Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة حلمي سالم الشاعر المناضل الذي واجه "كاتم الصوت"

رفع شعار "لتكن حياتك ثائرة ومثيرة" ومثّل جيل السبعينيات في مصر

الشاعر والمناضل المصري حلمي سالم (الهيئة العامة للثقافة)

"لتكن حياتك ثائرة ومثيرة"، قد يكون هذا الشعار أصدق وصف لحياة الشاعر المصري حلمي سالم الذي مضت على رحيله عشرة أعوام. فالمتابع لسيرة حلمي سالم يدرك بوضوح أنه جمع– كما وصفه الشاعر محمد عفيفي مطر– بين "خيال الشاعر وحيوية المناضل السياسي"، فقد كان شعره تصويراً فنياً لحياته الشخصية ومواقفه النضالية ومعاركه ضد القمع السياسي والديني ودفاعه الدائم عن قيم الاستنارة والتنوع والتعدد، سواء على مستوى الرؤى السياسية أو الطرائق الشعرية. لهذا كان فضولنا قوياً وتوقعاتنا كبيرة لسيرته الذاتية لنعرف من خلالها تفاصيل حياته وعلاقاته الغرامية ومواقفه المشار إليها. واللافت أننا نعرف أغلب هذه التفاصيل والمواقف من شعره وكتبه النثرية بأكثر مما جاء في هذه السيرة التي صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان "مدن لها قلوب: مقاطع من حياة وشعر"، والتي كان من المفترض أن تكون بوحاً مباشراً وكشفاً شجاعاً، مع شرعية تساؤلنا عن تأخر نشرها كل هذا الوقت. وحلمي سالم يمتلك هذه الشجاعة إزاء ما خفي من حياته وما قدمه في شعره بالرمز. ولمعرفتي بعمق العلاقة بين الشاعر عيد عبد الحليم وراحلنا الكبير فقد توقعت أن يكون هو من أعد هذه السيرة للنشر وبسؤاله أجاب بأن دوره اقتصر على متابعة نشرها.

مساحة زمنية ومكانية

تغطي هذه السيرة مساحة زمنية ومكانية كبيرة، وكان من المفترض أن نقرأ فيها ما نعرف أغلبه سلفاً، والمرجح أن ما مرت به أسرته من اضطرابات خلال مرضه الأخير كان سبباً في ضياع بعض الأوراق. وبسؤال رفيق دربه في جماعة "إضاءة" الشاعر جمال القصاص، أفاد– بعد أن أخبرته أن الصديق الشاعر أسامة جاد هو الذي قام بإعداد هذه السيرة للنشر– بأنه كان يتوقع أن يعدها أحد أبناء جيل حلمي أو من له صلة شخصية طويلة به وعلى معرفة بتفاصيل حياته. والحق– والكلام لي– أن أسامة جاد مشكور في كل الأحوال على ما بذله من جهد، لكنه التزم ترتيب السيرة ترتيباً زمنياً متصاعداً، فبدأ بقرية الراهب (التابعة لمحافظة المنوفية شمال القاهرة) التي ولد فيها حلمي سالم (1951- 2012) وتلقى تعليمه الابتدائي. وجاء ذكر بلدة "كفر المصيلحة" التي تلقى فيها تعليمه الإعدادي ضمناً، ثم مدينة شبين الكوم حيث قضى سنوات دراسته في المرحلة الثانوية. وقد انخرط حلمي سالم في هذه المرحلة في نشاطات عدة: لاعباً في فريق كرة القدم بالمدرسة، وعضواً في فريق الكشافة بها، وعضواً في فرقة التمثيل، ورساماً، حتى إنه أقام معرضاً للوحاته.

وهو ما يدل على حيويته التي لازمته طيلة عمره. على أن أهم ما يذكره في هذه المرحلة هو رؤيته لغيفارا وعبد الناصر في افتتاح مصنع في شبين الكوم، وهو ما ظل يفاخر به أمام رفاقه اليساريين. وقد استحوذت سيرته في طفولته وصباه على ما يقرب من نصف الكتاب، ثم تلا ذلك حديثه عن ذكرياته في الإسكندرية وفيينا وبيروت وعمان ودمشق وطرابلس الليبية وصنعاء. أقول إن أسامة جاد التزم هذا الترتيب المتصاعد وهو ما يخالف– بحسب الشاعر عبد الوهاب داوود– ترتيب حلمي سالم حين نشر أجزاء من تلك السيرة في مجلة "المصور" القاهرية، حيث بدأ بطرابلس ثم صنعاء فدمشق ثم شبين الكوم والراهب، في بنية استرجاعية تبدأ من الحاضر رجوعاً إلى الماضي. ولا شك أن لهذا دلالته المغايرة في بناء الكتاب الذي بين أيدينا، وهو على الأرجح مجرد جزء من سيرة حلمي سالم كانت ستليه أجزاء أخرى لولا رحيله في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) 2012.

مفارقة العنوان

لماذا اختار المؤلف هذا العنوان: "مدن لها قلوب"؟ لا شك أن هذا يذكرنا بالديوان الأول للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي "مدينة بلا قلب". فمنذ كتابه "هيا إلى الأب– مقالات حول القطيعة والاتصال في الشعر"، وأحياناً قبله، وحلمي سالم دائم التناص مع جيل الريادة التفعيلية. وهذا لا يعني التماثل، بل الجدل وطرح آفاق مغايرة، فقد فعل ذلك مع صلاح عبد الصبور حين كتب: "هل عاد لائقاً لمثلي أن يقول "صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمن"؟ عهد من الغناء فات"، بل إنه يتناص ويضمن سطوراً شعرية من الأجيال التالية له مثل إيمان مرسال في "سراب التريكو"، وكثيراً ما يذكر أسماء الشعراء وأعمالهم داخل شعره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا شك أن ذلك يرجع إلى مفهومه للحداثة بأنها "أخت التسامح"، بحسب عنوان كتاب آخر له، من دون أن يعني ذلك– كما يقول- أن الحداثة "نفي للصراع ودعوة للمسالمة، لكنها إعلاء لتقاليد الصراع وأصوله الإنسانية المبدئية النزيهة، هذه التقاليد التي تعني الإيمان العميق بالتعدد".

قصص الحب

غراميات حلمي سالم المعلنة غابت أيضاً عن تلك السيرة، باستثناء حديثه عن سيدة أردنية أشار إليها بالحرفين "س. ك"، يصفها بأنها "حبه الشهير والكبير"، وأنها كانت طالبة في كلية التجارة في جامعة القاهرة ومنتمية للفكر اليساري، وأنه ذهب– ذات مساء– مع عبد المنعم تليمة إلى أبيها لخطبتها لكن أباها، اللاجئ السياسي في القاهرة، رد كأي أب حريص على مستقبل ابنته رافضاً أن يزوجها لشاب تخرج للتو في الجامعة. وفي عام 1975 ينتهي اللجوء السياسي وتسافر الأسرة كلها إلى عمان ويظل حلمي على حبه لها. والجميل أنه يذكر ما كتبه فيها من قصائد مثل "شين عين راء"، والقصيدة النثرية الطويلة "دهاليزي". وفي تصوري أن ميزة هذا الكتاب هي أنه يعد مصدراً لمعرفة مرجعيات قصائد كثيرة لحلمي سالم. أما عن غرامياته التي لم يذكرها فيمكن أن نستشفها من دواوينه مثل "البائية والحائي"، و"الشغاف والمريمات"، و"الواحد الواحدة"، و"عيد ميلاد سيدة النبع". ولا أود أن أذكر أسماء سكت عنها الشاعر تماماً.

قضية التنوير

كانت قضية التنوير من قضايا شاعرنا التي خاض في سبيلها عديداً من المعارك ورفعت ضده قضايا حسبة وقضايا لرد جائزة التفوق الممنوحة له من المجلس الأعلى المصري للثقافة. ومع ذلك لم يحظ هذا كله في الكتاب سوى بإشارة عابرة حين يحكى عن ذهابه وهو صبي لرؤية عمال البناء الذين أتى بهم والده لبناء بيت جديد لزوجته الثانية– أم حلمي سالم– وأنه سمع ذات مرة أغنية عبد الحليم حافظ "أبو عيون جريئة" وكيف طرب لها كثيراً، إلى أن أتى زمن وقرأ تحريم أحد كبار الشيوخ لها لمنافاتها لآداب الدين التي تحض على غض البصر، هكذا من دون مراعاة لطبيعة الفن وتخييلاته المتعددة! ولا شك أن طبيعة المقال هي التي وراء هذه الإشارات الموجزة التي فصلها حلمي سالم في كتب كثيرة مثل "التصويب على الدماغ" الذي يدافع فيه عن حرية الرأي ويرفض القمع السياسي والديني، وكتاب "ثقافة كاتم الصوت" الذي يلقى فيه الأضواء الفاضحة للقمع والمصادرة التي تعرض لها الفكر والثقافة منذ 1952 إلى التسعينيات، ورفض تدخلات الأزهر في الحكم على الأعمال الأدبية. وكتاب "محاكمة شرفة ليلى مراد" الذي يعد وثيقة مهمة جمعت كتابات سواء من كانوا مع القصيدة أو ضدها. والغريب أن هذه القصيدة "شرفة ليلى مراد"، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، كانت منشورة في ديوان "الثناء على الضعف" قبل نشرها في مجلة "إبداع" التي تصدرها هيئة تابعة لوزارة الثقافة، وما ترتب على ذلك من اتهام الشاعر بالكفر والزندقة. وهي تهمة باطلة فالقصيدة– كما يقول صاحبها– "تنتقد تواكل المسلمين على الله وقعودهم خاملين وهذا معنى ذكر كثيراً في القرآن الكريم". ومن المعروف حب حلمي سالم للتصوف الذي ورثه عن أبيه وتعمقه في قراءة النفري والحلاج وابن عربي، وكتابه "الشعر والتصوف والثورة" الذي صدر بعد وفاته، شاهد على ذلك.

ويمكنني في النهاية القول، إن سيرة حلمي سالم موزعة في دواوينه وكتبه، وما قصر فيه كتاب "مدن لها قلوب" سنجده في ما كتبه الراحل بتفصيلات أوسع وأنصع.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب