Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما أرغمت ثورة مايو 1968 مهرجان "كان" على إنهاء دورته مبكرا

عودة أهم حدث سينمائي عالمي في دورة "عادية" تستعيد من الذاكرة دورته قبل خمسة عقود

المخرجون يحتجون ويطالبون بوقف المهرجان (غيتي)

غداً الثلاثاء يعود العيد السينمائي العالمي الكبير الذي يقام للعام الـ 75 إلى واجهة الأحداث السينمائية بل الثقافية في العالم، محاولاً أن ينسى ويُنسي محبي السينما والجمهور العريض ما حدث خلال العامين الفائتين، حين اضطرت الإدارة أولاً إلى إلغاء دورة العام 2020 بسبب انتشار وباء كورونا، وبالتالي استحالة السماح لعشرات الآلاف من رواد المهرجان بالتزاحم في تلك المدينة الفرنسية الجنوبية، أو الجلوس إلى جانب بعضهم لمشاهدة الأفلام، وبعد ذلك إلى تأجيل دورة العام التالي أسابيع عدة عن الموعد السنوي المحدد عادة في شهر مايو (أيار) من كل عام للسبب نفسه، فأتت الدورة الأخيرة مبتسرة إلى حد ما وأقيمت كيفما اتفق.

أما في هذا العام 2022، فالمهرجان يستعيد موعده الربيعي المعتاد، وربما استعاد كذلك رونقه الكبير ومكانته بوصفه أكبر مناسبة لاحتفال الفن السابع بنفسه في العالم، ومع ذلك فثمة بالتأكيد حسرة صغيرة لا بد من التوقف عندها، وتتعلق بالرقم الذي تحمله الدورة وهو 75، أي أننا أمام يوبيل مفترض.

والحقيقة أن إعدادات كثيرة كانت قد بدأت منذ نصف دزينة من السنين لجعل الدورة 75 استثنائية كما كان حال الدورة الخمسينية التي شهدت يومها منح جائزتها الكبرى لمخرجنا العربي يوسف شاهين، لكن الظروف الجديدة حالت كما يبدو دون ذلك، ولسوف يكتفى على الأرجح باحتفالات أقل طموحاً.

دورة مايو 1968

غير أن هذا المصير الذي يعانيه المهرجان بسبب كورونا ومستتبعاتها، وإن بشكل بات أخف الآن عاماً بعد عام، ما كان من شأنه أن يمر من دون أن يذكرنا بمصير دورة كانت في تاريخ المهرجان أكثر بؤساً وصخباً بكثير، ونعني هنا الدورة الـ 21 التي "عقدت" في العام 1968، ونضع هنا كلمة "عقدت" بين معقوفتين لأن الدورة عقدت ولم تعقد في الوقت نفسه، وتحديداً تلك المرة أيضاً لأسباب يبدو جوهرها خارجاً عن إرادة المهرجان، لكن الإمعان في تفكير ما حدث يومها يضعنا في صلب العلاقة بين السينما والسياسة، تلك العلاقة التي وصلت ذروتها في ذلك العام بالذات، ذروة تجلت في ذلك المصير الذي نشير إليه، ولنتذكر هنا أن تلك الدورة انعقدت في مايو 1968، وهو كما نعرف التاريخ المرتبط بذلك الربيع الشبابي والطلابي الذي أخذ العالم كله بشكل مباغت، لا سيما أن انطلاقته كانت من فرنسا تحديداً لتعم العديد من مدن العالم وبلدانه، في واحدة من تلك الثورات الكبرى التي تبدو في الظاهر وكأنها قد فشلت، لكن سبراً عميقاً لها يكشف عن نجاحها في خلق وعي سياسي وفكري كبيرين سيعم العالم خلال السنوات والعقود المقبلة، كما سنرى بعد قليل.

بين السياسة والسينما

أما الآن فلنعد إلى الربط بين السينما والسياسة من خلال ربيع مايو، الربط الذي وصل إلى ذروة من ذراه خلال الدورة الـ 21 لمهرجان "كان"، وجعل كثراً من المعلقين يعودون لذكرى ما حدث لمناسبة هذه الدورة الجديدة التي تلي دورتين سادتهما فوضى شديدة، فالحقيقة أنه لئن كانت دورة 1968 قد عاشت في الذاكرة وستعيش الى الأبد، فإن السبب في ذلك كان أن الدورة لم تكتمل أبداً، فهي بعد أيام قليلة من افتتاحها بالفيلم الأميركي الأيقوني "ذهب مع الريح" (1939)، الذي عرض بنسخة مرممة أعادته إلى الحياة كرمز سينمائي لا شك فيه، ذهبت بدورها مع الريح وسط صخب مريع وحراك ثوري قام به النقاد الفرنسيون وغيرهم من مثقفي العالم وسينمائييه، من الذين وصلتهم من باريس أخبار متضاربة وغير مطمئنة، ففي خضم انتفاضات الشبان والطلاب الذين كانوا في تلك الآونة بالذات يحفرون الخنادق ويقيمون المتاريس من حول الجامعات في العاصمة كما في نانتير وفنسان وغيرهما، بدا تدخل قوات الأمن الديغولية عنيفاً ولا يمكن استساغته، وهي حكاية لا بد من التذكير بأن ثمة فيلماً عن فصل من حياة المخرج جان لوك غودار، عرض في المهرجان نفسه قبل ثلاث سنوات من الآن بعنوان "الرهيب"، قد تحدث عنها ولكن طبعاً مع شيء من "التوابل".

وفي هذا السياق قد يتساءل القارئ عما إذا كانت هناك علاقة مباشرة بين المهرجان والربيع المنتفض في باريس غير علاقة التعاطف، والجواب المباشر هو نعم، وعلى الأقل في رأي السينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا تكلم برتولوتشي

فهنا يجب أن نذكر فيلماً آخر حققه هذا السينمائي الإيطالي الكبير قبل "الرهيب" بنحو عقد وأكثر، عرف فيه كيف يربط بين القضية السينمائية وربيع مايو ومهرجان "كان" برباط واحد. الفيلم هو "الحالمون" الذي تدور أحداثه في باريس أيام الانتفاضة الطلابية والشبابية تحديداً، بل حتى خلال الأيام التي استبقت أحداث مايو مباشرة وانتفض فيها المثقفون الفرنسيون، لا سيما الفنانون والسينمائيون منهم، ضمن إطار حركة نوادي السينما التي كانت بالغة القوة حينها، احتجاجاً على صراع عنيف لكنه إداري في خلفياته، دار بين وزير الثقافة الديغولي آنذاك الكاتب الكبير أندريه مالرو، وبين مؤسس ومدير السينماتيك الفرنسي هنري لانغلوا.

يومها احتشد المثقفون الفرنسيون مناصرة للانغلوا، واصلين إلى حد اتهام وزارة الثقافة ومالرو بالنازية.

ويرى فيلم "الحالمون" أن ذلك الصراع الذي تحول إلى صراع عنيف بين الجسم الثقافي الفرنسي والسلطات الديغولية، سواء كانت ثقافية أم غير ثقافية، كان هو الشرارة الحقيقية التي أطلقت شرارة ربيع مايو ككل، ولئن كان ذلك الربيع قد أكمل طريقه لاحقاً في استقلال تام عن السينما، فإن دورة مهرجان "كان" شهدت نقطة الذروة في الدور الذي لعبته السينما في الحراك ككل، حتى وإن كان من المعروف أن قضية لانغلوا كانت قد سويت قبل ذلك بزمن، وهذا ما يعيدنا إلى اليوم الذي شهد نهاية تلك الدورة قبل موعد ختامها بأيام عدة من دون إعلان فائزين أو توزيع جوائز.

بطولة مخرج إسباني

ولئن كان ألبوم صور ما حصل يعيدنا إلى مشهد السينمائيين الشبان، وكانوا في شرخ شبابهم حينها وعلى رأسهم فرانسوا تروفو وجان لوك غودار وبقية أساطين الموجة الجديدة، ناهيك عن عشرات السينمائيين الأقل شأناً وعدد حتى من مخرجين تقليديين يتجمعون على مسارح القاعات صارخين مزمجرين مطالبين الحضور بالتضامن مع الطلاب والشبان الذين "يتعرضون للقمع البوليسي هناك في العاصمة وجوارها في الشمال"، ويصرخون أن من "العيب علينا أن نحتفل هنا بالسينما وكأن شيئاً لم يكن"، فإن المشهد الأجمل والأقوى يبقى مشهد المخرج الإسباني الكبير كارلوس ساورا الذي تصادف بدء الانتفاضة السينمائية مع الإعلان عن البدء في الصالة الرئيسة حيث تجمع السينمائيون المحتجون، بعرض فيلمه "نعناع مخفوق" ضمن إطار المسابقة الرسمية، إذ أصرت إدارة المهرجان على أن يتم العرض في موعده على الرغم من كل ما يحدث، فما كان منه إلا أن تمسك بالستارة بقوة محاولاً الحيلولة دون أن تفتح، هو الذي لم يرقه أن يعرض فيلمه في مثل تلك الظروف على الرغم من أنف زملائه الفرنسيين.

وكان في موقف ساورا وجهوده نوع من بطولة اعترف له بها كل السينمائيين الحاضرين، بل إن ذلك أدى إلى قيام العديد من كبار المخرجين العالميين والمحليين بسحب أفلامهم وإعلان انسحابهم من المهرجان فوراً، مما اضطر إدارة المهرجان إلى عقد اجتماع تاريخي أُعلن فيه توقيف العروض وقطع الدورة قبل خمسة أيام من ختام المهرجان، وبالتالي غادر الجميع مدينة كان منذ صباح اليوم التالي، إن لم يغادروها في تلك الليلة نفسها، و"أثبت السينمائيون قوتهم وقدرتهم على أن يكون لهم صوتهم ضد القمع"، بحسب ما صرح يومها المخرج فرانسوا تروفو وشاركه في التصريح زميله جان لوك غودار اللذين كانا إلى جانب سورا أبطال تلك الليلة الحافلة من دون منازع. ومما لا شك فيه أن استعادة ذكرى ذلك الدور خلال الأيام المقبلة سيعيد إلى الأذهان أزمنة مباركة كان للفن فيها كلمته الفاصلة في لحظات الانعطافات السياسية الكبرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة