش وتحديثه كانت ولا تزال "نقاشاً قديماً متجدداً" داخل المؤسسات الألمانية، فإن الحرب في أوكرانيا وتداعياتها التي غيرت، وفق مراقبين، "المشهد الأمني في أوروبا بأكمله، وأعادت تشكيل نمط التفكير في القارة العجوز"، أيقظت اهتمام برلين بالقوات المسلحة، الجانحة نحو السلام بسبب إرث "الحقبة النازية"، وعليه سرَّعت "عملياتياً ودستورياً" من خطوات إعادة تسليح الجيش بميزانية ضخمة، وتمكن الحزب الحاكم (الاشتراكي الديمقراطي) أواخر مايو (أيار) الماضي، من إبرام اتفاق مع المعارضة المحافظة لتخصيص الأموال المطلوبة لتحديث الجيش لمواجهة "التهديد الروسي"، لتعود معها أسئلة المراقبين والمتابعين للشأن الألماني، حول الطموحات العسكرية للعملاق الأوروبي، وقدرته على استعادة مكانته العسكرية بين الكبار حول العالم، لا سيما بعد أن تمكنت القوى الكبرى إبان الحرب العالمية الثانية من تحجيم نمو برلين العسكري، ودفعها نحو التخلي عن طموحاتها العسكرية.

ومنذ انتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي، قلصت ألمانيا بشكل كبير حجم جيشها من نحو 500 ألف جندي عام 1990 إلى نحو 200 ألف الآن، كذلك لم يشهد جيشها تحديثات تواكب التطورات العسكرية والتحديات الأمنية الدولية، وبات أقل من 30 في المئة من السفن الحربية الألمانية "تعمل بكامل طاقتها"، بينما عدد من الطائرات المقاتلة غير صالحة للطيران، ويشكو مسؤولوها العسكريون بانتظام من حدوث أعطال في المقاتلات أو السفن أو الدبابات، لكن الآن، ووفق ما ذكرت تقارير ألمانية، فإن سلاح الجو على موعد مع ميزانية تحديث بنحو 40.9 مليار يورو (نحو 43 مليار دولار) ستنفق على عمليات تطوير وشراء تشمل طائرات جديدة من طرازي "يوروفايتر" و"أف- 35"، وبديلاً لطائرات "تورنادو" المقاتلة، وكذلك تم تخصيص 19.3 مليار يورو (20.64 مليار دولار) لسلاح البحرية و16.6 مليار يورو (17.75 مليار دولار) للقوات البرية، وذلك لشراء سفن وغواصات جديدة وتطوير بديل لمركبة المشاة القتالية "ماردر"، ما يعني بالإجمال أن إنشاء صندوق خاص للمشتريات العسكرية بنحو 100 مليار يورو (107 مليارات دولار) يتيح للبلاد تحقيق هدف حلف شمال الأطلسي المتمثل بإنفاق كل دولة عضو اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع.

عملاق ملجم

لم تكن قصة الجيش الألماني "صعوداً وانحساراً" كأي قصة لجيوش القوى الكبرى حول العالم وعلى مدى التاريخ، فذاك الجيش الذي تقول التقديرات إن تعداده البشري تجاوز الـ18 مليوناً في أربعينيات القرن الماضي، وصلت به الحال ليقول عنه قائده الحالي، الجنرال الفونس ميس، في العام الثاني من العقد الثاني في الألفية الثالثة، إنه "خالي الوفاض ووضعه سيئ ويعاني إهمالاً طويل الأمد في الجاهزية العسكرية"، مع تزايد التخوفات الألمانية من الطموحات الروسية في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا.

 

ومع تعدد المحطات المصيرية في تاريخ الجيش الألماني الذي أُسس في 1871، مع توحيد ألمانيا وتشكيل الإمبراطورية بقيادة ملك بروسيا (إحدى مقاطعات الدولة) فيلهلم الأول، يبقى مشهد الاستسلام غير المشروط للجيش في الثامن من مايو عام 1945، في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) أحد أبرز المحطات في مسيرة القوة الأوروبية العظمي، إذ "حجّم إرث الحقبة النازية من طموحات ألمانيا العسكرية".

ووفق الموسوعة البريطانية، فقد شهد الجيش الألماني تحولات جذرية في مسيرته، ومع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى عام 1919، وقيام الثورة على الإمبراطورية في البلاد، تم حل الجيش مع إطلاق عهد الجمهورية البرلمانية الديمقراطية، وفي ذلك التوقيت، تم تقييد الجيش الجديد من حيث الحجم والتسليح بموجب شروط معاهدة "فرساي" التي أنهت حالة الحرب بين ألمانيا وقوات الحلفاء، وألزمت ألمانيا بألا يتجاوز قوام جيشها 100 ألف جندي، وألا تنشئ هيئة للأركان العامة، وألا تقتني الأسلحة الثقيلة مثل المدرعات والغواصات والسفن الحربية الكبيرة، وكذلك منع التجنيد الإجباري وفقاً للمعاهدة.

لكن، ووفق الموسوعة ذاتها، فإنه على الرغم من "قيود فرساي"، بدأت قيادات الجيش الألماني "الرايخسفير" بالتحايل عليها من خلال سلسلة إجراءات سرية، مثل اختبارات أسلحة غير مصرح بها في الاتحاد السوفياتي، وإنشاء مدرسة عسكرية تدريبية للقادة، وتشكيل هيئة سرية للأركان العامة. وفي عام 1923 جرت مفاوضات سرية بين قوات "الرايخسفير" والاتحاد السوفياتي السابق، وكانت نتيجتها الاتفاق على دعم ألمانيا الصناعة السوفياتية مقابل تدريب الأركان العامة السرية لجيشها من قبل قادة في الجيش الأحمر. كذلك حصل الألمان على ذخيرة مدفعية من السوفيات، وتم إنشاء مدرسة سرية للطيران، وعملوا على تطوير أسلحة بشكل سري.

 

في ذلك التوقيت، أرجع مؤرخون أسباب التحركات العسكرية الألمانية للتحايل على قيود "فرساي"، إلى السعي لإعادة الجيش الألماني على خريطة القوى العسكرية العالمية، مشيرين في الوقت ذاته إلى أن معظم القادة العسكريين في ذلك التوقيت كانوا خارج سيطرة السياسيين، وضمنوا الحصول على استقلالية واسعة النطاق، ومعه تحولت قوات "الرايخسفير" إلى دولة مستقلة داخل ألمانيا، وهو ما بدا واضحاً في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، إذ بدأت قوة "الرايخسفير" في التعاظم، وقادت أحداث عام 1932، حيث الاضطرابات العنيفة التي شهدتها العاصمة برلين إثر ما عرف بالانقلاب البروسي، إلى إعلان الطوارئ ونقل السلطة التنفيذية بشكل مؤقت إلى قوات الجيش.

بعد ذلك بعام، وتحديداً في 1933، شهدت مسيرة الجيش الألماني تحولاً كبيراً عندما شغل أدولف هتلر منصب مستشار الدولة، إذ وعد بأن يبقى "الرايخسفير" القوة المسلحة الوحيدة لألمانيا، وأعلن إعادة التجنيد الإجباري. وفي ظل حكم هتلر أمل قادة الجيش في زيادة الجهود الساعية لإحباط قيود معاهدة "فرساي" وبناء جيش قوي وحكومة حازمة، وعليه بدأت قوات "الرايخسفير" برنامجاً سرياً للتوسع، وزادت القوة النشطة إلى نحو 300 ألف رجل، وزاد عدد المجندين بشكل ملحوظ خلال عام واحد فقط، وأجرى هتلر تغييرات هيكلية في الجيش بحيث يضمن ولاءه الكامل للنازيين. ومع حلول 1935 كان هتلر تمكن من بناء جيش قوي ذي قدرة هجومية فتاكة قلبت موازين القوى العسكرية في العالم، واعتمد على التجنيد الإجباري الشامل، مغيراً الاسم الرسمي للجيش من "رايخسفير" إلى "فيرماخت" (قوة الدفاع).

 

وتوضح الموسوعة البريطانية، أنه مع اشتعال فتيل الحرب العالمية الثانية، برز الـ"فيرماخت" كقوة لا يستهان بها مؤلفة من 18 مليون رجل، وحقق انتصارات واسعة في بدايات الحرب في أكثر من دولة، قبل أن يأتي أول الانكسارات العسكرية له في معركة موسكو عام 1941، لتبدأ بعدها قوات الحلفاء باستغلال نقاط ضعف الـ"فيرماخت" الاستراتيجية واللوجيستية، وبنهاية الحرب في 1945 كان الجيش الألماني "النازي"، قد فقد ما يزيد على 11 مليوناً من قواته بين قتيل أو مفقود.

انهيار الـ"فيرماخت" وتشكيل الـ"بوندسفير"

على وقع الجرائم الواسعة التي ارتكبتها القوات النازية في أوروبا وعلى الصعيد العالمي، بقي ما اعتبر حينها "جرائم حرب في الاتحاد السوفياتي سابقاً وبولندا ويوغوسلافيا واليونان وإيطاليا، فضلاً عن المحارق النازية المعروفة" إرثاً ثقيلاً يلاحق المؤسسة العسكرية الألمانية.

فما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وانهار الرايخ الثالث (الإمبراطورية الألمانية الثالثة)، في مايو 1945، توافق الحلفاء (الدول المنتصرة في الحرب) على ضرورة جعل ألمانيا دولة منزوعة السلاح، خوفاً من إمكانية تجدد سيناريو الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وعودة القوميين المتشددين للسلطة مرة أخرى، وعليه اقترح الحلفاء تجريد القوة الأوروبية من سلاحها وتفكيك مصانع السلاح ومجمعاتها الصناعية التي قد تستخدم مستقبلاً في الصناعة الحربية.

 

لكن ومع انطلاق الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي (بقيادة الولايات المتحدة) والشرقي (بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق) وتقاسم الطرفين النفوذ في ألمانيا بين الشرقية والغربية، أعاد الغرب التفكير في الوضعية العسكرية لألمانيا الغربية، تخوفاً من احتمالات انضمامها للمعسكر السوفياتي، وتأسس جيش للجزء الغربي من ألمانيا (أواخر عام 1955) اعتمد بالأساس في تسليحه على برامج المساعدات الأميركية، وتم دمجه في العام ذاته، في هيكل قيادة حلف الناتو (أُسس عام 1949).

وبحسب الموقع الرسمي، للـ"بوندسفير" (الجيش الألماني الغربي)، فقد وصل قوام الجيش بعد ثلاثة أعوام من تأسيسه إلى نحو 100 ألف رجل، وزودته الولايات المتحدة بالسفن الحربية، مع السماح لجنود البحرية الألمانية بالتدرب على السفن الأميركية، وتدريجياً، بلغ قوام الجيش الألماني للجزء الغربي من البلاد نحو 500 ألف عسكري، بعد أن تحول أفراد حرس الحدود الألمان إلى عسكريين بالـ"بوندسفير"، كما تم إقرار برنامج خدمة عسكرية للشباب. وفي المقابل، كان جيش ألمانيا الشرقية جزءاً من حلف وارسو (حلف وقع أعضاؤه بقيادة الاتحاد السوفياتي على معاهدة أمن مشترك عام 1955 خلال الحرب الباردة).

ومع اتحاد الألمانيتين وانهيار سور برلين، وقّعت الدولة الجديدة مع القوى الأربع التي فرضت سيطرتها على الألمانيتين بعد الحرب العالمية الثانية (فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) معاهدة منحت ألمانيا الاستقلال التام، وعليه تم دمج جيشي الألمانيتين في جيش واحد كان قوامه وقتها نحو 585 ألف جندي، لكن المعاهدة اشترطت ألا يزيد قوام الجيش الاتحادي الجديد على 370 ألف جندي، وفق الموقع الرسمي للـ"بوندسفير"، وهو الأمر الذي التزمت به ألمانيا الموحدة، وبدأت في التقليص التدريجي لتعداد جيشها الاتحادي ونفقاته.

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، ومع رغبة الحلفاء الأوروبيين وانخراط القوات الألمانية في مهام عمليات تدعيم السلام حول العالم ضمن قوات حلف "الناتو"، بدأت أولى المشاركات الخارجية للجيش لدعم السلام في أفغانستان عام 1994، وهو الأمر الذي استمر لاحقاً في مهام متعددة ضمن المظلة الأممية.

محاولات للعودة لم تكتمل

لم يغب عن بال الساسة الألمان طوال العقود الثلاثة الأخيرة فكرة تحديث وتطوير المؤسسة العسكرية، إذ بقي النقاش حول هذا الأمر يلقى شداً وجذباً في الأوساط الألمانية، وكذلك بين الدول الغربية المتخوفة من "صحوة عسكرية ألمانية" تعود معها "حقب تاريخية مظلمة بالنسبة إلى القارة الأوروبية".

 

وفق مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، بدأ أول الجدالات حول الجيش الألماني داخل ألمانيا الموحدة، مع طلب الحلفاء في 1994 مشاركة قوات ألمانية في عمليات عسكرية خارج البلاد، في ظل نص الدستور الألماني على حصر مهام الجيش داخل البلاد فقط، مشيرة إلى أن "الجدل استمر داخلياً حتى تدخلت المحكمة الدستورية وقضت بشرعية مشاركة الجيش الألماني في عمليات عسكرية خارج البلاد، بشرط أن يتم ذلك في إطار المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو حلف (الناتو) مع اشتراط موافقة البرلمان على تلك العمليات، وهو الأمر الذي عكس التوجه الجديد في السياسات الخاصة بجيش جمهورية ألمانيا الاتحادية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفيما استمر الجيش الألماني في المشاركة بمهام حلف الأطلسي الخارجية، كانت ميزانية الجيش ذاته تواجه تقليصاً سنوياً من قبل القيادة السياسية بعكس أغلب الحلفاء الأوروبيين، إذ انكمشت موازنة الدفاع الألمانية من 3.2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي عام 1983 إلى 1.2 في المئة عام 2014، كما علّق التجنيد الإجباري في 2011، وعليه باتت القوة العسكرية لأكبر اقتصاد أوروبي، وأحد أكبر الاقتصادات في العالم، في مهب "التقادم"، وأصبح الجيش غير قادر على مجابهة التحديات الإقليمية، بحسب مجلة "فورين أفيرز"، ما استدعى معه شكوى مستمرة من قادة الـ"بوندسفير" من العوار الذي أصاب "قدرات الجيش" التي لم تعد ملائمة لأكبر اقتصاد أوروبي، بسبب غياب التطوير ونقص المعدات والصيانة.

في هذا الشأن، كان لافتاً إقرار الجيش الألماني في 2014 بوجود مشكلات مزمنة في المعدات جعلت قواته المسلحة غير قادرة على الوفاء بوعودها الدفاعية لحلف شمال الأطلسي، ومن بينها خلل في أنظمة الأسلحة والمدرعات والطائرات والسفن البحرية غير الصالحة للخدمة الفورية بسبب إهمال الصيانة والنقص الخطير في المعدات وقطع الغيار، ونتيجة لذلك ومع ضم روسيا شبه جزيرة القرم، مارس (آذار) 2014، وتزايد حجم التوترات بين موسكو والغرب، أعلنت المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل، في 2015 عن زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي، وخطط لتطوير أفرع الجيش شملت العمل على توسيع أسطول الدبابات، وزيادة أسطول الغواصات، وتطوير الطائرات المقاتلة. ومع حلول 2016 أعلنت ألمانيا أنها ستنفق 130 مليار يورو على معدات جديدة بحلول 2030، وستضيف ما يقرب من سبعة آلاف جندي بحلول 2023، في أول توسع عسكري ألماني منذ نهاية الحرب الباردة، قبل أن تعلن برلين توسعاً آخر عام 2017 من شأنه زيادة عدد جنودها المحترفين بمقدار 20 ألف جندي بحلول 2024.

 

في 2020 بلغ الإنفاق العسكري في ألمانيا 52.8 مليار دولار، وهو الرقم الذي بقي أقل من مستويات الإنفاق العسكرية المماثلة في دول الحلفاء، وكان محل انتقاد بعض الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي طالما طالب بزيادة النفقات الدفاعية الألمانية لتصل لنحو اثنين في المئة من إجمالي إنتاجها المحلي.

لماذا التغيير الآن؟

مع انطلاق الحرب في أوكرانيا وزيادة المخاوف الغربية من الطموحات العسكرية الروسية، في أخطر أزمة "جيوسياسية" تواجه القارة العجوز منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدلت ألمانيا نظرتها إلى المؤسسة العسكرية، وأحدث المستشار أولاف شولتز انقلاباً تاريخياً في السياسة الأمنية والدفاعية لبلاده، بعد إعلانه في فبراير الماضي، تخصيص 100 مليار يورو (107 مليارات دولار) لتحديث الجيش الألماني ومعداته خلال السنوات القليلة المقبلة، ما يتيح لبرلين تحقيق هدف حلف شمال الأطلسي المتمثل بإنفاق كل دولة عضو اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بشكل دائم (بعد أن كان 1.3 في المئة سابقاً).

وكان لافتاً سرعة إبرام الحزب الاشتراكي الديمقراطي (الحاكم) مع المعارضة المحافظة اتفاقاً، أواخر مايو الماضي، يقضي بإنشاء صندوق خاص للمشتريات العسكرية خارج الميزانية العامة، على أن يتم تمويله من خلال ديون إضافية، الأمر الذي تطلب تعديلاً دستورياً يتعلق بالميزانية لتجاوز قانون "كبح الديون" المنصوص عليه في الدستور، الذي يحد من الاقتراض الحكومي.

ووفق ما كتبه كل من توماس كلاين بروكهوف، مدير مكتب برلين لصندوق "مارشال" الألماني للولايات المتحدة، ونائبته، سودها ديفيد ويلب، بمجلة "فورين أفيرز" الأميركية، فإن "إقدام روسيا على إرسال قواتها إلى داخل أوكرانيا، ومحاولتها احتلال كييف، دفع الساسة الألمان إلى إعادة النظر في هذه السياسة الدفاعية التي استمرت على مدى أكثر من سبعين عاماً"، وأوضحا في مقال بعنوان "ألمانيا الجديدة: كيف يغير عدوان بوتين برلين" أن "الشعور المرضي بالخوف من الذات برز كعامل رئيس وراء الشكوك الألمانية تجاه تفعيل القوة الصارمة، وكان الهدف من التحالفات التي دخلت فيها برلين طوال العقود الماضية هو السعي لاحتواء الآخرين، بحيث أصبح الهاجس الأكبر لدى ألمانيا هو الوقوع في شراك إغراءات متجددة نحو الأحادية المسلحة".

وبحسب كل من بروكهوف وويلب فإن "حكومة يسار الوسط الجديدة في برلين بقيادة شولتز، لم تكن تنوي أبداً التخلي عن نهج السياسة الخارجية للمستشارة السابقة ميركل والمتمثل في الموازنة بين الاحتياجات الأمنية والمصالح التجارية، أو التحول عن التوجه الذي تبنته ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية من تجنب الصراعات العسكرية، إلا أن هجوم روسيا على أوكرانيا غيّر كل شيء بالنسبة إلى ألمانيا"، مشيرين إلى ما كتبه المؤرخ الألماني فريتز ستيرن، الذي كان قد هرب من الفظائع النازية في ألمانيا إلى الولايات المتحدة عام 1938، عن "الألمانيات الخمسة: ألمانيا فايمار (الجمهورية التي نشأت في ألمانيا في الفترة من 1919 إلى 1933)، وألمانيا الرايخ الثالث النازي (ألمانيا الهتلرية)، وألمانيا الغربية ما بعد الحرب، وألمانيا الشرقية، وألمانيا الموحدة التي ظهرت بعد سقوط جدار برلين"، مضيفين أن "ما يشهده العالم الآن هو ولادة ألمانيا السادسة، وهي دولة مستعدة لممارسة القوة العسكرية دفاعاً عن القيم الديمقراطية الليبرالية". وتابعا أن "ألمانيا أدركت حقيقة أن القوة الصارمة هي أداة ضرورية لحماية الديمقراطية وردع المستبدين".

ويبرز كل من بروكهوف وويلب نقطة مهمة في سياق التحول الألماني، قائلين إن هذا التغيير لا يقتصر على برلين وحسب، مشيرين إلى أنه في 2011، صرح رادوسلاف سيكورسكي، وزير الدفاع والخارجية السابق لبولندا، بشيء بدا استثنائياً في ذلك الوقت، عندما قال، "من المحتمل أن أكون أول وزير خارجية بولندي في التاريخ يقول ذلك، لكني سأقولها، (إن خوفي من قوة ألمانيا أقل كثيراً من خوفي من بقاء ألمانيا في حالة من الخمول)". وتابع كل من بروكهوف وويلب، "على الرغم من أن الأمر استغرق أحد عشر عاماً أخرى، لكن حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا مثلت اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية تبدو أخيراً وهي تشعر بالارتياح تجاه القوة العسكرية الألمانية".

من جانبه. يقول ساشا توبريتش، نائب الرئيس التنفيذي لشبكة القيادة عبر المحيط الأطلسي، إن "الحرب الروسية في أوكرانيا غيرت معادلات الأمن والاقتصاد والسياسة في القارة الأوروبية بشكل سريع ولا رجعة فيه"، موضحاً في حديث لـ"اندبندنت عربية"، "باتت التوترات بين موسكو والدول الغربية عميقة لدرجة لم يعد بالإمكان العدول عنها أو تجاوزها في المستقبل القريب، وعليه تحركت أغلب الدول نحو إعادة صياغة مفاهيمها الأمنية والاستراتيجية".

ويتابع توبريتش، "على مدى عقود طويلة، ظلت العقيدة الراسخة للسياسة الخارجية الألمانية قائمة على استحالة إقرار السلام بشكل مستدام في القارة الأوروبية مع استبعاد روسيا، وعليه تم تبني أفكار الاعتماد المتبادل الاقتصادية بهدف المساعدة في استقرار الأوضاع، وعلى الرغم من سياسات بوتين العدوانية التي شهدتها روسيا طوال العقدين الأخيرين (كحرب جورجيا 2008، وضم شبه جزيرة القرم 2014)، فإن برلين كانت تميل بشكل أكبر لموازنة تحركاتها السياسية والاقتصادية مع موسكو، الأمر الذي لم يعد قائماً مع الحرب الدائرة حالياً في أوكرانيا، والتي غيرت كل شيء في ساعات". وأضاف، "بين عشية وضحاها، أصبحت ميزانية الدفاع الألمانية المخطط لها الأكبر في أوروبا، وهو أمر من شأنه أن يقود إلى تغيير كبير في ميزان القوى داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، كما ينبئ بدور أكبر لبرلين".

في الأثناء، يقول إيغور سابوتين، الصحافي الروسي المتخصص في الشؤون الدولية لـ"اندبندنت عربية"، "كانت لألمانيا أسبابها الخاصة المتعلقة بالتزام سياسة الابتعاد عن الصراعات بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية والحقبة النازية، الأمر الذي تم البناء والاستثمار فيه لعقود طويلة وانعكس في الالتزام الألماني بالسلم والمشاركة فقط في مهام حفظ السلام"، متسائلاً، "مع التحول الجذري الراهن في سياساتها الدفاعية والأمنية تبقى الأسئلة في مدى قدرتها على تحقيق ذلك الأمر على المدى المتوسط وكذلك قدرتها على تحمل تكلفته؟". ويوضح سابوتين، "بالتأكيد سيكون هذا التغيير مكلفاً بالنسبة إلى ألمانيا ومستقبلها، لا سيما أنها تعتمد في قطاع الطاقة على نسب مرتفعة من الاستيراد من الخارج".

 

وفي أعقاب إعلان "شولتز" حول تخصيص 100 مليار يورو (107 مليارات دولار) لتحديث الجيش الألماني لمواجهة التهديد الروسي، ثار جدل في الأوساط الألمانية في شأن مستقبل الطاقة في البلاد، ومدى تجاوز تكلفة إنهاء الاعتماد على الغاز الروسي، لكن وزير مالية شولتز، كريستيان ليندنر، الذي ينتمي للحزب الديمقراطي الحر المحافظ اقتصادياً، أوضح للبرلمان أن "هذه التكلفة سيتم النظر إليها على أنها ثمن الحرية"، معلناً أن ألمانيا ستصبح مستقلة عن الطاقة الروسية عبر بناء ميناءين للغاز الطبيعي المسال، وتخزين الاحتياطات الوطنية من الفحم والغاز، والسعي إلى مزيد من عقود التسليم طويلة الأجل في سوق الطاقة الدولية، وزيادة تسريع إنتاج الطاقة المتجددة، أي العمل على ضمان "حرية الطاقة"، بحسب تصريحات ليندنر، الذي أوضح أن هدف حكومته، "خلال هذا العقد أن يكون لألمانيا أحد أقوى الجيوش قدرة في أوروبا".

ويتابع سابوتين، "قد لا تتمكن ألمانيا مع استمرار الخلاف السياسي بين بعض الأحزاب في شأن خطوة شولتز المضي قدماً في تحديث الجيش الألماني ليكون من بين القوى العسكرية الأقوى في العالم"، مضيفاً، "طوال السنوات الأخيرة كانت أحد أبرز المشكلات التي واجهت الجيش الألماني هي عدم القدرة على التخطيط الطويل الأمد بسبب تقلص وتغير الميزانية". وبحسب سابوتين فإن "احتياجات الجيش الألماني لا تقف عند شراء الأسلحة وتطوير المعدات فحسب، بل هناك نقص كبير في اللوجيستيات والتجهيزات العسكرية والملابس، وفق التصريحات التي أعلنها عدد من المسؤولين الألمان، فضلاً عن مشكلات متعلقة بتجنيد الشباب الجدد وتأهيلهم".

ونقلت الإذاعة الألمانية، عن رودريش كيسفيتر، المعني بالسياسة الخارجية في الاتحاد المسيحي الديمقراطي، دعوته الحكومة الاتحادية إلى عدم التسرع في خطوات تحديث الجيش الألماني، قائلاً، "يجب على الحكومة الألمانية أن تجيب عن أسئلة من نوع: على ماذا تنفق المليارات؟ وما الأكثر إلحاحاً بالنسبة إليها؟". وتابع، "أنا قلق من أنه من دون تحديد الأولويات، سننفق كثيراً من الأموال من دون جدوى".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير