Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فريدريش كريستيان دليوس ناقد الحياة اليومية في ألمانيا

رحل عن 79 عاماً ويعد أول من كتب رواية عن سقوط جدار برلين

الروائي الألماني فريدريش كريستيان دليوس (الصفحة الرسمية للكاتب على  فيسبوك)

لم يكن الروائي الألماني فريدريش كريستيان دليوس (1943 - 2022) الذي توفي قبل أيام بالكاتب النجم، ولم يكن أيضاً بالكاتب الطليعي المجدد في اللغة أو في طرق التعبير الأدبي، لكنه كان على الرغم من ذلك من أبرز الكتاب في العقود الأخيرة، وقد توج في حياته بجوائز كثيرة، أهمها هي جائزة بوشنر، أرقى الجوائز الأدبية في المنطقة الألمانية، التي حصل عليها عام 2011. كان دليوس كاتباً ملتزماً بأفضل ما في الكلمة من معان، والالتزام لديه لا يعني تبني أيديولوجية متكلسة لا يحيد عنها، بل التعبير عن قناعات لا يني يساءلها دائماً، ويصححها مع مرور السنين، بل ويسخر منها أحياناً.

عندما ترجمتُ رواية دليوس "قاتل لمدة عام" (دار آفاق القاهرية) أطلقت على الروائي الألماني "صنع الله إبراهيم الأدب الألماني، فمثل الروائي المصري اشتهر دليوس برواياته التوثيقية والتسجيلية النقدية التي لا تتصالح مع المؤسسة السياسية الحاكمة، وككاتب يساري كان من المؤمنين بأن للأدب دوراً سياسياً أيضاً. ومن يطالع الرواية المذكورة، وهي العمل الوحيد لدليوس المنقول إلى العربية حتى الآن، يعرف كيف يضفر الروائي الألماني الأحداث التاريخية بكل تفاصيلها (مثل الفترة النازية وما أعقبها من انشطار ألمانيا ثم الحرب الباردة والانتفاضة الطلابية) مع سيرته الذاتية ناسجاً منها رواية شيقة تمزج الواقع بالمتخيل.

التاريخ شغله الشاغل

ظل التاريخ الألماني هو شغل دليوس الشاغل وهمه المقيم، ربما منذ أن بدأ الوعي بما حوله بعد مولده في غمار الحرب العالمية الثانية وحتى وفاته الأسبوع الماضي، وقد قال لي في حديث صحافي أجريته مع في عام 2011 إن الحرب العالمية الثانية "تعيش داخلي ككل أبناء جيلي. وحتى وإن كنت لم أعش الحرب على نحو واع، فإنها هي التي طبعت فترة طفولتي وصباي. ومن الممكن أن يكون اهتمامي بأحداث التاريخ المعاصر نابعا من تلك الفترة".

 

 

ولد دليوس في روما عام 1943، ابناً لقس بروتستانتي كان يعظ الجنود الألمان الذين يحاربون على الجبهة الإيطالية. نشأ في منطقة هيسن في قلب ألمانيا، وتلقى تعليمه هناك في الفترة التي حاول فيها الألمان أن ينسوا الماضي النازي قليلاً، أن يتركوه يمضي، ليتفرغوا لبناء دولتهم بعد أن حولتها حرب هتلر إلى أنقاض.

سيصبح تناسي الماضي أو تجاهله أحد المواضيع المهمة لأدباء اليسار في تلك الفترة، كما سيشغل دليوس في أعماله اللاحقة. وعندما نقرأ في "قاتل لمدة عام مناجاة الشاب الذي يريد أن يقتل قاضياً نازياً، نعرف أن الروائي إنما يتحدث عن نفسه: " لماذا عدت قبل عام ونصف العام إلى برلين الباردة الفظة البذيئة التي يمكن شراء كل شيء فيها بالمال، حيث يسمح للشرطة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين المسالمين دون أن يعاقبوا، حيث أصبح رمي الحجارة ديناً وعقيدة، حيث يحطم المرء رأسه، مرة بالكلام وأخرى بالهراوات، ثم يجري بجمجمته المشجوجة تجاه الحائط. لم العودة إلى قبلة الفظاظة والجلافة والوضاعة والجدية والهستيرية؟ لماذا لا أحيا حياة حرة من دون أوساخ التاريخ وشياطينه، لماذا لا أواصل الكتابة بلا إزعاج من أحد، أن أسطر جملاً طويلة جميلة، رشيقة وأنيقة، ثم يأتي الوقت، بعد 20 أو 30 عاماً، بعد أن يكون الألمان قد اندثروا أو على الأقل تخلوا عن فظاظتهم، وبعد أن يكون النازيون وأدوا الروح النازية، عندئذ يكتشفونني ويحتفون بي، وعندئذ أجلس مثل إلياس كانيتي في أحد مقاهي هامستيد هيث، وبنظرة باسمة أقرأ الصحف الألمانية"، ربما هذا ما خامر دليوس في شبابه. غير أنه اختار طريقاً أخرى.

روايات تؤرخ للحياة في ألمانيا

التحق دليوس عام 1963 بجامعة برلين، ودرس هناك الأدب الألماني، واختتم دراسته عام 1970 بالدكتوراه. في برلين عايش دليوس فترة الانتفاضة الطلابية التي تفجرت عام 1968 بكل زخمها، وهي الفترة التي سيكتب عنها لاحقاً، كما سيكتب عن جماعة بادر ماينهوف اليسارية الإرهابية التي تولدت من رحم الاحتجاجات الشبابية. عمل دليوس محرراً في إحدى أشهر دور النشر اليسارية (دار كلاوس فاغنباخ) من عام 1970 حتى 1978، وفي تلك الفترة نشر نصاً ساخراً بعنوان "عالم سيمنس. كتاب احتفالي بمناسبة مرور 125 سنة على تأسيس شركة سيمنس" (1972) شن فيه هجوماً أخلاقياً عنيفاً على الشركة المشهورة بسبب ماضيها الداعم للنازية، مما تسبب في رفع عدة قضايا عليه وعلى دار النشر، خرج منها الكاتب منتصراً ولكن بعد أن كادت الدار تشهر إفلاسها. وفي عام 1978 تفرغ للكتابة وراح يعيش متنقلاً بين برلين وروما، وابتداء من مطلع الثمانينات بدأ دليوس يلفت الأنظار برواياته الوثائقية التاريخية مثل "بطل الأمن الداخلي" (1981) و "مقديشيو، مقعد بجانب الشباك" (1987) و"يوم الأحد الذي أصبحت فيه بطل العالم" (1994).

عندما سقط سور برلين عام 1989 كان دليوس أول من كتب عن هذا التحول التاريخي في روايته "كمثرى ريبيك" التي صدرت عام 1991. ويحيل عنوان الرواية الرمزية إلى قصيدة للشاعر والروائي الألماني تيودور فونتانا (1819 – 1898)، وفيها يأتي الألمان الغربيون إلى بلدة ريبيك، ويخططون لإقامة احتفال ضخم تكريماً لفونتانا، وليكون الاحتفال في الوقت ذاته احتفالاً بالوحدة بين الشرق والغرب. ينظم الغربيون كل شيء ثم يزرعون شجرة كمثرى، على الرغم من أن الشرقيين كانوا قبلها قد زرعوا شجرة مماثلة. ويتفجر نزاع ساخر ورمزي حول المكان التاريخي الدقيق الذي زرعت فيه آنذاك شجرة فونتانا. كانت الشجرة الغربية تبدو جميلة، لكن ثمارها بلا نكهة أو طعم. أما شجرة الشرق فكانت متواضعة المنظر، لكن ثمارها شهية.

وعندما اندلعت أحداث "الربيع العربي" في 2011، سألته كمراقب نقدي لما يحدث في العالم عن رؤيته لما يحدث في المنطقة العربية، فقال لي "إنه يشعر بالخجل لأن الغرب لم يرحب على النحو الكافي بتطلعات العرب نحو الحرية". ونفى دليوس وجود تشابهات بين "الربيع العربي" وما حدث في أوروبا الشرقية عقب انهيار سور برلين عام 1989، وذلك لأن ما حدث في أوروبا جاء ثمرة تاريخ طويل من الإعداد والتحضير، ولم يكن فجائياً وسريعاً مثلما حدث في العالم العربي. وعندما سألته عما قرأ من الأدب العربي أعرب دليوس عن أسفه قائلاً "لقد عملت فترة طويلة محرراً في دار نشر، وقرأت أعمالاً من الأدب الإيراني، لكنني لم أقرأ شيئاً من الأدب العربي الذي لم يحظ بالاهتمام في ألمانيا ولم يترجم على نطاق واسع إلا في الفترة الأخيرة".

"لا أستطيع أن أطفو على السطح"

في أحد أشهر أعماله، قصة "يوم الأحد الذي أصبحت فيه بطلاً للعالم" (1994)، مثلت كرة القدم فعلاً تحررياً للبطل من سطوة الأب الصارم، لكن الكتابة كانت في الحقيقة هي التي حررت دليوس من سطوة أبيه، كما عتقته من التهتهة وإحساسه بالخرس في طفولته الريفية. وفي جملة دالة صرح بها إلى صحيفة "فرانكفورتر ألغمانيه" ذات مرة قال إنه لجأ إلى الكتابة لأنه فشل في إجادة السباحة، فهو شخص لا يستطيع أن يطفو على السطح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دليوس كاتب يغوص في العمق، يرسم بقلمه شخصيات روائية جذابة، لكنها ليست أحادية البعد، يهاجم النازية، ولكنه يسلط الضوء أيضاً على المقاومين في تلك الفترة، يشن حرباً شعواء على إحدى كبريات الشركات الرأسمالية في ألمانيا، ولكن من دون أن يقع في الأيديولوجية اليسارية المبسطة الساذجة، يكتب عن الثورة الطلابية التي شارك فيها ولكن من دون تمجيد، بل بسخرية هادئة من الشاب المتحمس الذي كانه يوماً.

في رواياته ينجح دليوس في إحياء الفترة التاريخية التي يتناولها بحيث يجد فيها القارئ كثيراً من التشابهات مع الحاضر، حتى مع حاضرنا العربي. في "قاتل لمدة عام" على سبيل المثال يلقي دليوس ضوءاً كاشفاً على حقبة النازية التي تعد من أشد فترات التاريخ الألماني ظلاماً، وسرعان ما يتبين القارئ أن النازيين الجناة ليسوا وحوشاً آدمية، إنهم "أشرار عاديون"، مثلما قالت الفيلسوفة هانّه آرنت. تبين الرواية أيضاً أن الديمقراطية عملية طويلة وصعبة، وأن شعباً ساير الديكتاتور سنوات طويلة وآمن به لن ينقلب شعباً حراً ديمقراطياً بمجرد إسقاط الطاغية أو "تغيير النظام".

ظل دليوس حتى وفاته غزير الإبداع، فكان ينشر كتاباً كل عام تقريباً، ومن أبرز أعماله غير ما ذكرت: "التمشية من روستوك إلى سيراكوز" (1995)، و"صورة الأم في شبابها" (2006)، أما آخر أعماله فقد حمل عنواناً دالاً هو "لغات الصمت السبع" (2021).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة