Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كاتب الرواية الأميركية الأكبر "على الطريق" كان يريد أن يكتبها بالفرنسية

هل كان في مقدور لغة "كيرواك" الأم أن تعبر عن تلك الحياة الصاخبة والرحلة المدهشة؟

لقطة من فيلم "على الطريق" المقتبس من الرواية (موقع كان السينمائي)

منذ صدورها للمرة الأولى في عام 1957 تعتبر رواية الكاتب الأميركي - الكندي جاك كيرواك "على الطريق" الرواية الأكثر أميركية في النصف الثاني من القرن العشرين، وواحدة من أكثر الروايات تجديدية حتى في استخدامها اللغة الإنجليزية الأميركية وصولاً إلى إضافتها العديد من كلمات اللغة المحكية في القاموس الأدبي والاصطلاحي لهذه اللغة. وكان هذا الأمر مسلماً به، ليس فقط منذ نشر الرواية في عام 1957، بل حتى من قبل ذلك حين كشف كيرواك عن ذلك المخطوط الذي بات من الأشهر في ذلك الزمن، والذي يتألف من لفافة طويلة من الورق طبع عليها كيرواك نص روايته بطريقة مبتكرة على صفحة طويلة واحدة تحولت إلى مئات الصفحات الخالدة في الكتاب. كل هذا بات معروفاً كما أن لغة كيرواك الجديدة باتت على الفور "اللغة الأميركية" بامتياز، ناهيك بأن المخطوط نفسه بات نزيل المتاحف والمعارض.

من هنا، حين كشفت صحيفة "لي ديفوار" الكندية الكيبيكية الصادرة باللغة الفرنسية عام 2007 ولمناسبة الذكرى الخمسين لصدور الرواية، كما لمناسبة تمكن المخرج البرازيلي والتر ساليس من تحويلها إلى فيلم، بعد أن ظلت طويلاً عصية على ذلك، حين كشفت عن أن كيرواك إنما كان يريد أول الأمر أن يكون كاتباً في اللغة الفرنسية لا في الإنجليزية، بل إنه حتى حين شرع في كتابة روايته التي ستصبح أشهر أعماله ورواية "الحداثة اللغوية الأميركية"، كتبها بالفرنسية أسوة بكثير من القصص والنصوص والرسائل التي دبجها قبل ظهوره المدوي على مسرح الفن الروائي العالمي.

وريث بروست وسيلين

بكلمات أخرى سعى كيرواك أول الأمر إلى أن يكون كاتباً بالفرنسية، وهو الذي كان على أية حال متأثراً بالفرنسيين مارسيل بروست وسيلين أكثر من تأثره بأي كاتب آخر. ولئن كان هذا التأثر قد بات ذات حقبة في مهب النسيان، فإن "الاكتشاف" الذي حققته صحيفة "لي ديفوار" أعاده إلى التداول من جديد، ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من التذكير بأن كيرواك كان كندياً من أصول فرنسية ابناً لعائلة هاجرت باكراً من مقاطعة "بريتاني" في الغرب الفرنسي إلى كيبيك الكندية، ومن ثم نزحت إلى "نيوإنغلند" في الولايات المتحدة حيث ولد جاك في ماساتشوستس، وتربى وتعلم في نيويورك قبل أن يتحول إلى الأدب بعد مهن عديدة مارسها، على طريقة كبار الكتاب الأميركيين ليصل في أدبه إلى الذروة مع صدور "على الطريق".

من هنا، لم يكن غريباً أن تحقق الصحيفة الكيبيكية ذلك الاكتشاف الذي قلب النظرة إلى كيرواك تماماً، أما الاكتشاف نفسه فإنه لم يتحقق إلا حين تم العثور في نيويورك على ملفات تضم أكثر من 200 صفحة كتبها كيرواك بلغته الأم الفرنسية في مناسبات مختلفة، وكان من أهم ما فيها مخطوط رواية في نحو 50 صفحة عنونها الكاتب "الليل امرأتي"، إضافة إلى الصفحات التي تشكل المسودة المختصرة الأولى لرواية "على الطريق".

الجوانية في اللغة الأم

ولعل الأمر اللافت أكثر من أي شيء آخر في الحكاية هو أن الكاتب يبدو في الفرنسية أكثر تعبيراً عن ذاته وأكثر غوصاً في جوانيته مما هي حاله في النصوص العديدة التي سيكتبها لاحقاً، وينطبق هذا بخاصة على الصفحات التي تشكل الأصل الفرنسي لـ"على الطريق"، حيث يبدو كيرواك تحت سمات تلك الشخصية التي كانت تلقب في طفولته بـ"تي جان" وتسعى إلى الخروج من شرنقة سن المراهقة والدخول في عالم تلك الحياة الجديدة التي ستؤسس ليس فقط لأدب أميركي جديد، بل كذلك لحياة اجتماعية شبابية جديدة. وهو ما نعرفه طبعاً عن الفعل الذي سيكون للرواية في صياغتها الإنجليزية الأخيرة والنهائية، ولكن لا بد من العودة إلى تلك الصياغة للإجابة عن السؤال الذي قد يطرحه القارئ هنا: ما هذه الرواية بعد كل شيء؟ ولماذا لها كل هذه الأهمية في تاريخ الأدب وحداثته في القرن العشرين؟

في صفوف الكبار

هي قبل أي شيء آخر الرواية التي جعلت كيرواك يعتبر من الروائيين الكبار في تاريخ الأدب الأميركي المعاصر، كما يعتبر في الوقت نفسه "مؤرخاً" لجيل بأسره من الكتاب والشعراء الأميركيين هو جيل "البيت" "بيت جينيرايشن"، الذي هيمن على الحياة الفكرية الأميركية وربما أيضاً على إرهاصات الشبيبة خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية، بالتالي بدا أدب كيرواك تعبيراً عن ذلك الجيل وربما تاريخاً له أيضاً، وهو تاريخ يضم عدداً من الأسماء الأميركية اللامعة التي برزت في العقود التالية، مجتمعة أو مستقلة، وأثرت في الفنون والآداب، ولا سيما في الغناء حيث يقال عادة إن مغنين كباراً من الأميركيين والإنجليز كانوا يتفاخرون بانتماء ما إلى ذلك الجيل وفي مقدمتهم بوب ديلان وفريق "البيتلز" وبوس سبرنغسترين وصولاً إلى ليونارد كوهين.

اختصار سيرة ذاتية

والحقيقة أن رواية "على الطريق" تكاد تختصر هذا كله، طالما أننا نعرف الآن أنها رواية في السيرة الذاتية، أو لنقل بالأحرى إنها رواية شاء كيرواك من خلالها أن يقدم سيرته ولكن، في ظل شخص آخر كان صديقاً له لفترة من الزمن وترافقا معاً في رحلات عبر مناطق أميركا، وما الرواية سوى سرد لتلك الرحلات ناهيك برحلات أخرى قام بها جاك كيرواك من دون صديقه، والصديق هو نيل كاسيدي، في الرواية، الاسم الذي سمي هنا موريارتي، فيما يسمي كيرواك نفسه في الرواية سال بارادايس، ويختار أسماء أخرى كثيرة لرفاق وأهل آخرين يمرون في فصول الرواية من ويليام بوروز الذي يضحى أولد بيل لي، وآلان غينسبرغ الذي يسمى كارلو ماركس وكارولين كاسيدي التي تصبح كاميل إلى غيرهم.

ومنذ البداية يبدو بطل الرواية منبهراً بموريارتي إذ يتعرف إليه، ومن هنا، يكاد يجعل من بعض أجمل فصول الرواية انعكاساً لذلك الانبهار. وعلى طول الرواية، وإذ لا يتوقف الكاتب عن الحديث عن هذا الصديق لا يفوته بين الحين والآخر أن يصف موبقاته ومساوئه ومغامراته وغرامياته، التي يحدث لها كثيراً أن تتقاطع مع غراميات سال -كيرواك- نفسه، غير أن هذا كله يبقى ثانوياً في "على الطريق".

أمور أميركا وحلمها

وذلك لأن الرواية تبدو لدى القراءة أكثر كثيراً من مجرد عمل كتابي عن الصداقة وخيباتها، كما تبدو في الوقت نفسه، أكثر كثيراً من مجرد سرد لرحلة أو أكثر من رحلة عبر أميركا، وبعض المناطق الأخرى أيضاً. فهي بعد كل شيء رواية حياة بأسرها ورواية روح جيل عند لحظة انعطافية من تاريخه... رواية ذهنيات. فالحال أن كيرواك خلال تجواله، في الرحلات الكثيرة التي يقوم بها، حيناً مع صديقه وحيناً مع عدد آخر من الأصدقاء ثم مع فتاة من هنا وأخرى من هناك، إنما يرصد حياة كل هؤلاء وذهنياتهم وعشرات غيرهم سواء أكانت لهم أدوار أساسية أو يمرون في فصول الرواية عابرين، وفي هذا المعنى جرى، ومنذ البداية، وصف الرواية بأنها رواية طريق.

لا يمكن بالطبع تلخيص أحداث هذه الرواية التي، في شكل أو في آخر، اخترعت أو أعادت اختراع أدب الطريق في الحياة الأدبية الأميركية ثم العالمية أيضاً... فهي، كما الحياة نفسها، رواية من دون أحداث مركزية، هي رواية أماكن وأشخاص، رواية تتسلل إلى دواخل الأشخاص ونفسياتهم راسمة ذلك المناخ الغريب الذي كان يهيمن على بلد "الحلم الأميركي" في وقت كانت فيه كوابيس ذلك الحلم قد بدأت تظهر.

وهنا، حتى وإن كان من الصعب القول إن مناخ الرواية درامي أو مناخ خيبة أو ما شابه، يمكن الإشارة إلى أن الخيبة والفراغ والخواء الروحي أمور تهيمن تماماً على فصول الكتاب، من دون أن تكون هناك في المقابل أية مساعٍ لمجابهة ذلك الواقع. إنه أشبه بالعبث الوجودي الذي يدفع إلى تقبل الحياة كما هي من دون أي تساؤل عما كان يمكنها أن تكون. والحقيقة أن هذه الذهنية كانت هي الذهنية المهيمنة على الرواية بأسرها تلك الرواية التي يتغير فيها بين صفحة وأخرى كل شيء. يتغير كما تتغير الطريق، وليس الرحلات والأماكن فقط، وحده الزمن يبدو جامداً مهما كان حجم التغيرات، ووحده الموت لا يجد من يأبه له، ولعل هذا ما يضعنا في النهاية أمام سؤال أساسي يفرضه علينا اكتشاف الصحيفة الكندية: ترى كيف كان يمكن لهذا كله أن يقرأ بالفرنسية لو أكمل كيرواك دربه مستخدماً لغته الأم، لغة موليير؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة