Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سطوة السوق تلتهم  الشعراء... وناشري الشعر في فرنسا

500 دار ومجلة في معرض باريسي سنوي

من اجواء "سوق الشعر" في باريس (يوتيوب)

اختُتمت فعاليات "سوق الشعر" الذي تحتضنه كل عام ساحة "سان سولبيس" في باريس، وتشارك فيه نحو 500 دار نشر ومجلة، على استنتاجٍ مرير مفاده أن، في موطن بودلير ومالارميه ورامبو، قليلين هم أولئك الذين يقرأون الشعر، وقليلين أكثر هم الذين يُقدِمون على شراء كتبه. والسبب؟ معاناة هذا النوع الأدبي من صورته التي ما زالت تتحكّم بها مجموعة كليشيهات أو أفكار بالية، كصفة "اللعين" المتسلّطة أبداً على كتّابه؛ ومعاناته من الجمود الذي يطغى على تصنيفاته وقراءة تاريخه داخل الإطار المدرسي والأكاديمي.

ومع ذلك، يمكننا اليوم أن نحصي أكثر من 150 ناشراً فرنسياً يواظبون على نشر الشعر حصراً، مسلّحين بشغفهم فقط لمواجهة دكتاتورية السوق التي تنجح كل عام في صرع عدد منهم وباتت، مع الأسف، تملي سياسات معظم دور النشر الكبرى والمكتبات. فلنأخذ دار "سيغيرس" العريقة، على سبيل المثال، والتي كانت مكرَّسة للشعر فقط، ما هو سبب تتواريها فجأةً عام 2009؟ "المؤسسة التي اشترتها اعتبرت أن لا مكان للشعر في عالمٍ مأزوم، لأنه غير قادر على تسجيل المبيعات التي تسجّلها الرواية أو كتب العلوم الإنسانية"، يجيبنا المدير الأخير لهذه الدار، الشاعر برونو دوسيه الذي، بدلاً من الاستسلام للأمر الواقع، أسّس دار نشر أخرى تحمل اسمه لاقتناعه بأن رهان الشعر ليس اقتصادياً، بل رمزياً: "الكتابة الشعرية هي الشكل الفردي ليوتوبياتنا، والنشر هو ما يسمح بتحويل هذه اليوتوبيات الفريدة، الفردية، الذاتية، إلى قوّة جماعية". ومن هذا المنطلق، يعتبر دوسيه أن الشعر أقوى وأكثر ديمومة من الرواية: "ما يميّز الشعر هو تعدُّد دلالاته وارتجافه بالمعاني. معه، تصبح القراءة فعلاً خلّاقاً لأنها تمنح معانٍ جديدة لكلمات الشاعر".

بدوره، يرى الشاعر إيف دي مانو، مدير سلسلة "شعر" التي أسّسها الشاعر كلود إستيبان في الثمانينات داخل دار "فلاماريون" ، أن التقليد الشعري القوي في فرنسا هو الذي أنقذ الشعر في هذه الدار وليس ربحيته المادّية: "أنا على قناعة بأن الشعر ليس فقط جزءاً من الأدب، بل هو عنصراً مركزياً فيه لا يمكن لناشر أدبي إهماله من دون عواقب". ولأن "فلاماريون" هي واحدة من أهم دور النشر الفرنسية على مستوى مجموع مبيعاتها، حين اشترتها دار "غاليمار" العملاقة عام 2012، لم تناقش مسؤوليها في مسألة المردود المادّي للسلسلة المذكورة: "الجميع كان مقتنعاً بأن الرهان لم يكن على هذه الأرضية. الشعر يفلت من قوانين السوق. طبعاً، هذه السلسلة لا تدرّ أموالاً، لكنها لا تخسر كثيراً أيضاً".

 وحول مسألة عدد النُسَخ المطبوعة والمباعة في فرنسا من كل ديوان شعر، يقرّ دي مانو بأنها لا تتجاوز الألف نسخة إلا نادراً، مهما كان حجم الدار التي تطبعه ومدى اختصاصها، مشيراً إلى أن سلسلته تسجّل أكبر نسبة من مبيعاتها داخل شبكة ضيّقة من المكتبات لا يتجاوز عددها الخمسين على كامل الأراضي الفرنسية. أما دار برونو دوسيه، التي تأسست منذ خمس فقط وأصدرت إلى حد اليوم نحو مئة ديوان شعري، على رغم بنيتها الصغيرة، فتطبع من كل كتاب تنشره 1200 نسخة. وحين نسأل مديرها عن المردود المادّي لهذه الكتب، يتجنّب الجواب المباشر ويلجأ إلى الاستعارة: "حين يطرح الأطفال هذا السؤال عليّ، أجبيهم: أن تكون شاعراً وناشر شعر هو أن تكون فقيراً مرّتين وثريّاً مرتين. لعلني لن أبلغ الثراء على المستوى المالي بكتابتي للشعر ونشره، لكن في الوقت نفسه هذا النشاط مصدر غنى رائع على المستوى الإنساني والفكري والفني".

وحول هذه النقطة، يوضح دي مانو أن المسألة ليست حديثة لأن الكتب الشعرية لم تبَع يوماً في فرنسا مثل الخبز، إلا في حالات نادرة، مذكّراً بأن عدداً من دور النشر الكبرى توقف عن نشر الشعر منذ نحو خمسين عاماً، ولم تتطوّر الأمور في الاتجاه الصحيح: "نادراً ما نشرت دار "فايار" كتباً شعرية. دار "سوي" نشرت قليلاً في فترة ما، ثم توقّفت نهائياً، مثلها مثل دار "غراسيه" التي كانت تملك سلسلة شعر صغيرة في السبعينات قبل أن تتوارى في العقد نفسه". وفي النهاية، باستثناء "غاليمار" و"فلاماريون" و"مركور دو فرانس"، أصبح نشر الشعر في فرنسا محصوراً بدور نشر صغيرة متخصّصة به. لكن حتى في هذه الدور، تبقى عناوين الإصدارات ونُسَخها قليلة. دار "أصوات من حبر" مثلاً، التي يديرها الشاعر جان بيار شامبون، لا تنشر سوى 12 كتاباً شعرياً سنوياً، والمجلة التي يشرف على إصدارها وتحمل الاسم نفسه لا يتجاوز عدد المشتركين فيها المئة، معظمهم شعراء. والسبب في نظر الناشر: "الوضع الاقتصادي الخانق وهبوط مبيعات الكتب الأدبية عموماً، وانحصار قرّاء الشعر بالشعراء أنفسهم".

لكن برونو دوسيه يبقى متقائلاً، مذكّراً إيانا بأن الشعر، أكثر من الرواية، هو نوع أدبي يحتاج إلى وقت كي يأخذ مكانه: "لم يُبَع من ديوان أبولينير "كحول" سوى عشرات قليلة من النُسَخ وهو حيّ. لكن مبيعاته بلغت إلى حد اليوم 1,5 مليون نسخة. إذاً ثمة مكسب مادّي على المدى الطويل". ويضيف: "اقتصاد نشر الشعر لا يرتكز فقط على مبيعات الكتب، بل أيضاً على التظاهرات الثقافية التي ترافق كل إصدار. غالباً ما يتلقّى الشعراء الذين أنشرهم مكافآت على مشاركتهم في نشاطات ثقافية مختلفة، تتجاوز الحقوق التي أدفعها لهم. ولذلك، في اختياراتي النشرية، لا أقيّم النص فقط، بل صاحبه أيضاً".

وحول أسباب تراجُع عدد قرّاء الشعر بشكلٍ مخيف في فرنسا، يذكّرنا هذا الناشر بأن ثمّة حقب تاريخية كان الشعر فيها شديد الحيوية، كما خلال الحرب العالمية الثانية التي أدّى الشعراء فيها دوراً مهماً لتحرير فرنسا: "تحوّل الشعر آنذاك إلى سلاح، والجنرال ديغول اعترف بدور كتّابه أثناء الحرب". في نظره، الجيل اللاحق من الشعراء هو الذي قلب الصفحة لاعتباره أن ذلك الالتحام الحيوي مع التاريخ لم يعد راهناً. وبتحرّرهم من الإكراهات الشكلية (الوزن، القافية...) وانغلاقهم داخل مختبرات تجريبية وتبنّيهم مساعٍ طلائعية، انقطعوا عن جمهور الشعر الذي لم يتمكن من اللحاق بهم، قبل أن يستدرك قائلاً: "لكننا نواجه اليوم حرّية أكبر هي حرّية المجتمع الذي نعيش فيه".

أما دي مانو فيرى أن "موضوعات الشعر لم تتغيّر (الحياة، الموت، الحب...)، بل وسيلة مقاربتها هي التي تغيّرت. وفي هذا السياق يلاحظ مثلاً أن ثمة الكثير من السرد في الشعر المعاصر على حساب الغنائية البسيطة، كما ثمة نزعة إلى تشييد كتب معقّدة بدلاً من كتابة قصائد معزولة ثم جمعها على شكل باقة". ويلفت الناشر أيضاً انتباهنا إلى الفارق الكبير بين عدد الأشخاص الذين يقرأون اليوم الشعر في فرنسا ويشترون كتبه بشكلٍ ثابت (نحو عشرين ألف) وعدد كتّاب الشعر (أكثر من سبعين ألف)، وبالتالي إلى احتمال أن يكون تنوّع الانتاج الشعري وغزارته هو الذي يثبط عزم قارئ الشعر المفترَض.

ويشكّك دي مانو بصحّة الفرضية التي تقول بأن سبب تراجُع عدد قرّاء الشعر يعود إلى افتقاده لـ "غرفة أصداء" تاريخية ـ سياسية، وبأن انقشاعه مرتبط بالتالي بمدى التزامه قضايا زمنه: "منذ نهاية القرن التاسع عشر، وباستثناء مرحلة الحرب العالمية الثانية، لم يلعب هذا الالتزام أي دور في توسيع حلقة القرّاء، إلا في الشعر الفرنكوفوني، والزنجي تحديداً". بينما يذكّر دوسيه، الذي يخصّص فسحة مهمة للشعراء الأجانب داخل إصداراته، بأن الأماكن التي يتمتّع الشعر فيها بحيوية كبيرة هي تلك التي يُستخدَم فيها كوسيلة إعلام واتّصال في حدّ ذاتها. وفي هذا السياق، يعبّر عن ثقته في عودة الشعر إلى الواجهة كقوة حيّة: "في القسم الثاني من القرن العشرين، شهدنا نوعاً من الانطواء على الذات لدى الشعراء الذين ابتعدوا عن جمهورهم. لكن منذ مطلع الألفية الثالثة، نستنتج العكس. رياح الشعر تغيّرت واتّخذت الاتجاه الصحيح، كما تشهد أدلّة كثيرة على ذلك، مثل تظاهرة "ربيع الشعراء" الضخمة في فرنسا وخارجها، أو تزايد عدد المهرجانات الشعرية، وفي مقدّمها مهرجان "أصوات حية" الفرنسي ـ المتوسّطي".

ويضيف دوسيه: "لعل ما ينقص الشعر اليوم هو دعم واعتراف وسائل الإعلام الكبرى به وبضرورته. ولا أقصد هنا الإذاعات التي تؤدّي جيداً دورها، بل الصحف الكبرى وخصوصاً القنوات التلفزيونية. لا يوجد أيّ حيّز للشعر في برامج هذه القنوات، ربما لأن المسؤولين فيها يعتبرونه ظاهرة فولكلورية أو متقشّفة ومنفِّرة لا يمكن أن تروق لجمهورٍ واسع". ويوافقه على ذلك شامبون ودي مانو الذي يستحضر أيضاً مشكلة نظام التعليم في فرنسا. فلأن لائحة الشعراء الذين يُدرَّسون في المدارس  لم تتغيّر منذ زمن طويل (فرلين، أبولينير، بريفير...)، لا يتلقى التلاميذ التعليم الذي يسمح لهم في مقاربة الشعراء المعاصرين وتذوّق نصوصهم. مشكلة لا ينكر دوسيه حقيقتها، لكن مداخلاته الثابتة في المدارس جعلته يستنتج بفرحٍ كبير مدى افتتان التلاميذ بالشعر، خصوصاً حين يتم توليفه مع التكنولوجيات الحديثة.

 

المزيد من ثقافة