Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف وحد بوتين اليمين واليسار في روسيا خلف حرب أوكرانيا

سردية الشعب والأحزاب لا تختلف عن خطاب الكرملين والعقوبات زادت النقمة على الغرب

يعود تضامن الشعب الروسي حول قيادته إلى تاريخ الإمبراطورية الروسية في القرون الأربعة الماضية (أ ف ب)

واحدٌ من أسباب خوض الكرملين الحرب في أوكرانيا بهذا الإصرار الذي يعتمد عليه لتحقيق أهدافه أنه يستند، وفق مراقبين، إلى "وحدة معظم الأطياف السياسية الروسية إلى جانبه"، على الرغم من تظاهرات الاعتراض على الحرب من قبل أحزاب ومجموعات وهيئات حقوقية معارضة في طليعتها "مجلس تنسيق المعارضة الروسية" الذي يرأسه الناشط السجين أليكسي نافالني، في معظم المدن الروسية، وتعرض الآلاف منهم للاعتقال.

يحتفظ بوتين، بحسب خبراء في السياسة الروسية الداخلية، بتأييد شعبي لما يسميه الكرملين وسائر المسؤولين الروس "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا من أجل مواجهة واقتلاع "النازيين الجدد" في الدولة الجارة التي تفاقم التوتر والعداء معها في العقدين الأخيرين نتيجة عوامل تاريخية معقدة من جهة، وتقاربها مع الغرب من جهة ثانية. فشعبية بوتين في استطلاع أُجري أول شهر أبريل (نيسان) الماضي، قفزت إلى أكثر من 80 في المئة.

ويسعى القادة الروس، باستخدام تلك العبارات، إلى تكريس مفردات لاستقطاب الرأي العام في روسيا وفي الدول المعادية للغرب وأميركا، في الحملة السياسية الإعلامية المواكِبة للحملة العسكرية التي يشنها الجيش الروسي منذ 24 فبراير (شباط) الماضي، بمشاركة الانفصاليين الموالين لموسكو في إقليم دونباس.

لوحدة الروس خلف القيادة محطات تاريخية 

ويعود تضامن الشعب الروسي حول قيادته إلى تاريخ الإمبراطورية الروسية في القرون الأربعة الماضية، الذي أفضت تراكماته إلى نمو الشعور القومي والفخر بالانتماء إلى أمة تُعد القوة الثانية في العالم من زاوية إمكاناتها العسكرية، واختزانها ثروات المواد الأولية لأهم الصناعات العالمية المتقدمة على الرغم من اعتمادهم على كثير من إنتاج الدول الصناعية الغربية في استهلاكهم، وحتى في صناعاتهم. 

فهم سبق أن توحدوا حول القيصر "بطرس الأكبر" الذي اشتهر بقوته وشجاعته، وبُعد نظره، جراء تأسيسه جيشاً قوياً وأسطولاً بحرياً هائلاً، وبتحديثه روسيا عن طريق الانخراط في الإطلاع على التقدم الثقافي والاقتصادية والمعماري في سائر الدول الأوروبية، التي كان يحرص على زيارتها، وعلى إرسال التلامذة الروس إليها للتعلم، فحوّل روسيا القيصرية إلى الإمبراطورية الروسية، بعد توسعها الجغرافي في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، فباتت قوة أوروبية فاعلة.

كاترين الثانية "العظيمة" وستالين

كما توحد الروس حول الأمبراطورة كاترين الثانية التي سُميت "كاترين العظيمة"، والمولودة في "بروسيا" التابعة لألمانيا في حينها، وفي عهدها تحولت روسيا إلى قوة عظمى في أواخر القرن الثامن عشر. 

في الحرب العالمية الثانية، تحلّق الشعب الروسي في المرحلة الشيوعية، حول جوزيف ستالين في دفاعه عن بلدهم في مواجهة ألمانيا النازية، على الرغم من بطشه. وهم الآن يقفون خلف بوتين بمعظم قواهم السياسية، لاعتقادهم أن الغرب الأوروبي وأميركا يسعيان إلى استضعاف بلدهم عبر تطويقه بضم جيرانهم إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).

يجوز القول إن قيادة بوتين تمكنت من توحيد اليمين والقوى الرئيسة في اليسار ببلاده، حول توجهاته في ما يخص المواجهة التي يخوضها مع الغرب في أوكرانيا. فمنذ ما قبل الحرب، تمكن حزب "روسيا الموحدة" الذي أسسه في عام 2001 ويرأسه بوتين ضابط الـ"كي جي بي" السابق إبان الاتحاد السوفياتي، الذي يحكم الاتحاد الروسي، من أن يحصد الأكثرية في مجلس الدوما، التي ضمنت له الرئاسة بعد تعديل دستوري، حتى عام 1936.

وعلى الرغم من أن الإعلام الغربي يعتبر أن وسائل الإعلام ومحطات التلفزة الروسية لا تفصح عن كل شيء بشأن ما يدور في هذه الحرب، فإن وقوف أكثرية الشعب الروسي خلف قيادته يعود إلى الخلفية التاريخية للصراع حول أوكرانيا مع الدول الغربية ودول حلف الناتو، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، وهو الحدث الذي يعتبره جزء كبير من الرأي العام الروسي "كارثة" أضعفت روسيا كدولة عظمى، وعمل بوتين على استعادة هيبتها الدولية، مع أن زوال النظام القديم جاء بعد تصاعد النقمة على نمط الحياة الاشتراكي الذي فرضه على المجتمع السوفياتي.

ولفهم الالتفاف حول القيادة الروسية، لا بد من استعراض مواقف أحزاب أقصى اليمين واليسار، ما عدا بعض فصائل اليسار الجديد التي ترى في الحملة العسكرية الروسية مأساة تتسبب بسقوط القتلى من الطرفين.

جيرينوفسكي القومي اليميني

يستذكر الإعلام الروسي والغربي كيف تنبأ الزعيم المؤسس لـ"الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي"، فلاديمير جيرنوفسكي، القومي السلافي المتطرف في مواجهة الغرب الأوروبي والأميركي (توفي في مارس/ آذار 2022)، بالحرب على أوكرانيا في كلمة له أمام مجلس الدوما (البرلمان)، إذ ذكّر في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2021 بأنه قال في خطب سابقة، "كيف علينا أن نخاطبهم؟ (في إشارة إلى الدول الغربية) وبماذا ينبغي أن نطالبهم؟ لا داعي للتلويح بالسلاح، يجب أن نقول لهم هيا نفذوا (والمقصود الضمانات الأمنية التي اقترحها بوتين على أوروبا وأميركا)، وإذا رفضتم فسنتعامل معكم وفق خطة جديدة ستشعرون بها في 22 فبراير 2022"، وهو التاريخ الذي سبق بدء الحرب ضد أوكرانيا.
كذلك كان من بين تصريحات جيرنوفسكي، أنه "لا جدوى من حرب واسعة، فالولايات المتحدة والغرب مدججون بالسلاح، ويعيشون في استقرار وازدهار وأمان، ولن يذهبوا إلى الحرب، لكن أوكرانيا أصبحت ساحة لتدريب الجيوش على الحرب، وتبرير الأموال التي تُدفع للموازنات العسكرية من جيوب دافعي الضرائب".
ولطالما كان رأي جيرينوفسكي هو "الدفاع عن إقليم دونباس، وعدم الاكتراث برد فعل الغرب على ذلك"، معتبراً أنه لا بد من أن يحترم الغربيون المصالح الروسية والمخاوف التي عبّرت عنها موسكو في مقترحاتها للضمانات الأمنية التي ترى أنها تستحقها بعد تمدد الناتو خلال ثلاثة عقود، حتى وصل إلى حدودها الغربية، وكان من الممكن أن ينشر قواعده على مشارف تلك الحدود على الأراضي الأوكرانية، وهو ما استبَقته العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.

 الحزب الشيوعي

وقبل أسابيع نشر الحزب الشيوعي الروسي الذي يتزعمه غينادي زيوغانوف (خاض الانتخابات الرئاسية ضد بوتين في عام 2018)، مقالاً على موقعه الرسمي، سرد فيه ذات الحجج التي تسوقها الخارجية الروسية والإعلام الرسمي وكبار المسؤولين في موسكو، عن أن جزيرة القرم هي أصلاً من الأراضي الروسية، مبرراً حق روسيا بضمها، وكذلك إقليمي دونيتسك ولوغانسك... وردد زيوغانوف الاتهامات للمسؤولين الأوكرانيين الحاليين بالانقلاب على الشرعية المنتخبة في عام 2014. وعاد المقال بالتاريخ إلى وقوف "القوميين الجدد" في غرب أوكرانيا إلى جانب هتلر في الحرب العالمية الثانية والمجازر التي تسببوا بها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومما جاء في المقال، أن "مئات الشيوعيين يقاتلون النازيين كجزء من قوات الجمهوريات الشعبية (دونيتسك ولوغانسك اللتين أعلنتا استقلالهما عن أوكرانيا واعترفت بهما موسكو). ومات عشرات الشيوعيون في هذا الصراع. خلال 8 سنوات، كما أن أوكرانيا بمحطاتها الأربع للطاقة النووية وإمكاناتها العلمية والتقنية الضخمة قادرة على صنع قنبلة ذرية. تم الإعلان عن هذه النية علانية. وكان هناك خطر من نشر صواريخ كروز الأميركية. يهدد الوضع في أوكرانيا بشكل متزايد أمن روسيا".
وأوضح الحزب الشيوعي، أن "الغرض من العملية هو تحرير أوكرانيا من النازيين وحيادها (رفض انضمام كييف إلى الناتو). وتعتمد القوات الروسية، أثناء مهاجمة المنشآت العسكرية، تكتيكات لتقليل الخسائر بين السكان المدنيين والجيش الأوكراني، لتجنب تدمير البنية التحتية المدنية، وأن الأراضي الحالية التي تتكون منها أوكرانيا هي نتيجة دخولها إلى الإتحاد السوفياتي، وتتألف من قطع متفرقة هي: غاليسيا (لفيف) ذات التأثير القوي للكاثوليكية، وأوكرانيا الشرقية، التي تنجذب بقوة نحو روسيا".
ولم تبرز معارضة فعلية من الأحزاب الخمسة الرئيسة الممثَلة في الدوما (البرلمان الروسي) للحرب في أوكرانيا، فيما انسجمت معظم الأحزاب خارجه، سواء كانت اشتراكية، مثل "الحزب الديمقراطي الروسي المتحد"، أو يمينية مع هذا التوجه.

النقمة على توسع "الناتو"

الفهم العام لدى الرأي العام الروسي أن توسع حلف الناتو في محيط بلادهم خطر عليها، وهو فَهمٌ أخذ يتعزز منذ تخلى الاتحاد السوفياتي قبيل تفككه عن ألمانيا الشرقية، وبات بعد توحيد ألمانيا، جزءاً من هذا الحلف، وهم يلومون ميخائيل غورباتشوف على تساهله في هذا الشأن. 

وعند ضم بوتين جزيرة القرم في عام 2014 إلى روسيا، لم يعترض الروس على هذه الخطوة التي جاءت بعد الإطاحة في كييف، بالرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا، في ما يطلق عليه الروس تسمية "الانقلاب المدعوم من الغرب". فشبه جزيرة القرم تسكنها أكثرية روسية، وأهداها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف إلى أوكرانيا حين كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، في عام 1954، بعد أن كانت جزءاً من الأمبراطورية الروسية منذ أن ضمتها إليها "كاترين العظيمة" في عام 1783. ويدرك الروس هذه الحقائق التاريخية التي ترددها أحزاب اليمين واليسار، ويرددون أنهم دفعوا ثمن استعادتها من هتلر حين احتلها، حياة 150 ألف جندي. وهم يتذكرون، خصوصاً الجيل القديم، أن تولي الحكم في أوكرانيا في عام 2014 من قبل قوميين أوكرانيين يلوذون بالعقيدة النازية، أنهم خسروا 20 مليون روسي للتخلص من النازية بأوروبا، في ما يسمونه "الانتصار الكبير" الذي يحتفلون بذكراه في 9 مايو (أيار) من كل عام، (التاريخ الذي كان بوتين ينوي إعلان تحقيق العملية العسكرية في أوكرانيا أهدافها). كما أن روسيا تلقت وعداً من دول الغرب بعد عقد "اتفاقية الدفاع والأمن المشترك" بينها وبين أوروبا، بألا يتوسع الناتو إثر ضم ألمانيا الشرقية، وبألا يكون أمن أي دولة عضو في الاتفاقية في خطر من أي دولة أخرى، لكن الناتو توسع أربع مرات بضم دول كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي إليه. 

السردية الشعبية لأسباب حرب أوكرانيا عند الروس لا تختلف عن تلك التي يرددها المسؤولون الروس، ويضاف إليها عوامل أخرى منها:

- أن العقوبات الأوروبية على روسيا بعد ضم القرم فاجأت المواطنين الروس لأنهم يعتبرونها خطوة عدائية غير مبرَرة مقابل تأييد الغرب لانقلاب كييف، وهو شعور تطور إثر العقوبات الأخيرة إلى نقمة كبيرة على دول الغرب.

- أن الشعب الروسي يشمت بالأوليغارشيين الروس الذين يتهمهم بجني الثروات عند انهيار الاتحاد السوفياتي، وينتقد بوتين لتقاربه مع بعضهم. فمعظم هؤلاء وظفوا أموالهم في أوروبا الغربية بدلاً من روسيا، لكن بوتين دعاهم إلى نقل أموالهم إلى روسيا بعد العقوبات على ضمه القرم. ويعتبر الروس أن هؤلاء حصراً يتمتعون بعلاقات طيبة مع الغرب. وعلى الرغم من ذلك تعرضوا للعقوبات إثر الحرب في أوكرانيا وصودرت أموالهم. 

- صحيح أن العقوبات الغربية أضرت بالاقتصاد الروسي، وأن شركات غربية كبرى سحبت استثماراتها، لكن الدعاية الرسمية ركزت على أن بعض هذه الشركات تسوّق السلع الغالية الثمن التي يفتقدها الأغنياء لا الطبقة المتوسطة والفقيرة. كما أن الأمن الغذائي للسلع الأساسية لم يُفقد. وزاد من شعور الصمود القومي في وجه العقوبات الغربية لدى الرأي العام، إعلان بوتين أن على دول الغرب أن تدفع ثمن النفط والغاز بالروبل الروسي بدلاً من الدولار واليورو، فعادت قيمته وارتفعت إلى أكثر من قيمته قبل حرب أوكرانيا، أو ما كان يساويه قبلها، أي إلى سعر 71 روبل للدولار الواحد بعد أن كان انخفض إلى 121 روبل للدولار إثر إعلان العقوبات مع بدء الحرب. ومقابل الحد من الاستيراد من روسيا فإنها قادرة على تعويضه برفع الأسعار، كمورد لا غنى عنه. وباتت قرابة 10 دول تتعامل بالروبل.

- أن العقوبات لم تشمل شراء الغرب لبعض المواد الأولية الصلبة التي يحتاجها الغرب في صناعاته الكبرى، مثل النيكل والتيتان (صناعة الطائرات)، ما سيضطر الغرب إلى التعامل مع البنك المركزي الروسي بالعملات الصعبة والروبل.

- أن أزمة الغذاء العالمية بسبب الحرب، لن تطاول روسيا، لأنها قادرة على رفع نسبة زراعة أراضيها مقابل انخفاضها في أوكرانيا، كونهما الدولتين الأكثر قدرة على تزويد السوق العالمية بالحبوب والزيوت وسائر السلع، وسيعوض ارتفاع أسعار السلع الغذائية لموسكو ما تخسره بسبب نقص البيع. 

 هذه العوامل وغيرها عززت شعوراً وسط الرأي العام بأن الحاجة إلى الصمود في وجه العقوبات تقتضي من القيادة الروسية عدم التساهل ووجوب الحزم إزاء تزويد أميركا وأوروبا، أوكرانيا بالأسلحة، بلغ حداً شعبوياً بالمطالبة بالسرعة في حسم المعركة العسكرية من دون الأخذ في الاعتبار الحجة التي تسوقها القيادة الروسية بأن العملية العسكري تتباطأ لتجنب قتل المدنيين والتسبب بدمار كبير، على الرغم من حصول هذا الدمار كما تظهر مشاهده في وسائل الإعلام العالمية.

المزيد من تحلیل