Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة الشاعر التركي ناظم حكمت بأسرارها

الباحث محمد نور الدين يعتمد وثائق تاريخية ويعيد النظر في بعض المعلومات

الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت (مؤسسة ناظم حكمت)

لعلها المرة الاولى يكتب باحث عربي سيرة شاملة وكاملة للشاعر التركي الكبير ناظم حكمت، ففي كتابه الصادر حديثاً عن دار الفارابي، يسعى الكاتب والأكاديمي اللبناني محمد نور الدين المتخصص بالأدب والثقافة التركيين، إلى أن يطل على القراء العرب بهذه السيرة للشاعر التركي العالمي ناظم حكمت. ولما كان نور الدين متخصصاً بالتاريخ وعارفاً باللغة التركية وباحثاً في المسائل التاريخية المتصلة بتركيا إلى كونه أديباً ، فقد استهوته مغامرة الكتابة عن شاعر شغل الشرق والغرب زمناً، وأيده بل حمل راياته وشعره بعض يسار الشرق وشيوعيو الغرب، لا سيما الفرنسيون منهم، الموالون للاتحاد السوفياتي، في حينه، واستقبله اللبنانيون في ديارهم، على ما يرد في الكتاب، وحبرت لأجله الخطب والقصائد، واستقبله الشعراء والكتاب (سعيد عقل وجورج شحادة وميخائيل نعيمة)، وغنت له فيروز في حضرته، بمثل ما كان العالم الاشتراكي قد احتفى به لدى هربه من تركيا إثر نوبته الأخيرة في السجن في تركيا دامت 12 سنة، إلى الاتحاد السوفياتي. وقد رحب مستشرقون أتراك يجيدون العربية بهذا الكتاب وعدوه من أكمل الكتب التي تناولت سيرة الشاعر الكبير.

يقول الكاتب محمد نور الدين في مقدمة الكتاب عن الداعي الى إنجاز سيرة لشاعر أطبقت شهرته الآفاق وترجمت أشعاره الى 50 لغة أجنبية، وكتبت عنه سير كثيرة، هو أنه عازم فيها على تصويب كثير من الأخطاء التاريخية والتوثيقية التي وقعت فيها سائر السير عن ناظم حكمت، وأن معرفته الوثيقة بالإطار التاريخي لسيرة الشاعر تؤهله بالفعل إلى خوض غمار السيرة والكشف عن طواياها التي لا تزال مخبأة الى حينه، ثم إنه يكتب عن حياة الشاعر لا لأنه شيوعي، والكاتب ليس شيوعياً، بل لأنه يحب "حياته الحافلة بالتعب والتحديات، ويحب شعره" (ص:11) الذي انحاز فيه الى "المظلومين والمحرومين والفقراء والعمال والفلاحين، ولأنه كان مناهضاً للاستعمار وأدواته"، يعينه في ذلك تمكنه من اللغة التركية واتصاله الشخصي بمن عرف الشاعر ناظم حكمت، وكان على صلة وثيقة به.

سيرة ومسار

يقسم الكاتب نورالدين سيرته خمسة أقسام، بادئاً بطفولته والبدايات (1902-1921) وفيها يذكر ولادة ناظم حكمت عام 1902 في مدينة سالونيك من أب موظف كبير في الخارجية وقنصل في هامبورغ، وأم عالمة لغة، وكانت عائلته عرضة لاضطهاد السلطان عبدالحميد مما اضطرها إلى هجرة موطنها إلى حلب ومن ثم إلى مدن تركية، حيث تنقل ناظم حكمت، طفلاً، بين مدارس عدة ذات ثقافة فرنسية، وحيث ظهر ميله الواعي في أن "يصبح شاعراً" (ص:33) وذلك بخلاف إرادة أهله. ولم يكن الفتى قد بلغ الـ 11 لما نظم قصيدة "صرخة وطن" والتي مفادها: "كان لا يزال صباحاً ضبابياً/ والدخان يغطي المكان/ ومن بعيد تناهى صوت، أمان يا إلهي/ أنت اصغ اسمع صرخة الوطن هذه/ اصغ وحكم ضميرك/ صرخة الوطن الممزق/ أمل منتظر منك"

ولما كان جد ناظم حكمت ناظم باشا منتمياً إلى الطريقة المولوية (طريقة صوفية تنسب إلى جلال الدين الرومي) فإن ناظم تأثر به، فحملت العديد من قصائده روحاً دينية طافحة: "لما لف جبهتي تاج العدم/ امحى من القلب الألم والنشوة/ واهتديت إلى الحب علاجاً للقلب/ وهآنذا أيضاً يا مولانا."

بيد أن نزعة أخرى أخذت طريقها إلى نفسه بعيد خروجه من المدرسة الحربية وتصاعد الروح الوطنية التركية في كيانه وكيان الأجيال الشابة ضد المحتل الإنجليزي، حملته لاحقاً هو ورفاق له للالتحاق بالحركة القومية التي تنامت في تلك الظروف القاهرة، حركة مصطفى كمال أتاتورك، القائد الوطني وباني تركيا العلمانية الحديثة، ولكن الملاحظ في سيرة الشاعر أنه لم يدع مناسبة أو حدثاً من حياته أو عصفاً عاطفياً أو حباً لامرأة إلا ويدونه شعراً على نهج الشعر الحر الجاري اعتماده في الغرب الذي نهل منه كثيراً.

قصيدة ما قبل الموت

وفي هذا الشأن يمكن للقراء العودة لقصيدة خطها الشاعر نفسه قبيل موته في برلين الشرقية يقول فيها: "ولدت في 1902/ لم أعد ثانية إلى مسقط رأسي/ أنا لا أحب العودة إلى الوراء/ في الثالثة من عمري كنت حفيداً لأحد الباشاوات في حلب/ وفي التاسعة عشرة طالباً في الجامعة الشيوعية في موسكو/ في التاسعة والأربعين مجدداً في موسكو ضيفاً على حزب تسيكا/ وكنت شاعراً منذ الرابعة عشرة/ وأنا أعرف الفراق/ بعض الناس يحفظون أسماء النجوم عن ظهر قلب/ وأنا أحفظ الشوق/ نمت في سجون وفي فنادق كبرى/ عرفت الجوع بما في ذلك جوع الإضراب عن الطعام/ وفي الثامنة والأربعين أرادوا أن يقلدوني ميدالية السلام" (ص:33)

بيد أن مسيرة ناظم حكمت الشعرية الرسمية انطلقت من العام 1920، ولم يكد يتجاوز الـ 18، إذ بدأ ينشر قصائده في مجلات مثل "كتاب" لمؤسسها جلال ساهر أروزان، وفي صحيفة "عالمدار" و"يني كون" ومجلات مثل "أوميت" و"يارين" وغيرها. ولما أزفت ساعة حرب التحرير مضى إليها رفقة صديقه والا نور الدين، وقصدا أنقرة للمشاركة في فعالياتها، وفي الطريق الطويل إلى المدينة كتب الشاعر يقول: "صديقين سرنا على الطريق الذاهب إلى الجبال/ علونا كثيراً حتى بدت إينه بولو على الساحل/ متناهية في الصغر بأزقتها الدقيقة/ المآذن أصبحت خطوطاً والجوامع صارت نقاطاً... من بعيد كنا نرى الطريق النازل إلى الوادي/ وعن يمينه مرج أخضر وعن شماله غابة من أشجار الصنوبر...أي وطن جميل هذا! شتاء في الجبال العالية/ في السواقي ربيع وعلى الطرقات خريف...".

لا يمكن اختزال الأحداث الكثيرة والمتشابكة التي انطوت عليها سيرة ناظم حكمت لمحمد نور الدين، وإنما نشير إلى حرص الكاتب المؤرخ على تتبع حراك الشاعر وقد بات ناشطاً في الحزب الشيوعي التركي بعد تولي مصطفى أتاتورك الحكم، وتحول الأخير عن تعاطفه مع ناظم قبل الثورة إلى ريبة منه فاضطهاد له إلى أن عزم على سجنه، وقد ذاع صيته شاعر الثورة والناطق الشعبي باسم الحزب الشيوعي التركي، وراح يلفق له التهم المختلفة التي كلفته أكثر من 20 سنة سجناً فعلياً وعلى فترات مختلفة.

حملة عالمية

وفي الكتاب أيضاً إحاطة بالحملة العالمية بل الفرنسية التي تولاها الشاعر تريستان تزارا، وضمت كلا من بابلو بيكاسو ولويس أراغون وألبير كامو وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وإيف مونتان، والتي تقدمت بطلب استرحام إلى السلطات التركية بأن تفرج عن الشاعر التركي ناظم حكمت، وكان لا يزال مضرباً عن الطعام إلى أن تم له ما أراد، وخرج إلى الحرية يوم 15 يوليو (تموز) عام 1950، ومن ثم واصل الشاعر ترحاله سراً إلى الاتحاد السوفياتي وكل البلدان ذات التوجه الاشتراكي في حينه، وكان يستقبل فيها استقبال الابطال والقادة الكبار، وما إشارتنا إلى زيارته لبنان عام 1960 سوى خير دليل على ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن الإضافة الأهم بنظري إلى الترجمات الشعرية عن التركية والوافية في دلالتها على الصلة الوثيقة بين السيرة والقصائد هي علاقاته بالنساء ومغامراته الغرامية التي ما كادت تتوقف حتى قبيل وفاته، وفي هذا الشأن يكشف الكتاب عن العلاقة الملتبسة بين الشاعر ناظم حكمت وبين المرأة بدءاً بوالدته جليلة خانم التي كانت رسامة، وقد انفصلت عن زوجها وكان ناظم قد بلغ الـ 18 من عمره أي 1920. وعندئذ بدأت تتوالى الوجوه النسائية الحبيبة من ماريكا اليونانية ثم إلى ابنة أحد الولاة السابقين وتدعى صبيحة في سنوات فتوته التي كتب لها قصيدة "المرأة ذات العينين السوداوين"، ثم عزيزة وإلى نزهت خانم التي لحقت به إلى موسكو بدعوة من ناظم، فكان أول زواج له عام 1922.

غير أن هذا الزواج لم يدم أكثر من عامين لداع صحي أصاب نزهت، ولشعور متنام بالغيرة لديها. ومنها إلى أنوشكا أو ليوليا التي عشقها الشاعر ناظم وهما لا يزالان على مقاعد الجامعة بموسكو، وكتب لها أشعاراً منها بعنوان "اعتراف": "في داخلي/ في داخلي/ وحش مسعور/ ينفث/ من عينيه/ لهباً وسخاماً ودخاناً/ كنْ/ برقاً/ صا...عقة/ تتفجر مئة مليار كيلومتر إلى الأمام/ أنا!/ لماذا؟/ ساقاي برج إيفل/ أسندهما إلى قبة كنيسة سان بول/ وبذراعي اللتين مثل الأمازون/ أريد أن أمسك / قارة إفريقيا..".

نساء في حياته

ولدى عودة ناظم إلى الاتحاد السوفياتي ثانية عام 1926 تعرف إلى ليودميلا يورتشينكو الأوكرانية والمسماة لينا، وتزوجا ولكن العلاقة لم تدم أكثر من ثلاث سنوات لمرض الأخيرة في أوديسا ووفاتها بالكوليرا، ولدى عودة ناظم إلى تركيا أوائل الثلاثينيات التقى بخديجة زكية بيرايه وتزوج بها، ودام زواجهما زمناً كان له أن ينظم خلاله قصائد لها، وإن يكن من السجن: "أقرأ الكتاب/ أنتِ في داخله/ أصغي إلى الأغاني/ أنتِ فيها/ أجلس وأتناول خبزي/ تجلسين أمامي/ أنت في كل مكان حاضرة ناضرة/ ولا أستطيع التكلم معك/ ولا أستطيع سماع صوتك/ أنتِ زوجتي الأرمل منذ ثماني سنوات"

ومن ثم تدخل إلى حياة ناظم حكمت امرأة أخرى تدعى سميحة بركصوي، وهي الممثلة المسرحية، ثم الكاتبة جاهد أوتشوق، ومنور أنداتش التي كتب لها: "أنتِ قيدي وحريتي/ أنتِ لحمي المحترق مثل ليلة صيفية عارية/أنت بلادي / أنتِ يا من عيناها العسليتان توشيهما الخيوط السندسية، /أنتِ حبي الكبير، حبي الجميل والعظيم.." ولا تكاد تنتهي سلسلة النساء عاشقات ناظم ومعشوقاته حتى وفاته العام 1961 بنوبة قلبية.

وأياً يكن من نسبية الوقائع والعلاقات الموصوفة في سيرة ناظم حكمت، وضعها محمد نور الدين، ومدى دقة تحليلها لشخصية الشاعر، فإنها أتت لتملأ فراغاً في معالجة جوانب من حياة الشاعر متعددة ومشعة في كل الآفاق.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب