Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة إلى إخفاق العقلانية في الفكر الأيديولوجي العربي

الخطابات القومية والشيوعية والليبرالية والأصولية وقعت في التناقض بعيداً من الوعي الجذري

"التفكير" لوحة للرسام سمير الصفدي (صفحة الرسام - فيسبوك)

الباحثون الذين دأبوا منذ نهايات القرن الماضي إلى الآن على طرح التساؤلات المُربكة بصدد إخفاق المشروع الليبرالي الذي عرفه الفكر العربي منذ مطلع القرن التاسع عشر، وتحددت سماته أواسط ذلك القرن، لا ينتبهون إلى أن ذلك الإخفاق، فضلاً عن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا يمكن التقليل من أهميتها، إنما يعود بشكل أساسي إلى إخفاق الإجابة عن سؤال العقل. فالتيارات الحديثة الليبرالية والقومية والاشتراكية تبنّت قشرة الحداثة من دون الحداثة ومن دون العقلانية التي أسست للحداثة. فالفكر الأيديولوجي العربي لم يدرك بعد استحالة النهضة العربية الراسخة والقابلة للتقدم والاستمرار من دون نهضة عقلية شاملة، فظل أسير اللغة التراثية يستخدم العدة المفهومية نفسها التي كانت، ولا تزال، من أسباب انكسار المشروع النهضوي العربي وعثاره المزمن. ولو أردنا تحديد سمات هذا الفكر لوجدنا أن اللاعقلانية هي سمته الرئيسة، إذ هو توجه إلى الشعور والرغبة والعصبية، إلى الماضي والتاريخ والعقيدة، وظل خارج دائرة العقل النقدي، العقل الاستقرائي الاستدلالي التحليلي الذي يضع الحدث في إطاره التاريخي محدداً علله وأسبابه وغائياته، مستخلصاً عبره، مستشرفاً مستقبله وأبعاده.

خطاب إيديولوجي متراجع

في كل مرة كان الوجدان العربي يهتز بعنف أمام المعطيات التاريخية كان الخطاب الأيديولوجي يعتصم بالغيبيات وينزلق إلى لغة العواطف والتمنيات فيرجع أسباب التخلف والتقهقر إلى قدر تاريخي أو لعنة أصيبت بها الأمة، ويصبح خلاصها منوطاً بمعجزة فوق طبيعية تنتشل الإنسان العربي من واقعه أو بزعيم أوحد منقذ مخلص ملهم وسمته العناية بالقدرة والعلم والبصيرة يأخذ الأمة بيدها كما تاخذ الأم بيد طفلها القاصر فتنقذه من الهلاك وتحقق أمانيه.

هذا التصور اللاعقلاني طغى على الخطاب الأيديولوجي العربي بمجمله منذ الخمسينيات من القرن الماضي. فالخطابات القومية والشيوعية والليبرالية والأصولية تشترك كلها في الابتعاد عن العقل وأحكامه ومعاييره المنطقية لتلوذ إلى الإيمان أو إلى الافتراض والحلم والخرافة. فهل هذا عائد إلى تهميش العقل في الفكر العربي الذي بدأت محنته مع الغزالي في القرن الخامس الهجري أم إلى المنحى الذي قادته السلطات الاستبدادية التي تعاقبت على الأمة في عصور انحطاطها فعمدت إلى تغذية اللاعقلانية في الفكر والسياسة والحياة، لتغييب التساؤل حول شرعيتها وإطالة أمد الاستبداد، مما جعل اللاعقلانية صفة ملازمة لحياتنا وسلوكنا وتفكيرنا، أم إلى فشل الليبرالية العربية في أن تشكل حركة عقلانية جدية توقظ الفكر العربي من سُباته وتؤكد سلطة العقل من جديد، فاستمر دوره في التوفيق بين المعقول واللامعقول، وظلت مهمته في التبرير وليس في النقد والمساءلة والتحليل؟

من هنا كان من الضروري مراجعة الشعارات والمفاهيم التي أغرقت الفكر العربي في متاهات لا يخرج من إحداها حتى يضيع في الأخرى، في حين لا تترك التطورات العالمية المتسارعة وقتاً كي نراجع حساباتنا، ولم يعد أمامنا من مجال للفرص الضائعة والتجارب الفاشلة.

في هذا الإطار من الضبابية في الفكر والمفاهيم والشعارات طرحت الأيديولوجيا القومية الوحدة العربية في مواجهة الاجتياح الحضاري الغربي والغزو الصهيوني لفلسطين، لكن التصور الذي طرحته للقومية والوحدة بقي في شكله العام وجدانياً عاطفياً، يقوم على الافتراض والتمنيات. وليس من قبيل الصدفة أو تساوق اللغة ما يتكرر في الأدبيات القومية من تعابير تخاطب الوجدان والعاطفة والمشاعر، من ذلك القول إن القومية قدر وإيمان أو حب وتضحية.

بين العقل والوجدان

أدى اعتماد الخطاب القومي على لغة الوجدان بدلاً من لغة العقل والمنطق إلى تناقض عميق وتشوش هائل في طرح الشعارات القومية، اختلط فيه التاريخ بالدين باللغة بالاقتصاد، حتى بات المفكر القومي في عنق الزجاجة، على حد تعبير ياسين الحافظ. وبات الإنسان العربي لا يستطيع الخروج من الفكر القومي برمته بنتيجة واضحة محددة يركن إليها في نضاله السياسي والقومي. فهل نبدأ بالوحدة أو بالاشتراكية أو بالاقتصاد أو بتحرير فلسطين أو بها كلها مجتمعة؟ لا ندري. هل تقوم القومية العربية على اللغة والتاريخ أو على الأرض والاقتصاد أو على هذه كلها مجتمعة؟

هذه أسئلة لا يجيب عنها الخطاب القومي بغير الكلام الوجداني والعاطفي والرومانسي، بينما الواقع أن التجزئة تتعمق، وأن الشعور القومي ليس حقيقة ثابتة في كل الأقطار العربية، وأن الأرض العربية متباعدة، والاقتصاد غير متكامل، وأنه في العالم العربي أقليات قومية ودينية وإثنية تعوق الاندماج القومي، فيما "المعطيات الموضوعية تكرس التجزئة وتعمل على تعميقها، بل وتقف جداراً رهيباً أمام الوحدة"، كما يقول محمد عابد الجابري. فكيف الخروج من عنق الزجاجة إذاً؟ هذا ما لم يقدر على حله الخطاب القومي الوحدوي اللاعقلاني، ولا يبدو أنه قادر على ذلك في المدى المنظور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم يتوجه الخطاب القومي الوحدوي إلى القومية العربية من حيث هي واقع، بل من حيث هي أمنية، ولم يتوجه إلى الوحدة العربية من حيث هي ممكنة، بل من حيث هي ضرورية لتجاوز مأزق التخلف والتنمية، لكن المنطق العقلاني لا يؤكد التلازم بين ما هو ضروري وما هو ممكن. فالوحدة العربية كما يطرحها الخطاب القومي تشكل خللاً بنظام عالمي سياسي واقتصادي كرّس التجزئة والقطرية ورتب مصالحه واقتصاده على هذا الأساس، وليس من المعقول أن يتخلى عن هذه المصالح من دون مقاومة عنيفة وعنيدة، إذ أثبتت التجارب الوحدوية العربية الفاشلة ذلك، فلم تعمر ولم تثمر كل مشاريع الوحدة الطوعية أو القسرية، وظلت شعارات استهلاكية لمرحلة تاريخية عابرة وقصيرة الأجل.

مظاهر لاعقلانية

ومن مظاهر اللاعقلانية في الفكر القومي، الموقف من إسرائيل التي وصفت بالمعتدية والهمجية والعنصرية، لكن ما طرح من أجل إزالة عدوانها لا يقل شعرية ولا عقلانية عن طروح الخطاب القومي. فهل الوحدة العربية الشاملة هي السبيل الناجع أو حرب العصابات أو الحرب الاقتصادية والمواجهة مع الغرب أو حرب الجهاد المقدس؟ لكن النتيجة كانت دائماً مخيبة للآمال، وبقيت إسرائيل حقيقة قاهرة للمشاعر والأماني. فالقول بعدوانية إسرائيل وحتمية زوالها تصور أخلاقي قائم على فكرة انتصار الخير على الشر، أما العقل العقلاني فلا يثبت ذلك، وليس من الضروري أن ينتصر الخير دائماً. ولم ترسخ إسرائيل عدوانها بالقوة الغاشمة فقط، بل بالتخطيط والعلم، إذ هي أنتجت وتنتج أضعاف ما ينتجه العرب مجتمعين من الأبحاث العلمية، ولم يكن في إمكان الإنسان العربي تحقيق ما طرحه الفكر الأيديولوجي من طروح لا عقلانية، إذ ليس في إمكانه تحقيق الوحدة المُرتجاة ولا خوض حرب تحرير شعبية ولا مواجهة الغرب اقتصادياً.

والخطاب الشيوعي العربي لم يكن بدوره خطاباً عقلانياً، إذ قام على فرضيات وتعميمات دوغمائية تتناقض في حقيقتها مع العقل النقدي المحلل المستقرئ المشكك. قال الشيوعيون العرب بحتمية الاشتراكية لأن تطور الرأسمالية لا بد أن يجلب حتفها المُحتم، كما قال ديالكتيك ماركس. وقالوا إن العالم العربي يمر الآن في المرحلة الرأسمالية ليتحول بعدها إلى الاشتراكية، لأن الديالكتيك ذاته حدد للتطور مراحل لا يمكن الخروج منها، ولأن الماركسية أناطت بالبروليتاريا مهمة تحويل المجتمع إلى الاشتراكية، ذهب الشيوعيون العرب إلى أن الطبقة العاملة العربية بقيادة حزبها الشيوعي هي التي تقود عملية التغيير الاجتماعي والتحرير الوطني، حتى ولو لم يكن في العالم العربي طبقة عاملة بالمعنى الماركسي، ولو لم يكن هناك علاقة بين هذه الطبقة، إذا وجدت، والحزب الشيوعي. وطالما اتهم الشيوعيون قادة وطنيين بالرجعية لأنهم لا يدينون بالعقيدة الشيوعية، مع أنهم كانوا على رأس النضال الوطني والاجتماعي. وهكذا التقى الفكر الشيوعي في لا عقلانيته مع الفكر القومي العربي.

وثمّة مظهر من مظاهر اللاعقلانية في الفكر الأيديولوجي العربي المعاصر، يكمن في ما تطرحه الحركات الأصولية من حلول لإشكاليات الحاضر العربي وأزماته. فالرجوع إلى الماضي، في رأيها، والاحتماء به بعد تضخيمه وتمجيده، والعودة إلى الأصول التراثية، هي السبيل الوحيد لإحياء الذات العربية المتعثرة وإعادة بناء المجتمع العربي الذي يساوره الانحطاط من جديد. الحل كل الحل إذاً، في الماضي المعصوم. وهكذا جرى إسقاط العقلانية النقدية أمام السلفية التراثية، كما جرى إسقاطها أمام السلفية الماركسية الستالينية، فالنظر إليهما على أنهما حقائق مطلقة ونهائية ليس سوى تدمير للعقل والحاضر معاً.

إن العالم العربي اليوم، كما يرى محمد المصباحي، يعيش حالة لا تنويرية، لأنه عاجز عن استعمال عقله استعمالاً نقدياً مستقلاً عن كل وصاية. إلا أن بناء خطاب جديد متحرر من الوصاية والرومانسية والنمذجة الجامدة، ليس مهمة مستحيلة، بل هو عملية تبدأ بإقرار محددات جديدة وعصرية للفكر الأيديولوجي تحتكم إلى العقل وتغلبه على ما عداه، كي لا نبقى مجتمعاً تهدده العشائرية والطائفية والتطرف، ينتظر الخلاص من خارجه الجغرافي والتاريخي والأيديولوجي، تتجاذبه كل التيارات، وتحكمه عقدة الآخر. وهذا ممكن ببناء العقل النقدي المؤمن بالمغايرة والاختلاف والمتحرر من سلطة الجماعة المغلقة، طائفية أو عنصرية أو دينية، الرافض للدوغمائية الدينية والعلمانية على السواء. عندها يتحرر الفكر العربي من التبعية إلى الإبداع، ومن الانفعال إلى الفعل، ويصبح في إمكاننا قيادة تاريخنا كما يجب علينا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة