Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خلفيات المطالبة بطرد الوجود الفرنسي من تشاد

احتجاجات ضد سيطرة الجيش على السلطة في البلاد بدعم من باريس لكن انسحاب الأخيرة لن يخلو من "انقسامات موجعة"   

بعد استقلال تشاد في عام 1960 بدأ الوجود الفرنسي اللاحق يأخذ بعداً آخر (رويترز)

لا تطل تشاد على فضاءات جيوسياسية متعددة، لكن وقوعها بين السودان وليبيا والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى ونيجيريا والكاميرون، منحها موقعاً مميزاً بالنسبة إلى فرنسا والقوى الغربية الأخرى، وصاغ طبيعة مشاركتها في الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل، لتنطلق من مركزها إمكانية متابعة وإدارة مصالح هذه القوى في الدول المجاورة لها.

ومع تمسك فرنسا بإجراء حوار وطني بهدف الوصول إلى مصالحة في تشاد، وتأكيد دعمها جهود السلطات والأطراف التشادية في هذا الاتجاه مع بقية الشركاء الدوليين في هذه الظروف، قاد تحالف المعارضة المناهض للمجلس العسكري الانتقالي "واكيت تاما" مظاهرات مطالبة بانسحاب المجلس العسكري من الحكم، والتنديد بدعم فرنسا الرئيس محمد كاكا ديبي.

ويضم تحالف "واكيت تاما" أحزاباً سياسية وجماعات مدنية معارضة للمجلس العسكري الانتقالي الذي يقود البلاد منذ وفاة الرئيس السابق إدريس ديبي في 20 أبريل (نيسان) 2021. وبينما تواجه باريس حملات داخلية، وتواجه نجامينا أيضاً اعتراضات ضد سيطرة الجيش على تشاد، ودعم باريس المجلس العسكري والوجود الفرنسي عموماً، وبينما عدت فرنسا الراعي لاستيلاء المجلس العسكري على الحكم في تشاد، الذي وصفته المعارضة بأنه "انقلاب مؤسساتي"، دافعت فرنسا عن نفسها بأنها ضد توريث الحكم، لكنها تدعم محمد كاكا لظروف استثنائية من أجل تحقيق الأمن هناك.

 وفي الإطار الإقليمي المحيط بتشاد، يبرز توتر علاقة فرنسا بمستعمراتها الأفريقية السابقة، الذي تنامى خلال السنوات الأخيرة، ما أدى إلى مشاعر مناهضة للوجود الفرنسي غذته الحركات الثورية والاجتماعية ضد الانقلابات العسكرية الأخيرة في عدد من الدول، إذ ترى هذه الحركات أن الوجود الفرنسي هو الداعم الرئيس للانقلابيين.

أفريقيا الفرنسية

بعد خروج الاستعمار الفرنسي الذي بدأ في تشاد كجزء من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية من عام 1900 إلى حين استقلالها في 1960، بدأ الوجود الفرنسي اللاحق يأخذ بعداً آخر يترجم الظاهرة الاستعمارية باعتبارها أحد العوامل المؤسسة والموجهة للسلوك السياسي المترسخ من فترة الاستعمار.

وبعد أن تحولت تشاد إلى الإدارة المدنية الفرنسية عام 1920، لم تتمكن من التحكم في المجالات الحيوية المحيطة بها، واستمر ذلك إلى ما بعد استقلالها، كما استمرت التهديدات إلى ما بعد استيلاء إدريس ديبي على الحكم في 1990، خصوصاً من جهة الشمال، التي نشط فيها المتمردون التشاديون، إضافة إلى متمردي ليبيا والسودان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 عند بداية الاستعمار الفرنسي، كان هذا الجزء من شمال وغرب أفريقيا يمثل أهمية كبرى لفرنسا لترسيخ وجودها وحماية طرق تجارتها، وربطت أمن سفنها في البحر المتوسط بأمن حملتها في البر الأفريقي، في ظل منافسة محتدمة مع القوى الاستعمارية الأخرى خصوصاً الإنجليزية والإسبانية.

 ارتبطت تشاد بفرنسا عسكرياً بإنشاء الإقليم العسكري فيها، وأسس هذا التاريخ للعلاقة المستمرة حتى الآن، إذ تعد نجامينا مركز القيادة المركزية لقوة "برخان" الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، حيث يتمركز هناك نحو 1000 جندي إلى جانب عدد من طائرات ميراج المقاتلة البالغة نحو 2000 طائرة. وتدعم "برخان" قيادة مجموعة دول الساحل الخمس، التي تضم قوات من تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو. كما تعمل البعثة الفرنسية أيضاً على دعم شركاء فرنسا الأفارقة وحماية المصالح الاقتصادية الفرنسية.

وارتبطت فرنسا بتشاد أمنياً، إذ ظلت تشاد تقدم لفرنسا دعماً استخباراتياً في إطار القتال ضد الإرهاب في وسط وغرب القارة، وكذلك قدمت فرنسا لتشاد دعماً استخباراتياً ولوجستياً ضد التمرد الذي نشأ بعد إعادة انتخاب الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو مرشحاً عن حزب "حركة الإنقاذ الوطنية"، للمرة السادسة في 11 أبريل 2021، ثم فوزه قبل مقتله في الجبهة أثناء صراع مع المتمردين في شمال البلاد بأيام قليلة.

تداخل وثيق

أتاح القرب الجغرافي والتداخل الحدودي لتشاد مع السودان وليبيا الفرصة لتوثيق الصلات بين البلدان الثلاث، فمن جهة السودان تتداخل قبيلة الزغاوة بينه وبين تشاد، وينتمي إليها أغلب زعماء الحركات المسلحة السودانية كما ينتمي الرئيس السابق إدريس ديبي، ومن الزغاوة السودانية في إقليم دارفور دخل ديبي العاصمة نجامينا عام 1990. ومن جهة ليبيا توثقت الصلات بوجود قبيلة التبو التي تعيش على الحدود بين البلدين.

واحتوت الخرطوم وطرابلس المعارضة التشادية في وقت سابق من تاريخها، كما احتضنت نجامينا معارضة البلدين. ومن جهة أخرى كان ديبي يستخدم ليبيا لتهدئة التوتر مع السودان قبل أن يدخل البلدان في تحالف استراتيجي عام 2010، ويطرد السودان عناصر المعارضة التشادية المسلحة من دارفور.

تزايد التوتر بين السودان وتشاد عام 2005، فأسهمت ليبيا في إيجاد حل إقليمي بديل تحت إشراف الاتحاد الأفريقي ليحد من تدخل الأمم المتحدة الذي كان يعارضه العقيد القذافي بشدة. ووافق السودان على الوساطة الليبية على مضض، لأن ليبيا كانت داعمة لبعض فصائل التمرد السودانية مثل حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، وكان العقيد القذافي يحاول إيجاد زعامة إقليمية، وحاول إجبار الحكومة السودانية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حركات التمرد.

 وبمقتل ديبي الأب وقيام الثورة السودانية خفتت مظاهر التعاون بين البلدين، وبعد اندلاع أحداث العنف في مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور بين القبائل العربية والأفريقية، تداولت أصوات سودانية أن محمد كاكا ديبي هو من سلح مقاتلي قبائل الزغاوة والمساليت.

حماية ديبي

بالإضافة إلى عملياتها الرئيسة، حمت فرنسا الرئيس إدريس ديبي وصدت الهجوم عنه مرتين: الأولى في 2008، عندما تعرض لهجوم من المتمردين من قبائل الغوران الذين كونوا حركة (مجلس القيادة العسكري لإنقاذ الجمهورية) بجنوب ليبيا. والمرة الثانية في فبراير (شباط) 2019 عندما قصفت رتلاً عسكرياً من 40 شاحنة بطائرات ميراج المقاتلة بناء على طلب من سلطات تشاد، وكان الرتل في طريقه من الحدود التشادية الليبية لنجامينا لإطاحة ديبي، فأرسل رسالة خطية إلى باريس التي سارعت إلى حمايته. ثم قدمت فرنسا المساعدة أثناء تمرد آخر في 2021. فقد كان الرئيس ديبي أحد أقوى حلفاء باريس في القارة السمراء.

يعود نجاح فرنسا في الاستمرار بتشاد وبقية مستعمراتها الأفريقية إلى أن الدول الأفريقية بعد استقلالها، مع اختلاف نظم حكمها وتنوع مواردها، غالباً ما تكون في حاجة إلى حلف عسكري، وعدد منها لم يكن سعيداً بالخروج النهائي للمستعمرين السابقين الذين بقوا بأشكال أخرى.

محركات التظاهرات

حركت الاحتجاجات ضد الوجود الفرنسي عوامل عدة: أولاً، بعد رحيل ديبي قال المتمردون في «جبهة التناوب والوفاق» إن الصراع بينهم وبين المجلس العسكري لن يؤثر في مصير عمليات برخان، لكن تغيرت رؤية المعارضة على أثر تفاقم الأوضاع المعيشية، وتداعيات تعثر برامج التنمية على المجتمع التشادي، فواصلوا الاحتجاجات.

ثانياً، تعالي صوت الغضب التشادي ضد الوجود الفرنسي في البلاد، وهو جزء من غضب عام تواجهه فرنسا في عدد من الدول الأفريقية، لا سيما مالي وبوركينا فاسو على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلاد. وفي تشاد تواردت أنباء حول عزم فرنسا بناء خمس قواعد عسكرية جديدة. وعلى الرغم من النفي الفرنسي للخبر، فإن تحالف "واكيت تاما" تمسك به، وبنى على حقيقة امتلاك فرنسا قاعدتي عمليات أماميتين فى فاياــ لارجو بوسط تشاد، إضافة إلى قاعدة على الحدود الشمالية مع ليبيا، وأخرى في أبيشي على الحدود مع السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى.

ويعتقد المحتجون بقيادة هذا التحالف أن فرنسا تحمي المجلس العسكري في تشاد، فعقب مقتل ديبي بشهرين طرح المجلس العسكري التشادي فكرة تمديد الفترة الانتقالية، وأعلن في مطلع مايو (أيار) تأجيل الحوار الوطني بين المجلس العسكري ومجموعات متمردة على رأسها "جبهة الوفاق والتناوب"، إلى حين الاستعداد له، إلى أن عقد أخيراً في الدوحة.

ومنذ مقتل ديبي استمرت الاحتجاجات، وفي 6 أبريل الماضي أعلن تحالف "واكيت تاما" تعليق محادثاته مع المجلس العسكري، مستنكراً "إصرار المجتمع الدولي على دعم نظام غير قانوني وغير شرعي مهما كلف الأمر". ومنها انطلقت الاحتجاجات على هذا الدعم.

ثالثاً، تراجع النفوذ الاقتصادي الفرنسي في المستعمرات الفرنسية السابقة، وفي تشاد تحديداً، وبدأت موسكو وبكين تحل محلها بعد الحصول على مواقع استراتيجية في مجالات الطاقة والنقل والخدمات اللوجستية التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية. ويتزامن ذلك مع توجه دول القارة شرقاً بدلاً من الغرب. كما يشاع أن "جبهة الوفاق من أجل التغيير" اشتركت في القتال إلى جانب مجموعة "فاغنر" الروسية خلال الحرب في ليبيا.

آثار الانسحاب

تتعرض تشاد في ضوء التطورات التي أحدثها الوجود الفرنسي، مع تراخي باريس عن تقديم دعم فعال لها وللدول الأفريقية، إلى مهددات جمة أفرزت ما يعرف بمأزق الدولة الوطنية، الذي اختصره عالم الاجتماع الأميركي دانيال بل بقوله، "الدولة أصبحت أصغر من أن تتعامل مع المشكلات الكبرى (الاقتصاد العالمي، والتدهور البيئي، والمخدرات، والإرهاب)، وأكبر من أن تتعامل بفعالية مع المشكلات الصغرى".

وعليه، يهيئ الانسحاب الفرنسي في ظل هذه المهددات وما قد ينتظر تشاد من انقسامات إثنية ودينية وسياسية لمزيد من الانشقاقات يصعب التعامل معها منفردة. وفي ظروف كهذه فإن الدولة التي كانت تحارب الإرهاب، ربما تتحول إلى مرتع للجماعات الإرهابية التي ستأتي بحجة إقامة دولة إسلامية محاربة للوجود المسيحي في البلاد. وفي هذه الظروف أيضاً من المتوقع انشقاق كتائب من الجيش الذي كان يسيطر عليه ديبي الأب بمساندة فرنسا، ما قد يهدد تعهد محمد كاكا بإجراء انتخابات حرة وديمقراطية في نهاية الفترة الانتقالية التي تستمر 18 شهراً من تاريخ تولي المجلس العسكري السلطة في البلاد، قابلة للتجديد مرة واحدة.

وعلى الرغم من دعم ديبي الابن المجلس العسكري، المكون من 15 جنرالاً، ببعض الوزراء المدنيين المعارضين، فإن ذلك لم يقنع فصائل المعارضة العديدة التي تتوزع أهدافها التنظيمية، بينما تجتمع حول هدف واحد هو طرد الوجود الفرنسي من تشاد.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل