Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل بات الناقد عضوا زائدا في جسد الثقافة والفنون المعاصرة؟

تتعالى أصوات المبدعين الذين يدعون إلى تجاهل النقد في ظل الحركات الحديثة القائمة على كسر القيود والتحرر من القوالب

لوحة بعنوان "النُقاد" للرسام البريطاني الفنان هارولد سي هارفي (غيتي)

قال الروائي السعودي عبده خال مرةً في لقاء مفتوح، "عندما يسألني شاب يتلمّس طريقه نحو الإبداع نصيحةً، أقول له لا تقرأ لناقد أبداً، وإن فعلت فإنما تجني على نفسك"، مضيفاً أنه لم يقرأ قط لناقد في حياته، ولن يفعل ذلك في المستقبل.

حديث خال الذي ضجّت به قاعة لقاء جماهيري نظمته وزارة الثقافة السعودية جمع أدباءً ونقاداً في يناير (كانون الثاني) 2020، تحت عنوان "روّاد ونقّاد"، لم يلقَ قبول النقاد بطبيعة الحال، إلا أن الجمهور الحاضر الذي مثل شرائح واسعة من المثقفين والمسؤولين والقراء المتلقين احتفى به وصفق له بحرارة، ما يعطي تصوراً حول موقف الوسط الثقافي من شريحة النقاد التي كانت على مر العقود الماضية جزءاً من الحركة الثقافية والفنية وصوتاً مؤثراً فيه.

موت الناقد

هذا الموقف المحتفي بإنزال سياط النقد على النقاد أنفسهم كان سببه واضحاً حين دعاهم عبده خال في الأمسية ذاتها إلى أن يتواضعوا عند تناول جهود المبدعين، مذكراً إياهم أنهم "تبع لهم وعالة عليهم، وليس العكس، المبدع هو الذي يرفع لواء المغامرة، ويشق الطريق، أما أنت أيها الناقد فلست غير باحث عن ثغرة تتسلل منها، إن كنت جديراً فابتكر نصاً، وأرنا مهاراتك التي تحاكم إليها الآخرين".

وعلى الرغم من وجود آراء أخرى ترى ضرورة النقد لاستمرار العملية الثقافية وتطورها، فإن أصدقاء عبده خال ممن قتلوا الناقد كثر، داخل تلك القاعة وخارجها، كما قتلهم الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت منتصف القرن الماضي عندما أطلق نظرية "موت المؤلف" التي رفض فيها اعتبار هوية المؤلف شروحات نهائية للنص يجب النظر إليها أثناء تفكيكه.

لكن أعداء الحركة النقدية يملكون أسباب أخرى تدفعهم لتشييع النقد والنقاد، أمور مرتبطة باحتياجات المعاصرة والحداثة، وأخرى بكفاءة النقاد الحاليين ومدى اختصاصهم، وهو ما يحتم فهم تطور الحركة بالتوازي مع تطور الفن وصولاً إلى مرحلة الصدام الحالي.

الفنان ينقد الفنان

كان النقد قديماً فعلاً يقدم عليه أبناء الحرفة ذاتها، كأن ينقد أرسطو بلاتو أو العكس، ويعود هذا إلى أن البحث في الفلسفة بأسرها كان حكراً على المعلم، كما يقول محمد رُضا، الناقد والكاتب في صحيفة الشرق الأوسط "التلامذة لا يستطيعون نقد المعلم لأن هذا يملك كل الرؤية الفكرية والفلسفية التي مكنته أن يصبح معلماً. بذلك يتطلب الأمر معلماً آخر، من جيله وزمنه أو من بعده، ليحكم ويحلل وينقد ما جاء به الفيلسوف الآخر"، مضيفاً "استمر هذا ردحاً طويلاً فكان الناقد الأول لأعمال ويليام شكسبير هم كتاب ومسرحيون معاصرون لزمنه، ومنهم كريستوفر مارلون، وروبرت غرين، وتوماس ناش. كل واحد من هؤلاء كان كاتباً أدبياً ومسرحياً وجد في نفسه القدرة على نقد أعمال شكسبير بناءً على العمل في الحرفة نفسها والمجال ذاته".

إلا أن التحول حصل في القرن الـ19، حين اتسعت رقعة النقاد بفعل استقطاب أساتذة أكاديميين استندوا إلى علمهم ورؤاهم الأدبية في نقد الأعمال المسرحية، وكان على البروفسور أن يقرأ كل نتاجات الأدب ويتخصص فيما أراد أن يتخصص به لكي يحكم عليه وينقده، لتظهر بعدها شريحة من الهواة يوصفون بالمتخصصين دون أن يكونوا جزءاً من عملية الإنتاج فيه.

ويرى رُضا هذا التوسع طبيعياً جداً بسبب ظروف الفترة الزمنية، "في فترة محدودية النقاد وحصرها على الممارسين، لم تكن هناك جامعات في الصين أو اليونان خلال القرون الأولى. كان هناك العمل وصاحبه وناقده ومن يحيط بالاثنين من التلاميذ"، مضيفاً، "بدأ تأسيس الجامعات في أنحاء العالم من عام 1088، وصاعداً، ليتحول ما كان خاصاً إلى دروس عامة، وارتفع ذلك التعميم بزيادة عدد الجامعات تباعاً وفي كل أنحاء العالم والاختصاصات التي تنبري لتدريسها، بذلك صار النقد متاحاً أكثر".

ويتفاوت حضور النقاد من مجال لآخر بناءً على جماهيريته، إذ يرى محمد رضا أن تخصصه "السينما" تتسع فيه رقعة وجودهم بصفته "فن جماهيري شاسع أكبر حجماً من أي فن آخر، وتوجه منذ ثلاثينيات القرن الماضي أكثر وأكثر لتلبية رغبة الهواة والمحترفين".

التناول الشخصي

يمكن القياس بتجربة النقد السينمائي بصفته آخر الأشكال النقدية التي طورتها صنوف الثقافة لحداثة انضمام هذا الفن للأسرة التي تتضمن الرسم والموسيقى والنحت والمسرح وغيرها من الفنون البصرية، إضافة إلى الأدب الأقدم زمنياً عن البقية.

فحالة الجماهيرية هذه أسهمت في دفع جزء ليس باليسير منه يأخذ نمطاً حاداً جعل الفنانين والأدباء أكثر حساسية في التعامل معه، إذ يعتبر عدد من الأدباء، بخاصة من نشطوا في أواخر القرن الماضي ذروة السجال الثقافي في السعودية، أن النقد أخذ طابعاً شخصياً في كثير من الحالات لأسباب متعددة، من ضمن هؤلاء الشاعر محمد جبر الحربي الذي استشهد بقول المتنبي "وسوى الروم خلف ظهرك روم... فعلى أي جانبيك تميل"، إذ واجهت الحركة الشعرية الحداثية هجوماً عنيفاً من حركات نقدية يدفعها العداء للحداثة بالمجمل في نقدها لأحد أوجهه وهو الشعر. ويعلق الحربي على ذلك، "في فترة ماضية كنا نواجه حملة شرسة من قبل الصحوة وغوغائها، ومن الشعراء الرديئين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحول أهدافها قال، "هدفوا إلى إثارة البلابل، وافتعال الفضائح، وتشويه سُمعة الأدباء النيرين، بل قاموا بأنفسهم بتقديم الشكاوى الكيدية للجهات الأمنية، وكبار مسؤولي الدولة، وكانوا في كل ذلك أقرب للنفاق منهم للإيمان، وإلى الفوضى من الإصلاح والنظام". ويضيف، "وإلى اليوم يخرج علينا أكثر من ناقد من المحسوبين على الحركة الأدبية، يقللون من قيمة تجربة الشعر السعودي الحديث، ومن يصنفونهم بشعراء الثمانينيات، وهم يقولون أحياناً إنهم بلا تجربة، وكان أحد أهداف ذلك التقليل من قصيدة النثر".

هذه الحالة الشخصية أو التفضيلية لنوع معين من الشعر على آخر في توجيه النقد خلقت هذا العداء وعدم قدرة المبدعين على التصالح مع النقاد، وإن سلموا بوجود السمين بينهم كما يقول الشاعر الحربي الذي أكد وجود قراءات نقدية جادة تستحق الاحترام.

أهلية الناقد

إلا أن الحكم على المشهد في تلك المرحلة المشوشة التي شابها الصراع أمر بالغ الصعوبة لعدم موضوعية التدافع القائم حينها، لذا يدافع الشاعر السوري ياسر الأطرش عن النقد بمحاولة إبعاده عن تلك المرحلة، قائلاً، "كانت مرحلة صدام بين الحداثة والقدامة، ليس في الشعر فقد، وإنما في السياسة والاقتصاد وشؤون المرأة وغيرها من القضايا، وكان للأيديولوجيا دور لا يمكن إغفاله، فقليلاً ما نجد كاتباً ذا توجه ديني ناصر الحداثة بشكلها المفتوح، وقليلاً ما نرى كاتباً أو ناقداً يسارياً ناصر الكلاسيكية، الصدام كان عاماً وشاملاً وفي النتيجة لم ينتصر أحد. بقيت الأشكال الشعرية جميعها، وخلص المشهد إلى إعلاء شأن الشعر الحقيقي مهما كان شكله، فلا النظم ارتقى إلى الشعر قديماً أو حديثاً، ولا الهرطقات والتهويمات أصبحت شعراً مهما حاولت الأيديولوجيا رفعها إلى مصاف الشعر".

لكنَّ هناك عاملاً آخر مؤثراً على تقبل النقد، وهو إيمان صانع المحتوى الثقافي بأهليته، وهو ما كان محور حديث مع الروائي السعودي عمرو العامري، الذي قال إن المبدع منذ فترة قد تخلى عن انتظار النقد والنقاد ومضى بعيداً بتجربته بسبب أنه "لا يوجد لدينا مناهج نقدية حقيقة، ولا حتى متابعات نقدية جادة للإصدارات التي تصدر في شتى مجالات الفن الإبداعي، هناك محاولات نقدية على شكل أوراق أو قراءات في مؤتمرات تفتقر للمنهجية والاستمرارية، وبذات الأسماء التي لا تتغير".

وقلل العامري من أهمية النقاد وتأثيرهم. ويقول، "إن كان لي من نصيحة للمبدعين الشباب فهو تجاهل النقد والنقاد تماماً، والعمل على صقل تجاربهم وتعميق ثقافتهم والإخلاص لفنهم فقط، لأن أغلب النقاد هم هواة في الغالب، ومحبوسون داخل ثقافة ساكنة توقفت عند مقولات محمد مندور وغنيمي هلال وغيرهم من نقاد القرن الماضي".

شرعية المثقف المعاصر

يبرز شكل آخر من الصراع بين صنوف الثقافة عموماً، والنقد بخاصة، إذ تقوم حركات الحداثة ومن بعدها المعاصرة بشكل أوضح على كسر القوالب التقليدية والقواعد التي تقوم عليها صناعة هذا المحتوى لأنه يحد من تطوره، بخاصة أن الفنانين والأدباء بدأوا ممارسة الفن قبل ظهور القواعد التي تم تأطير هذا النتاج بداخله. وعند تقديم الفنان أو الأديب نفسه بوصفه معاصراً فهذا يعني أنه يرفض القواعد التي غالباً ما ينطلق منها الناقد في نقده، وهو ما يسقط النقد بالضرورة.

أحد المؤمنين بهذا هي إيمان الجبرين، عضو مجلس الشورى السعودي، والمتخصصة أكاديمياً في تاريخ الفنون الحديثة والمعاصرة، وعملت قيّماً فنياً لعدد من المعارض منها الجناح السعودي في مهرجان بينالي البندقية 2019، وهو ما تقوله لطالباتها في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، "هذا ما أحاول شرحه اليوم للفنانين والمتلقين العرب، فالناقد بمفهومه التقليدي انتهى دوره مع ظهور الفن المعاصر، ذلك أنه يصر على إصدار الحكم، بالتالي يتعارض مع فكرة الحرية المطلقة للفنان".

ويرى ياسر الأطرش أن هذا الطرح قائم على فهم غير دقيق للنقد، إذ يقول، "من قال إن مهمة الناقد تنحصر بالشكل؟ هذا مجرد تفصيل بسيط. النقد في الشعر مثلاً يتعامل مع بناء النص فنياً، ومع السيميائيات (العلامات)، والعتبات النصية، كل هذه التفاصيل هي التي تصنع العمل الإبداعي الحديث، وأرى أن ضرورة النقد تزداد في الأشكال الحديثة، فالرديء طغى"، مضيفاً، "النقد ضرورة، منذ ابن سلام الجمحي، وابن جني، إلى يومنا هذا، ولولا النقد القديم منه والجديد لظل الشعر الجاهلي ضبابياً، ولبقي العالق فيه والمنحول أكثر من الحقيقي. النقاد هم من قام بعملية فرز مضنية وشاقة جداً لتراثنا الشعري".

إلا أن الجبرين ترى مشكلة أصيلة في فكرة النقد، "الحكم على العمل النفي ينبغي أن يبنى على معايير محددة، ونحن اليوم في المعاصرة نرفض توحيد المعايير، نحن اليوم بحاجة إلى متخصصين في نظريات الفنون ومتخصصين في التاريخ فقط لشرح محتوى العمل للجمهور لا أكثر. سوى ذلك أنا لا أؤمن بدور الناقد في فترة ما بعد الحداثة والفن المعاصر، وأجده مقيداً ويتعارض مع جوهر نظريات الحقبة الفنية، أما ما قبلها فدوره مقبول نظراً لوجود معايير موحدة".

وفي المحصلة، يصعب الحصول على موقف مطلق من النقد في جميع صنوف الثقافة لاختلاف ظروف تطورها وفترتها الزمنية، إضافة إلى حدة التجاذب في صنف دون الآخر وتطوره من خلالها، إلا أن الفجوة بينهما تتسع بشكل متسارع.

المزيد من ثقافة