Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كضفادع في ماء يغلي" موجة القيظ في الهند لن تزداد إلا سوءا

مع صدور توقعات بأن تبلغ درجات الحرارة شمال الهند 45 درجة مئوية مجدداً الأسبوع الحالي، يقول نشطاء إن البلاد في حاجة ماسة إلى قوانين جديدة للتكيف مع تغير المناخ

 عامل يروي ظمأه وتبدو خلفه أسلاك لنقل الكهرباء فيما موجة الحر ما زالت تضرب دلهي الهندية (أ ب)

حينما تسقط أشعة شمس منتصف النهار على إحدى ورش البناء في ضواحي دلهي، لا يكف ناريش أهيروار عن متابعة عمله المضني هناك في غمرة موجة الحر المستمرة التي عصفت بشمال الهند طوال أكثر من شهر.

الرجل ذو الـ 56 عاماً يشعر كأنه سيصاب بالإغماء كلما هم برفع حمولة ثقيلة ينقلها داخل وخارج المبنى الذي شُيد نصفه حتى الآن، ومع ذلك ليست مسموحة الراحة في فترة بعد الظهيرة حتى عندما تتخطى الحرارة 40 درجة مئوية.

"في أوقات سابقة كنت ببساطة أحمل أياً من لوازم البناء، أما الآن فأشعر أن كل خطوة أخطوها أشبه بصراع وأني سألفظ أنفاسي الأخيرة هنا، لكن العمال أمثالي الذين يشتغلون بأجور يومية لا يملكون ترف [التوقف]"، يقول أهيروار.

بمحاذاة ورشة البناء يؤثر صاحب محل للأواني الخزفية أن يغلق بابه خلال فترة بعد الظهيرة، وتراه ينأى بنفسه من أشعة الشمس الحارقة تحت غطاء بلاستيكي يستخدمه كسقف لمتجره حتى لو أنه بخياره هذا لن يجني ما يكفي من المال للعيش.

"منتجاتي مصنوعة لموسم الصيف"، يوضح سونيل كومار. "لا يمكنني الجلوس في المنزل طوال الصيف بيد أن مواصلة العمل خلال فترة بعد الظهيرة محال"، يقول.

يصح القول إن الجميع في دلهي يألفون هذا الشكل من الحرارة، غير أن ذروة القيظ التي كانت مقصورة سابقاً على شهرين صيفاً، صارت تمتد الآن طويلاً. كان أبريل (نيسان) من العام الحالي الأكثر حرارة منذ بدء عملية تسجيل أحوال الطقس، وأعلن موجة حر في شمال الهند في وقت باكر من العام يعود إلى منتصف مارس (آذار). شهدت مناطق فترة راحة موقتة مع هطول أمطار قصيرة في بداية مايو (أيار)، لكن خبراء في الأرصاد يقولون إنه من المنتظر أن يرتفع عمود الزئبق في مقياس الحرارة إلى 45 درجة مئوية مجدداً في وقت لاحق من الأسبوع الحالي.

"لو أن [الحرارة الحارقة] تقتصر على بضعة أسابيع في مايو ويونيو (حزيران)، سنكون مستعدين لملازمة المنزل، ولكن كيف لنا أن نغلق متاجرنا تماماً إذا بدأت الحرارة تلتهب في مارس واستمرت معظم أشهر السنة؟" يسأل كومار الذي يبلغ من العمر 36 عاماً ولديه أربعة أولاد.

يقول عامل توصيل لدى سلسلة مطاعم شهيرة إنه يبلل خرقة قماش في ماء بارد ويلفها على رأسه كعمامة عندما يقود سيارته خلال الساعات الأكثر حرارة، كيما يتسنى له أن يتجاوز يومه.

"يخفف عني ذلك وطأة [الحرارة] لبعض الوقت، غير أن القماش المبلل سرعان ما يجف في غضون دقائق. نواجه ضائقة مالية في المنزل، لذا رضيت بهذه الوظيفة مكرهاً. يتعذر عليّ أن أتركها على الرغم من أن عمال تسليم كثراً مثلي قد أصيبوا بمرض في هذا الموسم"، يقول الشاب فارون البالغ ذو 21 ربيعاً.

تترك موجة الحر تأثيرها الأكبر على سكان الهند الأشد فقراً، ولكن أي جزء من المجتمع ليس محصناً تماماً من بطشها. في المجتمعات المكتظة بالسكان في أبنية شاهقة في مدينة نويدا التابعة لدلهي، اشتغلت مكيفات الهواء في وقت باكر جداً من العام الحالي، ويطالب الأهل بإغلاق المدارس أو تغيير مواعيدها لأن تلاميذ كثراً تركهم الإجهاد الحراري خائري القوى.

"منذ سنوات عدة حتى الآن، ما برح الصيف يزداد قيظاً، وقد ارتفعت بشدة فواتير الكهرباء الملقاة على كاهلنا لأننا نشعر أن العيش في المنزل لا يطاق معظم اليوم، لكن أحداً لم يشك، إذ تعتاد هذه الحال كأنك ضفدع موضوع في قدر من المياه التي تغلي على نحو بطيء وتدريجي" [ما يسمى تأثير الضفدع المسلوق: عند تسخين الماء ببطء لا يقفز الضفدع منه حتى يموت من حرارته]، يقول فيفيك أرورا، أحد سكان منطقة نويدا الكبرى الذي بقي أولاده في المنزل طوال الأسبوع نتيجة الإجهاد الناجم عن الحر الشديد، و"لكن العام الحالي يبدو مختلفاً بشكل استثنائي"، كما يوضح.

مئات الملايين من الناس لحقت بهم الأضرار جراء الحرارة الشديدة التي سجلتها الهند وباكستان المجاورة العام الحالي، حيث تصاعدت درجات الحرارة حتى 52 درجة مئوية في بعض الأماكن. وحذر علماء من أن المستوى المذكور من الحرارة يطرح آثاراً متتالية، ليس على صحة الإنسان وحسب، إنما أيضاً على النظم الإيكولوجية والزراعة وتربية المواشي والمياه وإمدادات الطاقة وحتى قطاعات اقتصادية رئيسة.

تعاني الهند فعلاً عجزاً حاداً في الطاقة مع زيادة الطلب على الكهرباء، وقد اشتعلت مكبات النفايات بالنيران في خضم درجات الحرارة المرتفعة، كذلك حاق الدمار بمحاصيل القمح مؤدياً إلى نقص في مخزون هذه الحبوب، ومع ارتفاع الطلب عليها شهدت أسعار الليمون زيادة كبيرة، لا سيما أنه يعتبر علاجاً شائعاً في الصيف لقدرته على ترطيب الجسم وخفض درجة حرارته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما إجراءات الحكومة الهندية فاقتصرت حتى الآن على توجيه نصيحة إلى الناس بأن يبقوا قدر المستطاع في الأماكن الداخلية خلال فترات بعد الظهيرة، فضلاً عن اجتماع رفيع المستوى حث فيه رئيس الوزراء ناريندرا مودي الولايات الهندية على وضع خطط خاصة بها لمكافحة موجة الحر.

لكن في رأي العلماء تبدو بصمة تغير المناخ جلية في هذه الأشكال من الظواهر المناخية البالغة الشدة، وعلى الرغم من أن ضراوة موجة الحر للعام الحالي لم يسبق لها مثيل، غير أنها ستتكرر وتزداد سوءاً مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب.

مثلاً وجدت دراسة نهضت بها "إمبريال كوليدج لندن" أن موجات الحر على شاكلة الموجة التي طرأت العام الحالي صارت أكثر احتمالاً نتيجة تغير المناخ. الدكتورة مريم زكريا، باحثة مساعدة في "معهد غرانثام" في "إمبريال كوليدج لندن" تقول إنه "قبل أن تتسبب الأنشطة البشرية بارتفاع درجات الحرارة على الصعيد العالمي، كنا سنشهد الحرارة التي ضربت الهند باكراً الشهر الحالي مرة تقريباً كل 50 عاماً".

"لكن الآن باتت [موجات الحر الشديدة الوطأة] حدثاً أكثر شيوعاً، ونتوقع تسجيل درجات الحرارة المرتفعة هذه بمعدل مرة كل أربع سنوات، وإلى حين وقف صافي الانبعاثات ستواصل تحولها إلى حدث أكثر شيوعاً"، أضافت الدكتورة زكريا.

في العام المقبل يتوقع أن تضرب موجات من الحر أكثر تكراراً وأطول أجلاً شبه القارة الهندية نتيجة ارتفاع درجة حرارة المحيط الهندي الواقع ضمن المناخ المداري، والوتيرة المتزايدة لحدوث الظاهرة المناخية "إل نينو"El Nino  الشديدة الوطأة [عندما يؤثر تغير الحرارة في أحد المحيطات على المناخ في منطقة أخرى بعيدة]، وفق تحليل أجرته مباردة الاتصالات "اتجاهات المناخ" Climate Trends التي تتخذ من دلهي مقراً لها.

وسبق أن امتدت تأثيرات موجة الحر إلى ما وراء السهول الترابية في شمال الهند حتى اجتاحت منطقة الهيمالايا، مع الإبلاغ عن حرائق غابات في ولاية أوتارانتشال الجبلية، ولكن بحلول نهاية القرن الـ 21 ستطال هذه الظواهر المناخية جنوب الهند الأخضر أيضاً، الذي لا يكابد حالياً موجات حر، وفق "اتجاهات المناخ".

ويذكر علماء في المناخ إنه لا بد من بذل الجهود في سبيل التخفيف من الاحترار العالمي من طريق خفض انبعاثات الكربون، وفي الوقت نفسه تطوير استراتيجيات للتكيف معه بغية تقديم الغوث للسكان الذين يعانون تأثيراته أصلاً. وما لم تتوخ الحكومات الحذر، سيؤدي التسرع في حل جانب واحد من المعادلة إلى تفاقم المشكلات على المدى الطويل، كتهافت الهند حالياً على استيراد كميات كبيرة من الفحم لتأمين الطلب المتزايد على الكهرباء خلال موجة الحر.

ولكن يقر خبراء أنه من الصعب تحقيق تلك المعادلة. "في حين أنه لا غنى عن اتخاذ تدابير تخفيفية للحد من الاحترار في المستقبل، فإن موجات الحر الشديدة والمتكررة والطويلة الأمد لم تعد خطراً ينتظرنا في مقبل الأيام، بل إنها وصلت فعلاً وليس في المستطاع تجنبها"، في رأي الدكتور أبهيانت تيواري، أستاذ مساعد ومدير برامج في "معهد غوجارات لإدارة الكوارث" في الهند.

"من الضروري أن تشتمل خطط إجراءاتنا المتعلقة بالحرارة تدابير للتكيف من قبيل مناطق تبريد عامة والحرص على عدم انقطاع التيار الكهربائي، والحصول على مياه شرب آمنة وتغيير دوامات العمال بالنسبة إلى الفئات الأشد ضعفاً الموجودة في أسفل الهرم الاجتماعي، خصوصاً خلال أيام الحر الشديد"، وفق الدكتور تيواري.

وفي حين يتوقع أن تواجه الهند بعض أسوأ آثار تغير المناخ، وضعت مدينة واحدة فقط، هي مومباي، حتى الآن خطة لوصول بصمتها من انبعاثات الكربون إلى مستوى الصفر الصافي وتعزيز قدرتها على التكيف مع الاحترار العالمي. للأسف، قلما تتطرق المناقشات السياسية في الهند إلى تغير المناخ مع أن البلاد تواجه تحديات على مدار العام، بدءاً من الحرارة الشديدة وصولاً إلى الفيضانات الموسمية.

يقول سونيل كومار أليديا، من المنظمة غير الحكومية "مركز التنمية الشاملة" إنه "خلال الشتاء القارس ثمة أقله منازل يلتجئ إليها الفقراء والمشردون. مهما كانت ظروفهم سيئة، يحتمي معظم الناس تحت سقف يأويهم. ولكن لا يتوفر ترتيب يضمن للعاملين الذين يتلقون أجراً يومياً أو [الناس] المشردين الحصول على استراحة من الحر خلال فترة القيظ التي ستستمر لفترة أطول كما نعلم".

أضف إلى ذلك أن التقديرات المتصلة بتأثير الإجهاد الحراري على الصحة في الهند أدنى من الأرقام الفعلية، إذ لا تتعقب البلاد سوى وفيات ضربة الشمس التي تثبت الفحوص الطبية أنها ناجمة عن التعرض المباشر للشمس. نتيجة لذلك، ففيما أبلغ عما يربو على 2500 حالة وفاة خلال موجة الحر الشديدة في 2015، أفادت تقارير عن عدد قليل فقط من هذه الوفيات في سنوات أخرى. ويوضح أطباء أنه من شأن الفترات الطويلة من الليالي المرتفعة الحرارة أن تكون مميتة لأنها تحد من قدرة الجسم على التعافي من حرارة النهار، ولكن من المستبعد أن تحسب حالات الوفاة هذه على أنها ناتجة من ضربة الشمس.

علاوة على ذلك يطرح الإخفاق في تكييف ممارسات العمل مع درجات الحرارة المرتفعة ضرراً كبيراً على اقتصاد البلاد، ووجدت دراسة اضطلعت بها "جامعة ديوك" الأميركية أن الهند خسرت 259 مليار ساعة عمل سنوياً بين العامين 2001 و2020 بسبب تأثيرات الحرارة الرطبة.

ويقول نشطاء إنه على الحكومة الهندية إجراء تقويم جديد لشدة التأثر بموجات الحر والسعي إلى مكافحتها على اعتبار أن خطورتها توازي مستوى الكوارث.

لوبينا رانغوالا، رئيسة البرنامج في منظمة "معهد الموارد العالمية" (WRI) في الهند، تقول إنه "في بلاد مثل السعودية، حيث سجلت مستويات من الحرارة تصل إلى 50 درجة مئوية فما فوق، تهدف سياسات الحكومة إلى توفير الإغاثة للحشود من الناس، بما في ذلك تغيير أوقات العمل حرصاً على عدم التسبب بأضرار فادحة لأي شخص في فترة الظهيرة، لذا على الحكومة الهندية صياغة سياسات جديدة من هذا القبيل."

وفي الحقيقة لم يعد السؤال عن سبل التكيف مع ارتفاع درجة حرارة الأرض افتراضياً عندما يتعلق الأمر بالهند، ويقول خبراء في الأرصاد الجوية إن البلاد تشهد فعلاً أنماطاً مناخية غير منتظمة وغير متوقعة، وقبل الإعلان عن وصول موجة الحر الأولى من العام الحالي في 11 مارس الماضي قاسى شمال الهند شتاء بارداً بشكل استثنائي، علماً أن ذلك في حد ذاته يقود إلى أخطار على الصحة العامة والبنية التحتية في بلد لم يعتد هذه المستويات المنخفضة من الحرارة.

ويشير خبراء إلى أسباب مختلفة عدة وراء الطقس غير المنتظم الذي اتسم به العام الحالي، بما في ذلك اختلال في "الاضطراب الغربي" البارد، ظاهرة مناخية تجلب أمطاراً شتوية إلى الهند، وموجة حر في المنطقة القطبية الشمالية وظاهرة "لا نينا" [تغير دوري غير منتظم في الرياح ودرجات الحرارة في المحيط الهادئ الاستوائي الشرقي مؤثراً في مناخ كثير من المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية]. لكنهم يقولون إن السبب الكامن خلف كل هذه الظروف المناخية يعزا في نهاية المطاف إلى تغير المناخ.

ماهيش بالاوات، نائب رئيس "الأرصاد الجوية وتغير المناخ" في خدمة الأرصاد الجوية الخاصة "سكايمت"Skymet  المتخصصة في التوقعات المناخية يقول إنه "لا شك في أن أحوال الحرارة الشديدة تتزايد في الهند، ويؤدي الاحترار العالمي دوراً رئيساً فيها، على الرغم من أنها ترتبط بعوامل أخرى أيضاً".

ومما يبعث على القلق الآن أن الهند ستستمر في تحطيم الأرقام القياسية بالنسبة إلى درجات الحرارة في أشهر الصيف، مما يفاقم الضغط على البنية التحتية للطاقة والسكان على حد سواء.

"موجات الحر الملتهبة في الهند وباكستان لا تشكل أرقاماً قياسية لشهر أبريل وحسب، إنما تمهد الطريق أيضاً أمام موجات حر شديدة إضافية في مايو ويونيو، وهما في العادة شهران أكثر حرارة، يقول الدكتور زاكاري زوبيل، عالم في المناخ يدرس التقاطع بين تغير المناخ والحرارة الشديدة وهطول الأمطار.

"من المتوقع أن تستمر هذه الأنماط المناخية وربما تتفاقم خلال السنوات المقبلة، وحتى لو أن البشرية أوقفت انبعاثات غازات الدفيئة اليوم فستواصل درجة حرارة الكوكب ارتفاعها لعقد آخر من الزمن على أقل تقدير"، في رأي الدكتور زوبيل.

© The Independent

المزيد من بيئة