Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب في أوكرانيا منعطف تاريخي

حري بأميركا وأوروبا التعاون والعمل معاً لكي يسلك التاريخ مساره الصحيح

جندي أوكراني يقاتل بالقرب من خاركيف، أوكرانيا، مايو 2022، (سيرهي نوجنينكو / رويترز)

 يمثل الهجوم الروسي على أوكرانيا انعطافاً في مسار التاريخ، فهو ينهي الفصل الذي بدأ مع نهاية الحرب الباردة، عندما حاولت الدول الغربية دمج روسيا في نظام دولي قائم على القواعد المشتركة. والحق أن روسيا غدت في عهد الرئيس فلاديمير بوتين دولة منبوذة. ومثلما فعلت الولايات المتحدة عندما واجهت الاتحاد السوفياتي، في الحرب الباردة، أخذت زمام المبادرة في مواجهة هجوم بوتين الصارخ على الحضارة.

واستطراداً، تؤيد دول كثيرة الرد الذي تقوده الولايات المتحدة على حرب بوتين، ولكن بعضها يفعل ذلك على مضض. وعلى وجه آخر، ترى حكومات كثيرة أن الصراع الدائر عودة إلى الحرب الباردة، عندما أُجبرت على اختيار أحد الجانبين. وهي تتصور أن على المحك صدام خصمين جيوسياسيين، وليس مسألة مبادئ أساسية. وهذا مؤسف جداً. فلا ينبغي أن يُنظر إلى العدوان الروسي كبداية لحرب باردة جديدة، ولكن يجب حمله على حقيقته: إنه أسوأ عمل عدواني في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية و(أشد) انتهاك وحشي للقانون الدولي.

إلا أن التاريخ لن يسير في اتجاه إيجابي من تلقاء نفسه. وعلى الولايات المتحدة، وهي قوضت في بعض الأحيان القانون الدولي جراء خيارات سياستها الخارجية، أن تلتزم دعم المعايير والقوانين التي تضبط النظام الدولي القائم على قواعد [صارمة]. ويجب تقسيم العبء المترتب على مواجهة انتهاكات القانون الدولي بشكل أكثر عدلاً وإنصافاً. وفي هذا السياق، وصف المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتز، هذا الظرف بـ"تسايتنويندي"، أي أنه منعطف تاريخي. وتحتاج ألمانيا إلى جانب الدول الأوروبية الأخرى، إلى اتخاذ إجراءات ترفع مستوى إنفاقها الدفاعي بشكل كبير، وتحسين استعدادها للمساعدة في الحفاظ على الاستقرار في أوروبا وحولها، والاضطلاع بدور قيادي في حل النزاعات الدولية.

وهذا الجهد يقتضي تحالفاً عالمياً. وعليه، يجب أن تشمل الشراكة بين الدول الملتزمة بالقانون الدولي ونصوصه التأسيسية وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، دولاً من جميع القارات. فلا ينبغي أن يكون المجتمع الدولي كناية عن الغرب وحده، وتصور الصراع على صورة مواجهة بين "الغرب" و"الشرق" يسمح لبلدان كثيرة باتخاذ موقف المتفرج والوقوف على الحياد. ويقع خط الصدع على خط فاصل بين أولئك الذين يسعون إلى تجديد التمسك بنظام أخلاقي وقانوني عالمي قائم على المبادئ، وأولئك الذين لا يفعلون ذلك. وعلى التحالف العالمي الجديد أن يعتز بجهوده الحثيثة والهادفة إلى حماية القانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان.

الالتزام بالقوانين

في ديسمبر (كانون الأول) 2018، عندما كنت أعمل سفيراً لألمانيا لدى الأمم المتحدة، تلقيت أنا وجميع زملائي الممثلين لبلدانهم تقريباً مذكرة من نيكي هايلي، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة. وجاء في الرسالة أننا إذا صوتنا لصالح قرار في الجمعية العامة يدين خطة الولايات المتحدة بنقل سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، فإنها ستبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عنا. لقد صدمني ذلك. طلبت مقابلة هايلي، التي كانت تربطني بها علاقة ودية. فاستقبلتني، وشرحتُ لها رد فعلي المتحفظ عن المذكرة التي أرسلتها.

ولدتُ عام 1955 ، بعد عشر سنوات من "الهولوكوست" والحرب العالمية الثانية. وترعرعت في ألمانيا المنقسمة. ولا ننسى أن ألمانيا لم تنل فرصة ثانية بعد الجرائم المروعة التي ارتكبتها إلا بسبب قوات الحلفاء وحكمتها. وبفضل قدرة الحلفاء على الإقناع، وافقت ألمانيا الغربية على التصرف بشكل أفضل، وعدم انتهاك القانون الدولي مرة أخرى، وحل نزاعاتها مع الآخرين بالطرق السلمية. في عام 1949، صيغ الدستور الألماني بعناية وحصل على موافقة الحلفاء. وأيد الدستور هذا احترام القانون ونبذ الاستخدام الأحادي للقوة في حل المشكلات. وفي عام 1957 تأسس الاتحاد الأوروبي على المبدأ القائل بأنه ينبغي إدارة الخلافات عن طريق المؤسسات والإجراءات القانونية، ومن خلال حكم القانون، وليس تسليط قانون الأقوى. وهذه الفكرة الأساسية منحت وسط أوروبا أطول مدة سلام في التاريخ.

 وتوليتُ شرح كل ذلك لهايلي. وسألتها إن كانت فهمت لماذا فوجئت بطلبها منا تجاهل القانون الدولي. فشعرت، بدورها، بالصدمة. سألتُ مستشارها عن رأيه. فتلعثم واعترف بأنني على صواب: قرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 طالب جميع الدول بعدم نقل سفاراتها إلى القدس. كان يعلم أن قرارات مجلس الأمن الدولي ملزمة قانوناً. ثم تحولت المحادثة بسرعة إلى قضية أخرى.

الالتزام بالقانون الدولي منح وسط أوروبا أطول فترة سلام في التاريخ.

وفي أثناء تولي ألمانيا [رئاسة] مجلس الأمن في 2019 - 2020 ، انتهكت الولايات المتحدة مراراً قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما في ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، والاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. كذلك، انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس لتغير المناخ، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، وهي الهيئة الثقافية للأمم المتحدة. فضلاً عن ذلك، قدم ترمب سياسة "أميركا أولاً" الضيقة الأفق بدلاً من رؤية شاملة للمصلحة العامة.

لكنني فوجئت بالخلف الذي عينه ترمب ليحل محل هايلي في عام 2019، كيلي كرافت. على الرغم من أن إدارة ترمب اعتبرت رسمياً أن تغير المناخ  خدعة، إلا أن كرافت أدركت أن أزمة المناخ مشكلة خطيرة. وعبرت بقوة عن دعمها للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والأمم المتحدة. في عام 2020، تعاونت معها في دعم حقوق الإنسان من خلال حشد عشرات الدول في سبيل إدانة معاملة الصين لأقلية الإيغور فيها. وأعقب ذلك التصويت في الأمم المتحدة، وقيل إن المدير العام المسؤول عن قضايا الأقليات في وزارة الخارجية الصينية تعرض للطرد. وساعدت أنا وكرافت على إنشاء تحالف جمع  ألبانيا إلى نيوزيلندا، وحشد للدفاع عن سيادة القانون وحقوق الإنسان.

وإلى ذلك، وحدنا جهودنا من أجل تحدي الصين وروسيا بشأن وضع كئيب آخر يتعلق بحقوق الإنسان: سوريا. وكنت رئيس مجلس الأمن في يوليو (تموز) 2020، عندما نظر في تجديد القرار الذي يشرع معابر الأمم المتحدة الحدودية التي نقلت منها المساعدات إلى شمال غربي سوريا. وقد شكل برنامج الأمم المتحدة شريان الحياة بالنسبة إلى مئات الآلاف من اللاجئين والسكان المحليين في أجزاء من سوريا انقطعت عنهم المساعدات. وأرادت روسيا، بدعم من الصين، إنهاء وجود الأمم المتحدة، مصرة على سيادة نظام بشار الأسد على كامل الأراضي السورية. وأدى الأمر إلى مواجهة في مجلس الأمن. ويومها، استخدمت روسيا والصين حق النقض ضد هذا القرار، وحمل الضغط الداخلي والخارجي الدولتين في نهاية المطاف على حل يسمح بتقديم الحد الأدنى من المساعدة إلى الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها.

 

 

ولا شك في أن هذا هو نوع التعاون الذي يحتاج التحالف العالمي إلى انتهاجه: سياسة مشتركة تدعم القانون الدولي والأولويات الإنسانية وحقوق الإنسان. نعم، قد تكون عملية التنسيق مع الشركاء لإيجاد حل مشترك موجعة، لكنها الطريقة الوحيدة التي تتيح للتحالف المضي قدماً وقيادة الصراع مع الأنظمة الاستبدادية مثل روسيا والصين، التي تنتهك عمداً القانون الدولي من خلال قمع شعوبها والتنمر على جيرانها.

المبادرة إلى إجراءات

تريد الصين وروسيا إعادة صياغة القواعد الدولية المتبعة، وذلك بإصرارهما على أن السيادة الوطنية هي أهم مبدأ قانوني، وهو مبدأ يتفوق ويسمو على القانون الدولي والقانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان. وعلى هذا، يتعين على الدول الملتزمة دعم الأنظمة القانونية الدولية أن توحد قواها. وعليها أن تفعل ذلك على أساس شراكة حقيقية. وفي هذا الإطار، كان رد إدارة بايدن على العدوان الروسي مثالاً يقتدى به: منذ أواخر ديسمبر 2021، بذل الرئيس جو بايدن وفريقه جهوداً قصوى لتنسيق الرد على بوتين بتحالف يتجاوز "الناتو" والاتحاد الأوروبي. من بين 193 دولة، كانت بيلاروس وإريتريا وكوريا الشمالية وسوريا هي الوحيدة التي أيدت روسيا في التصويت الذي جرى في مارس (آذار) في الجمعية العامة ودان هجوم بوتين.

وبالعودة إلى تسلسل الوقائع، أظهرت الحكومة الألمانية الجديدة بعض التردد في الانضمام الكامل إلى العقوبات المحتملة، بيد أن واشنطن عالجت الوضع بصبر وسمحت للألمان بتسوية الخلافات داخلياً ، والانضمام في النهاية إلى إجماع على العقوبات. ويتعين على ألمانيا، وهي رابع أكبر اقتصاد في العالم، تعزيز دورها الدولي. وهي بدأت تفعل ذلك في عهد المستشارة السابقة أنغيلا ميركل. وفي هذا الإطار، تُعد ألمانيا ثاني أكبر مساهم مالي في منظومة الأمم المتحدة، وهي مصدر رئيس لدعم المنظمة التي تعزز النظام الدولي القائم على القواعد، كما أنها الكيان الوحيد المخول للتعامل مع التحديات العالمية. جنباً إلى جنب فرنسا، ساعدت ألمانيا على التفاوض على اتفاقية مينسك مع روسيا وأوكرانيا وعلى لجم الهجوم الروسي عامَي 2014-2015. وبالاشتراك مع الأمين العام للأمم المتحدة، نظمت ألمانيا مؤتمر برلين عام 2020 حول ليبيا، وكانت نتائجه بمثابة أساس لإنهاء القتال هناك وفتحت مساراً نحو حل سياسي للصراع. وإلى ذلك، ألمانيا جزء من مجموعة الدول التي تفاوضت في قيادة الاتحاد الأوروبي على الاتفاق النووي الإيراني. كانت ميركل القوة الدافعة وراء اتفاق مجموعة العشرين مع أفريقيا (Compact with Africa)، ووجه الاتفاق الاهتمام الدولي نحو القارة ودعا بلداناً أفريقية مختارة إلى قمة مجموعة العشرين في هامبورغ عام 2017.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجلي أن الدول تتوقع المزيد من ألمانيا. وعندما عملتُ كمستشار دبلوماسي لميركل وسفيراً لألمانيا لدى الأمم المتحدة، تأثرت بالطلبات المتعددة من ممثلي الدول الأخرى الذين طالبوا بمزيد من القيادة الألمانية في مناطق متنوعة مثل غرب البلقان وأوروبا الشرقية والبحر الأبيض المتوسط ​ومنطقة الساحل وآسيا الوسطى وحتى أميركا اللاتينية. وبالطبع، لقد قدر ممثلو الدول موقف ميركل ورباطة جأشها، وفي الوقت نفسه احترموا التزام ألمانيا سياسة خارجية غير أبوية ولا استعمارية جديدة. وتدرك الدول أن ألمانيا تقدم كثيراً من مساعداتها المالية مباشرة إلى وكالات الأمم المتحدة، وتسعى إلى دعم أهداف التنمية وحفظ السلام من دون الحصول على أي جزاء فوري في المقابل.

وتعهدت حكومة شولز أن تتحمل ألمانيا مزيداً من المسؤولية على المسرح الدولي. وفي هذا السياق، يمكن لألمانيا تعزيز الاستقرار في البلقان، وأوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى والشرق الأوسط الأوسع وأفريقيا الشمالية و أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، من خلال الدبلوماسية النشطة، وعقد المؤتمرات، واستضافة الجهات الفاعلة الرئيسة، وإشراك الآخرين بكل الوسائل السلمية المتاحة لها. كذلك، ووعد شولز بتعزيز التزام ألمانيا تجاه الاتحاد الأوروبي. في الواقع، يمكن لألمانيا كدولة أن تفعل أموراً كثيرة في مجالات تقديم الدعم والمساعدة في الجوار الأوروبي الأوسع، وفي المقابل، لا يمكن إلا لاتحاد أوروبي قوي الاضطلاع بدور أكثر فاعلية على مستوى العالم.

مشكلة الاستثنائية

لا تزال الولايات المتحدة أقوى دولة ديمقراطية فاعلة على الصعيد العالمي، وهي في الوقت نفسه، تحد كبير. ففي عام 2019، اشتكيت إلى أحد أعضاء إدارة ترمب من عدم الاحترام الذي أظهرته الإدارة لقرارات مجلس الأمن المعتمدة في عهد إدارة أوباما. ورد المسؤول بأن إدارته تعتبر الالتزامات الدولية التي أبرمتها سابقتها باطلة. صُدمتُ مرة أخرى، وواجهت نموذجاً حاداً  من الاستثنائية الأميركية يدعي أن الولايات المتحدة تعلو فوق بقية العالم، وفوق قواعد بقية العالم. من المؤكد أن الولايات المتحدة طوال القرن العشرين، عززت الديمقراطية وحكم القانون الدولي. وهي تتردد في قبول خضوعها لهذا القانون، كما يتضح من صنيعها في حرب فيتنام وغزو العراق عام 2003، فضلاً عن انتهاكاتها في معتقل خليج غوانتانامو وسجن أبو غريب في العراق.

 ولا ننسى أن النظام الدولي القائم على القواعد لن يسود إلا إذا التزمته الولايات المتحدة. وجلي أن الولايات المتحدة لم تبقَ في القرن الحادي والعشرين القوة العظمى الوحيدة التي يعود إليها التأثير في أطوار العالم كله، وتمتلك القدرة والدعم المحلي للتدخل على صعيد العالم. فمن غير تنسيق حقيقي مع حلفائها، هرعت إدارة بايدن وخرجت من أفغانستان في عام 2021، ونفذت الصفقة المحرجة التي عقدتها إدارة ترمب وترك السكان الأفغان إلى "طالبان"، منتهكي حقوق الإنسان الأساسية، وخصوصاً حقوق النساء. ولم ير عدد كبير من أصدقائي الأميركيين ما يستوقف في الفوضى والانفراد اللذين غلبا على الانسحاب. ولم يعترضوا على الوضع الذري الذي وجدت الحكومة الجمهورية الأفغانية نفسها فيه، وهو غيرمعقول (ومحكوم عليه بالفشل)، ولا على مفاجأة حلفاء الولايات المتحدة بالانسحاب. وكان شعور أصدقائي أن الانسحاب السريع كان ضرورياً للتركيز على التحديات الكثيرة التي واجهتها البلاد في الداخل، على غرار التعليم والصحة والبنية التحتية والتفاوت في الدخل وما إلى ذلك. وآذن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان بانسحابها التدريجي من إدارة الأزمات الدولية، ودعا الآخرين إلى العمل: على تحالف عالمي أوسع يضم ألمانيا أن يملأ الفراغ.

لن يسود النظام الدولي القائم على القواعد إلا إذا التزمته الولايات المتحدة.

والحق أن إحجام الولايات المتحدة عن التدخل رتب عليها في الماضي كلفة كبيرة. فكثير من حلفاء الولايات المتحدة اعتبر قرار إدارة أوباما بعدم التدخل عسكرياً في سوريا في عام 2013، حتى بعد أن تجاوز نظام الأسد الخط الأحمر الذي رسمته واشنطن واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، تحولاً. وأبدى أوباما تردداً، في ضوء تجارب الولايات المتحدة في فيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا، والبلدان الأخرى التي لم يسفر فيها التدخل عن النتائج المرجوة، بل أدت بدلاً من ذلك، إلى عمليات طويلة وكلفة بشرية ومالية باهظة واضطرابات مزمنة. وتجدر الإشارة إلى أن الخصمين الرئيسين للولايات المتحدة، الصين وروسيا، لاحظا ذلك، واستغلا نكوص أوباما. ومنذ ذلك، وسعا دوائر نفوذهما بالقوة، وانتهكا القانون الدولي بلا تحفظ (روسيا في أوكرانيا وليبيا وسوريا، والصين في هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي وفي سياستها تجاه الأقليات، بما في ذلك الإيغور). ولم يكبح اضطراب إدارة ترمب نزعات بكين وموسكو إلى التوسع.

 ولا ريب في أن القيادة الأميركية الدولية لا تقتصر على إعمال القوة العسكرية. فالدبلوماسية الملتزمة تضطلع بإرساء النظام على قواعد. ومثال على هذا الاتفاق النووي الإيراني. فسنوات من المفاوضات المكثفة والمعقدة خلصت إلى توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015. والتزمت إيران الاتفاقية وقلصت أنشطتها النووية وسمحت للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية. فنُزع فتيل الخطر المباشر المتمثل في حصول إيران على قنبلة نووية. وصادق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 على خطة العمل المشتركة الشاملة ومنحها شرعية القانون الدولي. واعتُبرت الصفقة تحفة دبلوماسية. ففي السنوات الأخيرة، لم تُعقد اتفاقية دولية مهمة أخرى بين هذا العدد من القوى الكبرى: الصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وحالت دون اندلاع حرب محتملة في المنطقة. وبالطبع، لم تكن الصفقة كاملة. وظل النظام الاستبدادي الوحشي في طهران قائماً، ولا ضمانة لتخليه عن أي من سياساته الإقليمية المدمرة.

ولسوء الحظ، قررت إدارة ترمب إلغاء الصفقة، منتهكة بذلك القانون الدولي، ومتسببة بتراجع ​​الثقة في الولايات المتحدة. وتفاقمت النزاعات في المنطقة. فتردى الوضع في اليمن، وزاد الإيرانيون من دعمهم لـ"حزب الله" في لبنان ونظام الأسد في سوريا، واستمروا في تقويض الحكومة العراقية. وعوض العمل مع الولايات المتحدة، سارع الشركاء الأوروبيون إلى إقناع النظام الإيراني بعدم التخلي عن الصفقة. وكان هذا كابوساً دبلوماسياً في نظر الأوروبيين، الذين اضطروا فعلياً للعمل مع إيران ضد الولايات المتحدة.

وكان بايدن أعلن قبل توليه منصبه أنه ينوي العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. ولكن بدلاً من رفع العقوبات المفروضة على إيران فوراً، كما التزمت الولايات المتحدة عند توقيع الاتفاق، بدأت إدارة بايدن عملية تفاوض لحمل الإيرانيين على تقليص أنشطتهم التي تنتهك خطة العمل الشاملة المشتركة. وصاغت نهجاً غير منسق مع الحلفاء مرة أخرى، خالفت صعوبة تنفيذه سهولة تصوره. فشعر الإيرانيون أنهم تعرضوا للخداع وأن على الولايات المتحدة تقديم تنازلات أولاً. ويبدو أن آفاق الحل الدبلوماسي للخطر النووي الإيراني تبتعد. وأي اتفاق جديد سيكون أسوأ من خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية. والمأزق الحالي يذكر المسؤولين الأميركيين بضرورة التزام القانون الدولي على محمل الجد.

إطار جامع وعام

ولعل الحرب في أوكرانيا منعطف آخر على طريق النظام الدولي القائم على القواعد، واختبار للدور الأميركي في الشؤون العالمية. ولا شك في أن إدارة بايدن أخذت زمام المبادرة في مواجهة عدوان بوتين العنيف. وصوتت الجمعية العامة في مارس على إدانة الحرب صفاً واحداً. لكن هذا التضامن ليس قوياً كما يبدو. وفي كثير من البلدان، بما في ذلك الديمقراطيات الكبرى مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، يُنظر إلى الصراع على أنه عودة إلى ديناميكية الحرب الباردة التي تضع الولايات المتحدة و"الغرب" في مواجهة روسيا. ويرى ناس كثر حول العالم في رد الولايات المتحدة معايير مزدوجة: فالولايات المتحدة كانت حين غزو العراق مُلامة على انتهاك القانون الدولي والعدوان على سيادة دولة أخرى. ويشهد الاقتصاد العالمي تباطؤاً، فيما أسعار الطاقة آخذة في الارتفاع، وأصبح الغذاء أكثر ندرة وأعلى تكلفة. وبعض الناس الذين أصابتهم آثار هذه الحال يرون أنها ثمرة العقوبات "الغربية" بقيادة الولايات المتحدة على روسيا.

فالاستجابة الأفضل لحرب بوتين والانتهاكات المماثلة لميثاق الأمم المتحدة في المستقبل ينبغي أن تكون جماعية، وعلى شركاء من جميع أنحاء العالم يلتزمون أسس القانون الدولي ويسعون إلى حمايتها، وأن يتولوا تنظيمها. ويقتضي الأمر اضطلاع خارج الولايات المتحدة، المزيد من الدول ذات التفكير نفسه، بما في ذلك دول مجموعة السبع وحكومات من جميع القارات التي تلتزم النظام القائم على القواعد، استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

 وينبغي أن يكون الهدف الكبير والأخير التنفيذ النهائي للوعد بأن نكون "شركاء في القيادة" الذي قدمه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب إلى المستشار الألماني هيلموت كول في عام 1989. كان التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على فرض عقوبات على روسيا بعد هجومها على أوكرانيا في عامي 2014-2015 مثالاً على تلك الشراكة. فنسقت العقوبات وتزامن فرضها. وشكلت خطة العمل المشتركة الشاملة  مثالاً آخر، إلى أن انسحبت الولايات المتحدة بشكل أحادي. وتتطلب الأزمات الأخرى، إلى العدوان الروسي على أوكرانيا، اهتماماً جماعياً وعملاً مشتركاً. ويصح هذا في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي والساحل الأفريقي. وكذلك الحال في شأن مستقبل أفغانستان والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وحاولت الولايات المتحدة الخروج من كلا المنطقتين، وهذا خطأ. ولا ريب في أن مبادرة إدارة بايدن، على سبيل المثال، إلى تنشيط عملية السلام في الشرق الأوسط ، وإحياء اللجنة الرباعية للشرق الأوسط، وتوافق روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة الذي تأسس عام 2002، على الدفع نحو حل الدولتين وحل سلمي للصراع، أمر مرحب به. وقد يضمن هذا ألا تقع المنطقة بأكملها فريسة تقلب حاد إذا انخرطت الأطراف كلها، على خلاف أحادية ترمب أو عدم تدخل أوباما.

 ويمكن أن يساعد بايدن في تعزيز تحالف عالمي يضم الدول التي تلتزم احترام القانون الدولي. ويقتضي ذلك من الولايات المتحدة تغيير طريقة تفكيرها. فعليها أن تنسق مع شركائها بشكل أكثر منهجية، وأن تتعامل مع الحفاظ على القانون الدولي كأساس لجميع أعمالها. وعلى ألمانيا، على وجه الخصوص، وأوروبا على نطاق أوسع، تحمل مزيد من المسؤولية، وتوفير الأدوات العسكرية والمدنية الكافية لإدارة الأزمات، والاضطلاع بدور قيادي في حل الأزمات الدولية، والتواصل مع الشركاء خارج الجوار المباشر. وعليه، فإن خطوط الصدع اليوم ليست بين الغرب والشرق الشيوعي، كما كانت خلال الحرب الباردة، بل بين أولئك الذين يلتزمون نظاماً دولياً قائماً على القواعد وأولئك الذين لا يلتزمون أي قانون على الإطلاق، باستثناء قانون الأقوى.

مترجم من فورين أفيرز، مايو (أيار) 2022

المزيد من تحلیل