شهدت الأيام الأخيرة قبل موعد الانتخابات النيابية في لبنان، في 15 مايو (أيار)، مواقف حادة واتهامات متبادلة بين القوى المتنافسة، أوحى عدد منها أن معركة الطعون في نتائج الانتخابات قد بدأت قبل أن تعلن النتائج. ويبدو أن العنوان الأبرز في المعركة سيكون تخطي الإنفاق المالي للانتخابات.
وقد سجلت في الأسابيع الماضية سلسلة ممارسات وضغوط في أكثر من دائرة، وكان أعنفها في الدوائر ذات الغالبية الشيعية، حيث تعرضت لائحة "معاً للتغيير" في دائرة الجنوب الثانية (صور والزهراني) للقمع ومُنعت من تنظيم لقاءات انتخابية. ومورست أساليب الضغط والترهيب على المرشحين الشيعة في دائرة بعلبك بسبب تحالفهم مع "القوات اللبنانية"، فتعرض أحدهم للضرب حتى أُغمي عليه، وأُطلق النار على لقاء انتخابي وانسحب ثلاثة مرشحين. وقبل أيام على موعد الانتخابات، رصد جهاز أمن الدولة سلسلة رشى انتخابية في دائرة كسروان- جبيل لمخاتير ورؤساء بلديات يعملون لصالح بعض المرشحين وتم توقيف مرتكبي المخالفة.
وكان لافتاً استثناء رئيس الجمهورية ميشال عون، في حديث أجراه أخيراً، عن المخالفات التي وردت إليه، وممارسات الضغط والترهيب التي سجلت بأشرطة فيديو وانتشرت في الإعلام، ليحصر الكلام في هذا الخصوص بلجوء بعض المرشحين إلى استخدام المال الانتخابي، داعياً هيئة الإشراف على الانتخابات والهيئات القضائية المختصة إلى منع استمرار هذه التصرفات التي يمكن أن تؤثر سلباً في خيارات الناخبين، كما قال.
كلام رئيس الجمهورية كان سبقه اعتراض مماثل لرئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، الذي اتهم "القوات اللبنانية" و"حزب الكتائب" بتخطي السقف المالي الانتخابي، متوعداً برفع دعوى على الحزبين في هذا الخصوص. الأمر الذي نفاه كل من الحزبين سائلين كيف يمكن لباسيل أن يحدد حجم الإنفاق ولم يقدم بعد المرشحون البيانات المالية الخاصة بإنفاقهم الانتخابي إلى هيئة الإشراف التي تُقدم في نهاية الانتخابات؟ والمعلوم أن هيئة الإشراف على الانتخابات تنتظر انتهاء الانتخابات لتضع تقريرها النهائي وتحيله إلى كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء ووزير الداخلية والبلديات ورئاسة المجلس الدستوري، الذي يتضمن المخالفات التي سجلتها منذ بدء الترشيحات حتى يوم الاقتراع.
هيئة الإشراف ما لها وما عليها
تمارس هيئة الإشراف على الانتخابات، بالتنسيق مع وزير الداخلية، مهمة الإشراف على الانتخابات، وقد حدد لها قانون الانتخاب سلسلة مهمات، يقول وزير الداخلية السابق زياد بارود لـ "اندبندنت عربية" إنها قيدت الهيئة وحصرت مهمتها بتوثيق المخالفات من دون أي إجراء. وتتألف الهيئة من 11 عضواً من قضاة سابقين ونقباء محامين سابقين وخبراء المحاسبة ونقابة الصحافة ومن أصحاب الخبرة في اختصاصات مرتبطة بالانتخابات، وأبرز المهمات والصلاحيات التي حددها لها القانون هي:
تلقي طلبات وسائل الإعلام الخاصة المقروءة والمرئية والمسموعة الراغبة في المشاركة في الإعلان الانتخابي المدفوع الأجر، ومراقبة تقيد اللوائح والمرشحين ووسائل الإعلام بالقوانين والأنظمة التي ترعى المنافسة الانتخابية، وتكلف الهيئة بتحديد شروط وأصول القيام بعمليات استطلاع الرأي، ونشر أو بث توزيع النتائج أثناء الحملة الانتخابية ومراقبة التقيد بفترة الصمت الانتخابي، التي تستمر لأربعة أيام بحسب ما حددته الهيئة. وسبقت المراحل الأربع التي شهدها الاستحقاق الانتخابي يومي 6 و8 في دول الاغتراب و12 لموظفي القطاع العام و15 في كل لبنان. ويتيح القانون لهيئة الإشراف على الانتخابات مراقبة الإنفاق المالي الانتخابي وفق ما تحدده هي، ويشمل كل مصاريف الحملة الانتخابية. وقد أدخلت تعديلات على المبالغ المحددة للإنفاق الانتخابي تماشياً مع ارتفاع سعر صرف الدولار إلى أكثر من 25 ألف ليرة، وحدد القانون قيمة المبلغ المتحرك المرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية التي ينتخب فيها، بقيمة 50 ألف ليرة لبنانية (أي ما يعادل نحو دولارين) عن كل ناخب مسجل في قوائم الناخبين في هذه الدائرة ومبلغ ثابت مقطوع بقيمة 750 مليون ليرة لبنانية عن كل مرشح (ما يعادل 30 ألف دولار)، إضافة إلى مبالغ محددة للائحة ككل.
هل تشمل صلاحيات الهيئة ممارسات القمع والترهيب؟
في رسالة ضمنية إلى الاختلاف بوجهات النظر، وبما يشبه التشكيك في بعض التفسيرات التي وضعتها الهيئة لبعض النصوص، لفتت الدعوة التي وجهها وزير الداخلية بسام المولوي إلى الهيئة بأن تكون على مستوى طموحات اللبنانيين وبأنها يجب أن تتعامل مع الإعلام والإعلان الانتخابيين بطريقة متوازنة وعادلة ومجدية.
وفي السياق نفسه، ينتقد المحامي فادي ظريفة ما وصفه بـ"تخاذل الهيئة في تنفيذ عملها في مراقبة التحريض، وخصوصاً في ما يتعلق بإطلاق النار الذي حصل في بعلبك أثناء لقاء انتخابي لأحد المرشحين، وإن كان نص قانون الهيئة لا يتحدث عن القمع". ويضيف ظريف أنه "كان يمكن لرئيس هيئة الإشراف القاضي المتقاعد نديم عبد الملك أن يرسل كتاباً إلى المدعي العام التمييزي لمتابعة قضية بحجم إطلاق نار على مرشح". فعند غموض النص، يقول ظريفة، "على القاضي أن يفسره بشكل يحدث معه الأثر الإيجابي ويشرح أن التحريض والتجريح بالآخرين والحض على الفتنة بخطاباتهم أمور تدخل من ضمن عمل الهيئة التي عليها مراقبة كل أنواع الضغط التي تمارس على أي مرشح وعلى الناخب أيضاً".
هيئة الإشراف على الانتخابات بدل عن ضائع
بحسب القانون، يعود لهيئة الإشراف على الانتخابات أن تتحرك عند تلقيها شكاوى في قضايا متعلقة بمهماتها عند تثبتها من أي مخالفة وإجراء المقتضى بشأنها. إلا أن التجارب السابقة في الانتخابات النيابية أظهرت أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه الهيئة هو تدوين المخالفات في انتظار أن تبتها الهيئات المختصة، ولم يحصل في التاريخ الحديث أن جرت ملاحقة مخالف من أي جهة كان استناداً إلى تقرير هيئة الإشراف. إلا أن للهيئة دوراً مهماً هو في أن أي طعن قد يحصل في العملية الانتخابية يمكن أن يستند إلى تقريرها النهائي الذي توثق فيه المخالفات. وبحسب بارود، فإن الهيئة الحالية هي بدل من ضائع، إذ يجب أن تكون هيئة مستقلة بالكامل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستقلالية الهيئة هي المطلب الإصلاحي الأساس الذي طالبت به "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات" عام 2009. ويشرح بارود أنه قدم عام 2011 مشروع قانون يلحظ هيئة مستقلة كما في العراق وفلسطين والهند، إلا أنه، كما مشاريع القوانين الإصلاحية الأخرى، لم يجد طريقاً لمناقشته في مجلس النواب.
ويرد بارود مطلب استقلالية الهيئة وفصلها عن وزارة الداخلية إلى عدم وجود ضمانة بعدم انحياز وزير الداخلية، وإن كان غير مرشح، كما هي حال الوزير الحالي المولوي، خصوصاً أن مبدأ التوزير في الحكومات في لبنان لا يقوم على استقلالية الشخصية التي تتولى الحقيبة بقدر ما يقوم على انتمائه إلى الحزب أو القوى التي ستسلم الوزارة من ضمن حصته. ولا ينضم بارود إلى منتقدي الهيئة وأدائها، معتبراً أن المشكلة هي في القانون الذي حدد لها صلاحياتها وكبلها، فباتت تقتصر على توثيق المخالفات وإحالتها إلى مراجع أخرى كمحكمة المطبوعات أو المحاكم العامة، من دون أن تتمكن من اتخاد تدابير إجرائية حاسمة وفورية في حق المخالفين. وكان يجب أن يكون للهيئة، يقول بارود، دوراً أوسع، وأن لا يقتصر عملها على الإضاءة على المخالفات من دون أن تتمكن من الحسم فيها.
تفسيرات خاطئة
ومن التجاوزات التي تسجل على هيئة الإشراف على الانتخابات النيابية، التفسير الذي اعطته في هذه الانتخابات للصمت الانتخابي الذي شملت فيه المرشحين والقوى السياسية التي تدعمهم، في حين أن المشترع، بحسب المحامي ظريفة، لم يلحظ القوى السياسية الداعمة، والمقصود هنا الأحزاب أو الشخصيات السياسية غير المرشحة. فالمادة الوحيدة في القانون التي تتحدث عن الصمت الانتخابي، تتعلق بوسائل الإعلام فحسب، فيما الهيئة ذهبت إلى حد فرض تعليق العمل الانتخابي. فالصمت أمر والتعليق أمر آخر، وهو لا يعني تعليق النشاط الانتخابي. حتى أن الهيئة التي كانت أصدرت تعميماً يقضي بمنع استخدام دُور العبادة من أجل عقد لقاءات أو تجمعات انتخابية عادت وبدلت قرارها بتفسير جديد اعتبرت فيه أنه بما أن هذه المراكز تستخدم في الأيام العادية لظروف اجتماعية فلا مانع من أن تستضيف قيادات انتخابية.
هيئة إشراف بإمكانات متواضعة
يشكو رئيس الهيئة القاضي المتقاعد نديم عبد الملك من مشكلات ومعوقات تعترض عمل الهيئة في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة، وتحول دون القيام بدورها كما يجب. ومن بينها كيفية تأمين تنقل الموظفين والمشرفين على سير العملية الانتخابية، كي تكون الانتخابات نزيهة. علماً أن مصادر في الهيئة تؤكد أن بعض الجهات الدولية قدمت لها الدعم لإتمام عملها. ويشتكي عبد الملك من محدودية النصوص القانونية وصلاحية الهيئة.
وفي هذا الإطار، يسأل بارود عن مدى قدرة الهيئة على ضبط الإنفاق المالي الانتخابي، خصوصاً أن القانون ينص على مراقبة حسابات الحملة الانتخابية، فماذا عن الحسابات الأخرى غير المضبوطة. ويسجل بارود حجماً مهولاً للإنفاق الانتخابي يصرف بوقاحة على حد قوله، لسببين، الأول لأن القانون لم ينص على رفع السرية المصرفية عن حسابات المرشحين والقوى السياسية الداعمة للمرشحين، وثانياً لأننا تحولنا إلى اقتصاد نقدي فباتت الرشى الانتخابية تحت مسمى المساعدات تدفع بـ"الشوالات". ويكشف بارود نقلاً عن أحد مديري المدارس، أن هناك أقساطاً مدرسية مؤجلة منذ فترة قد سُددت خلال فترة الانتخابات.