مع انهيار القطاع الاستشفائي في لبنان، خرجت الصحة من دائرة الحق، لتدخل خانة الترف، الأمر الذي يعتبر مؤشراً إضافياً على عمق الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد، وتأخذ المعاناة أوجهاً مختلفة، من فقدان الأدوية الأساسية، إلى ارتفاع الفاتورة الاستشفائية، بالإضافة إلى عدم استقبال المؤسسات الصحية إلا الحالات الطارئة جداً، وصولاً إلى سوء الخدمات الصحية في الأماكن المتاحة للعامة، وفي مختلف الأحوال، يحضر عنصر واحد في الشكوى من "صعوبة تأمين الدولار"، ويبقى السؤال الأهم: من المسؤول عن عدم إقرار التغطية الصحية الشاملة في لبنان؟ ولما الاكتفاء بالحلول الظرفية التي لا تؤمن للمواطن العناية الطبية المناسبة في ظل هجرة الأطباء وانقطاع الدواء وإقفال المؤسسات الصحية أبوابها؟
المريض وحيداً
يشكو المرضى من انقطاع الدواء، لذلك، فإن حياة كثيرين من المرضى في خطر بسبب عدم انتظام الحصول على الجرعات والعلاج، وتروي إحدى السيدات صعوبة الحصول على دواء تصفه بـ "البسيط"، وهو عبارة عن متمم غذائي لتغذية العظم وتنشيط الجسد، وشمل البحث عدداً كبيراً من الصيدليات من شمال لبنان إلى بيروت، وكانت الإجابة واحدة "الدواء مقطوع، ولكن اسألي بقية الصيدليات قد تجدين علبة قديمة لديهم"، وتضيف، "تضاعف ثمن علبة الدواء 10 مرات، ولكن لا يمكن تركه، لذلك لم يكن هناك مانع من البحث عنه في أماكن بديلة"، إلى درجة اضطرت للسؤال عنه وطلبه من خارج لبنان (تركيا مثلاً).
ولا تتوقف علامات الاستفهام عند هذا الحد، تقول المريضة، "الخوف من عدم وجود علبة إضافية، دفعها إلى تقنين جرعات الدواء بصورة ذاتية من دون استشارة الطبيب، فعوضاً عن جرعتين يومياً، بدأت تأخذ حبة واحدة في اليوم". هذا المشهد، ليس استثنائياً، وإنما مشهد يتكرر لدى كثيرين من اللبنانيين، إذ وصل البعض إلى حد الامتناع عن أخذ الدواء، لأن "فاتورة الدواء تشكل أضعافاً مضاعفة لدخل الأسرة بعد رفع الدعم عنها".
تتكرر المعاناة مع مرضى السرطان، هؤلاء، منذ فترة، محرومون من بعض الجرعات الأساسية بسبب عدم تأمين الاعتمادات الكافية لتأمين الأدوية التي تتعهد الدولة اللبنانية بتأمينها للمرضى منذ سنوات.
المعاناة بأشكال مختلفة
وفي المستشفى، يدخل المريض، ولكن الجهة الضامنة لا تؤمن المبلغ المطلوب كله، فيطالب المستشفى بتأمين المبلغ المتبقي الذي قد يصل أحياناً إلى مئات ملايين الليرات اللبنانية (لامس سعر صرف الدولار الأسبوع الماضي عتبة الـ 39 ألف ليرة).
المستشفيات تستغيث
لا يجد سليمان هارون نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان في "هبوط الدولار" المفاجئ نسبياً، الأسبوع الماضي، حلاً لمشكلات القطاع الصحي، فالمشكلة عميقة وبنيوية، لذلك، كرر تحذيره من خطر "موت اللبنانيين في منازلهم بسبب عدم القدرة في الحصول على الدواء والاستشفاء"، فضلاً عن هجرة الطواقم الصحية والتمريضية، وتعثر كثير من المستشفيات عن القيام بمهامها.
وأكد هارون أن مستشفيات عدة تتجه إلى الإقفال التام، وبعض منها بدأ بإقفال عدد من الأقسام والطوابق، وصرف الأطقم العاملة، وصولاً إلى الاستسلام. في المقابل، تعهّد بعض المستشفيات الجامعية الكبرى بتأمين استمرارية العمل في مستشفيات خاصة صغيرة.
يذكر أن المستشفيات قامت بإضراب تحذيري، في الأيام القليلة الماضية، مشيراً إلى أن "الإضراب جاء بعد أربعة أشهر من التواصل مع رئاسة الحكومة، ووزارة الصحة، والمصرف المركزي للمطالبة بالحقوق، والتحذير من الكارثة المقبلة على البلاد"، ولفت هارون إلى أن تراجع إشغال الغرف في المستشفيات يعود في جزء منه إلى عدم قدرة المواطن على تأمين نفقات العلاج والاستشفاء بسبب الفاتورة الصحية الباهظة، وغلاء المستلزمات الطبية.
وحذّر هارون من أن معاناة هذا القطاع تكبر، و"الحلول ما زالت بعيدة المنال، والمشكلة أكبر من إلهاء المواطنين بارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه، هناك مشكلة في العمق".
وزارة الصحة تعترف
وفي سياق متصل، أقرّ الدكتور جوزيف حلو، مدير العناية الطبية في وزارة الصحة اللبنانية، بأن القطاع الاستشفائي في خطر كبير، فهو انعكاس لواقع البلاد اقتصادياً ومالياً، كما أن "تسعيرة الدولة تلتزم بدولار 1500 ليرة، في وقت تسعّر الخدمات بدولار السوق السوداء"، و"في غياب موازنة جديدة للدولة، تضطر الجهات الرسمية إلى التزام التسعيرة القديمة التي لا تراعي التغييرات الكبيرة في قيمة الخدمات وسعر الدولار"، بالتالي، فإن هذا الفارق يتحمله المواطن المريض، ولفت حلو إلى التأخير في دفع المستحقات المالية للمستشفيات والأطباء، فوزارة الصحة أرسلت هذه المستحقات، منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، وحتى اللحظة لم يقم مصرف لبنان بتحويلها إلى هؤلاء لتغطية بعض العجز.
وأعطى حلو مثالاً على تأثير سعر صرف الدولار على القدرة الاستشفائية، وقال إن وزارة الصحة تساعد بـ 13 مليون ليرة كل من يخضع لعملية القلب المفتوح (في حال لم يكن خاضعاً لأي جهة ضامنة)، وهذا المبلغ كان يساوي نحو 8600 دولار أي الجزء الأكبر من كلفة العملية، إلا أنه ومع دولار 28 ألف ليرة لبنانية، وبلغ أحياناً 38 ألفاً، باتت مساهمة الدولة ضئيلة جداً، ما يضطر المريض إلى تحمل أعباء هائلة مقارنة بدخله المتواضع، وحد أدنى للأجور يبلغ 675 ألف ليرة لبنانية. (حوالى 25 دولاراً بالسوق السوداء).
وتطرق مدير العناية الطبية في وزارة الصحة اللبنانية إلى مشكلة الأمراض المزمنة، وتحديداً مرضى غسيل الكلى والسرطان، مؤكداً أن "كل تجهيزات غسيل الكلى والأدوات ما زالت مدعومة، ورفعت تعرفة الجلسة الواحدة)، وعليه، فإن هذه الشريحة من المرضى ما زالت تحظى بالتغطية والدعم إلى حد كبير مقارنة ببقية المرضى. أما بالنسبة لمرضى السرطان، "في السابق، كان يحصل المريض على كامل الأدوية مجاناً، أما حالياً، فقد تأثرت الأدوية بتضاؤل قيمة الموازنة، وتعطى الأولوية للأدوية الأكثر حاجة وضرورة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتضح أن شكوى مرضى السرطان محقة في لبنان، ولا مبالغة فيها، وبحسب الحلو، فإن بعض الأدوية غير متوافرة بسبب عدم قدرة الوكلاء المحليين لشركات الأدوية العالمية على الاستمرار في الاستيراد، لأن "الشركات الأم تطالب بالمتأخرات الدولارية قبل توريد أي أدوية إضافية إلى لبنان، وهذا أمر متعذر بسبب القيود المصرفية المحلية".
وأوضح حلو حقيقة الشكوى من عدم توافر الخدمات في المستشفيات بسبب الحرمان من "سقف التغطية على نفقة وزارة الصحة"، مشدداً على ضرورة توحيد سعر صرف الدولار، وإقرار موازنة جديدة للبلاد تراعي التغييرات الحاصلة في الأسعار.
ماذا عن التغطية الصحية الشاملة؟
منذ سنوات، اتخذت وزارة الصحة، في عهد الوزير الأسبق وائل أبو فاعور، قراراً بتأمين التغطية الصحية لمن تجاوز 64 عاماً من عمره على نفقة الدولة، من دون تقديم أي إثباتات أخرى غير شرط السنّ، إلا أن الشكوى عادت أخيراً من عدم تأمين الرعاية لهؤلاء، وأكد حلو استمرار العمل بهذا النوع من التغطية، مجدداً التذكير بأن السبب يعود إلى تعدد أسعار صرف الدولار، حيث لم يعد هناك موازنة كافية لتأمين 100 في المئة استشفاء على نفقة الوزارة، ولفت إلى أن "وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس أبيض يحاول قدر الإمكان الاستحصال على مساعدات عينية للبنان من الجهات الدولية، آخرها من خلال مشاركته في المؤتمر الدولي لمنظمة الصحة العالمية، إلا أن الوزارة غير قادرة على حل المشكلة وحدها، هناك حاجة إلى خطة على المستوى العام للدولة".
وأشار حلو إلى تأمين الاستشفاء لشريحة كبيرة من المواطنين عبر المستشفيات الحكومية، التي "يقدم بعضها خدمات صحية عالية الجودة"، وهناك توجه لتحسين أوضاعها وتجهيزها من خلال الهبات الدولية.
أما في ما يتعلق بالتغطية الصحية الشاملة، فأكد حلو أن هناك "مشروعاً للتغطية الصحية الشاملة من خلال تأمين بطاقة صحية لكل اللبنانيين"، وتم وضع الخطة منذ سبع سنوات، إلا أنها تحتاج إلى الإقرار من خلال السلطات المختصة، بعد تأمين التمويل الكافي لهذا البرنامج الإصلاحي العام في ظل تعدد وعجز الجهات الضامنة.