Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"لقد قتلت كثيرا"... وقائع أبشع جريمة حرب في نهار دمشق

باحثان يكشفان بالفيديوهات والوثائق قتل 41 شخصاً بوحشية وحرق جثثهم بواسطة "استخبارات الأسد" 

سار الضحايا نحو حفرة الإعدام غير مدركين أنهم على وشك أن يُقتلوا بالرصاص (ذا غارديان ـ حقوق الملكية لصحيفة الغارديان البريطانية)

هذه قصة جريمة حرب ارتكبها أحد أشهر منفذي جرائم النظام السوري، الفرع 227 من جهاز الاستخبارات العسكرية في البلاد، إذ تُظهر اللقطات التي تم إصدارها حديثاً، وحصلت عليها صحيفة "ذا غارديان" مذبحة ارتُكبت في الضاحية الجنوبية لدمشق، في أبريل (نيسان) 2013، حيث تم القبض على مجموعات من المدنيين، معصوبي الأعين، مقيدي الأيدي، وساروا نحو حفرة الإعدام غير مدركين أنهم على وشك أن يُقتلوا بالرصاص. 

لقي ما لا يقل عن 41 رجلاً مصرعهم في هذه المقبرة الجماعية بضاحية التضامن، وهي جبهة قتال في الصراع الدائر بين الزعيم السوري والمتمردين الذين اصطفوا ضده، وسكب القتلة الوقود على جثثهم وأشعلوا فيها النيران، ضاحكين من الجريمة التي جرت على بعد أميال من مقر  بشار الأسد. 

هذه اللقطات المصورة هي "واحدة من أكثر مقاطع الفيديو التي يعاقب عليها القانون الدولي، وهي تعطي القارئ لمحة عن جزء لم يسبق وصفه من الحرب التي استمرت 10 أعوام"، كما يوضح مارتن تشولوف من صحيفة "ذا غارديان". 

الكشف عن الجريمة المروعة يوضح حجم الجهود المضنية لقلب الطاولة على مرتكبيها، بما في ذلك كيفية قيام باحثين في أمستردام بخداع أحد أكثر ضباط الأمن شهرة في سوريا لإفشاء الأسرار الشريرة لحرب الأسد. 

سلّط عمل الباحثين الضوء بشكل غير مسبوق على الجرائم التي كان يُعتقد سابقاً أن نظام الأسد ارتكبها على نطاق واسع في ذروة الحرب السورية، لكنه دائماً ما ينكر أو يلقي باللوم على الجماعات المتمردة والجهاديين. 

الموت يكمن في التفاصيل 

في صباح ربيعي قبل ثلاثة أعوام، سُلّم مجند جديد في ميليشيا سورية موالية جهاز كمبيوتر محمولاً تابعاً لأحد الأجنحة الأمنية لبشار الأسد. فتح الشاشة ونقر بفضول على ملف فيديو، وهي خطوة شجاعة بالنظر إلى العواقب، إذا كان أي شخص قد ضبطه وهو يتطفل. 

كانت اللقطات غير ثابتة في البداية، قبل أن تقترب من حفرة محفورة حديثاً في الأرض بين مبنيين مثقوبين بالرصاص. بينما كان ضابط استخبارات يعرفه يركع بالقرب من حافة الحفرة، مرتدياً بزّة عسكرية وقبعة صيد، ويلوح ببندقية هجومية ويصدر الأوامر. 

جمّد الرعب رجل الميليشيا المبتدئ مع تتابع المشهد، إذ اقتيد رجل معصوب العينين من مرفقه، وطلب منه الركض نحو الحفرة العملاقة التي لم يكُن يعلم أنها تقع أمامه. كما لم يتوقع الرصاص الذي استقر في جسده، بينما كان يسقط على كومة من القتلى تحته. ثم تبعه مزيد من المعتقلين المطمئنين، قيل للبعض منهم إنهم كانوا يركضون من قناص قريب، بينما تعرّض البعض الآخر للسخرية والإيذاء في اللحظات الأخيرة من حياتهم. بدا أن كثيرين منهم يعتقدون أن القتلة كانوا يقودونهم بطريقة ما إلى بر الأمان.

إلى جانب أكوام التراب المكدسة التي ستُستخدم قريباً لإنهاء المهمة، سكب القتلة الوقود على الجثث وأشعلوها. وقد تم ختم تاريخ الفيديو بتاريخ 16 أبريل (نيسان) 2013. 

ساد شعور بالغثيان لدى المجند، الذي قرر على الفور أن اللقطات بحاجة إلى المشاهدة في مكان آخر. قاده هذا القرار، بعد ثلاثة أعوام، إلى رحلة محفوفة بالمخاطر، في واحدة من أحلك اللحظات في تاريخ سوريا الحديث، انتهت بالأمان النسبي في أوروبا. وهي الرحلة التي خاضها معه اثنان من الأكاديميين أمضيا سنوات في محاولة نقل المصدر الرئيس في تحقيق استثنائي إلى بر الأمان، مع تحديد الرجل الذي قاد المذبحة وإقناعه بالاعتراف بدوره. 

قواعد لعبة إرهاب الدولة 

بعد تسعة أعوام، مع احتدام الحرب في أوكرانيا، استعملت القوات الروسية قواعد ترهيب الدولة على السكان المدنيين في سوريا، وتحولت العملية العسكرية الخاصة المزعومة لفلاديمير بوتين إلى احتلال وحشي لأجزاء من شرق البلاد. وكانت وحدات الاستخبارات العسكرية هناك في طليعة الوحشية، بحيث بثت الخوف في المجتمعات من خلال الاعتقالات الجماعية والقتل من النوع الذي اتسمت به محاولات الأسد لاستعادة السلطة. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تدربت الأجهزة الأمنية السورية على يد الضباط السوفيات ومقر جهاز الأمن السري المعروف باسم "الشتاسي" في الستينيات، وتعلمت فن التخويف بشكل جيد. وفي كثير من الأحيان، كان الخوف هو الوسيلة الأكثر فتكاً للتشبث بالسلطة، وقد استخدم النظام كل الوسائل المتاحة لغرسه. في الحال الراهنة، لم يكُن الضحايا من المتمردين بل من المدنيين غير المنحازين لأي من الجانبين وقبلوا حماية الأسد. وشوهد قتلهم على نطاق واسع في "التضامن" على أنه رسالة إلى الضاحية بأكملها مفادها بأن "لا تفكروا في معارضتنا". 

الرحلة الصعبة إلى الحقيقة  

تم تسريب الفيديو أولاً لناشط معارض في فرنسا، ثم للباحثين أنصار شاهود والبروفيسور أوغور أوميت أنغور، من مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية بجامعة أمستردام، وكان على المصدر أن يتغلب على الخوف من القبض عليه وربما قتله. والضيق الناجم عن احتمال طرده من عائلته، وهم أعضاء بارزون في الطائفة العلوية التابعة للأسد، التي تمتلك مقاليد السلطة في ما تبقّى من سوريا. 

سيتعلم المصدر في النهاية أنه حتى مع عمل مئات الأشخاص حول العالم لتقديم الأسد إلى العدالة عن جرائم الحرب، فإن الفيديو سينتهي به الأمر لأن يكون دليلاً بارزاً في القضية المرفوعة ضد الرئيس السوري. 

كانت أنصار من أشد منتقدي الأسد منذ اندلاع الحرب السورية. على الرغم من أن عائلتها حافظت إلى حد كبير على علاقات جيدة مع الأسد، لكن الصراع والانهيار الاقتصادي الذي تلاه أديا إلى توتر التحالفات، ووجدت أنصار نفسها مصممة بشكل متزايد على محاسبة الأسد، بصرف النظر عن الثمن الذي ستدفعه.

انتقلت أنصار إلى بيروت في 2013 ثم إلى أمستردام بعد ذلك بعامين، حيث التقت أوغور في 2016. وقد شاركا في محاولة تأريخ ما يعتقدان أنه إبادة جماعية تُرتكب في سوريا. كان تجميع قصص الناجين وعائلاتهم أحد الطرق للقيام بذلك. وكان التحدث إلى الجناة أنفسهم أمراً آخر. ومع ذلك، كان كسر مدونة "أوميرتا" للنظام مهمة يعتقدان أنها شبه مستحيلة. لكن أنصار كانت لديها خطة، إذ قررت أن تلجأ إلى الإنترنت، وتجد طريقها إلى الحرم الداخلي لمسؤولي أمن النظام من خلال التظاهر بأنها معجبة اعتنقت قضيتهم بالكامل. 

كانت المشكلة أن نظام الأسد تصعب دراسته. قال أوغور، "إنك لا تدخل إلى دمشق فقط، وتلوّح بذراعيك، وتقول ’حسناً، مرحباً، أنا عالم اجتماع من أمستردام، وأود أن أطرح بعض الأسئلة‘". وأضاف، "لقد توصلنا إلى استنتاج مفاده بأننا، في الواقع، نحتاج إلى شخصية، ويجب أن تكون تلك الشخصية امرأة شابة علوية". 

لكن أولاً، احتاجت أنصار وأوغور إلى العثور على الرجل الذي يرتدي قبعة الصيد، واتجهوا إلى الأمر الوحيد الذي اعتقدوا أنه يمكن أن يساعد "الأنا المتغيرة". 

الجواسيس والضباط معاً على "فيسبوك" 

أثبتت أنصار أن جواسيس سوريا وضباط الجيش يميلون إلى استخدام "فيسبوك"، وعلى الرغم من حياتهم العملية السرية، فإنهم كانوا يميلون إلى عدم جعل صفحاتهم خاصة، بل مفتوحة للعموم. وهنا قررت اختيار اسم مستعار، "آنا ش"، وطلبت من صديق مصور التقاط لمحة جذابة لوجهها. ثم حوّلت صفحتها إلى إشادة متوهجة بالأسد وعائلته، وشرعت في محاولة تجنيد الأصدقاء. 

ليلاً ونهاراً على مدى العامين التاليين، بحثت أنصار على "فيسبوك" عن المشتبه فيهم المحتملين. عندما وجدت متلقياً، أخبرته أنها باحثة تدرس النظام السوري من أجل أطروحتها. وفي النهاية، أصبحت جيدة في ذلك. لقد تعلمت الحالة المزاجية للنظام في ذلك الوقت، وعلمت، جنباً إلى جنب مع أوغور، النكات المخصصة ونقاط الحوار التي قد تساعد في اتباع نهج ما. سرعان ما أصبحت "آنا ش" معروفة بين أجهزة الأمن كشخصية متفهمة، وحتى كتف تبكي عليه. 

قال أوغور، "كانوا بحاجة إلى التحدث لشخص ما ومشاركة تجربتهم. شاركنا بعض القصص معهم. لقد استمعنا إلى كل القصص، ولم نركز فقط على جرائمهم". وتابع، "بعض هؤلاء الأشخاص تعلقوا بآنا. وبعضهم بدأ  الاتصال بها في منتصف الليل". 

العودة إلى الواقع وآلة القتل 

على مدى العامين التاليين، عاشت أنصار تتنفس شخصيتها الجديدة. في بعض الأحيان، كانت تفكر في التراجع عما أصبحته، لكن العودة إلى الواقع كانت عادة مفاجئة. فعدد ممن تحدثت إليهم كانوا أعضاءً فاعلين في آلة القتل، والبعض الآخر كان جزءاً من العصابة التي مكّنتهم، ما أثر في صحتها، كما في حياتها الاجتماعية وسلامتها العقلية. وكانت الجائزة تستحق كل هذا العناء، إذا تمكنت من العثور على المسلح في الفيديو، إذ باستطاعتها أن تبدأ بتحقيق العدالة. وربما يمكنها أن تبدأ ما أداره عدد قليل من الآخرين في الصراع الذي دام عقداً من الزمن، أي الربط بشكل قاطع بين الدولة السورية وبعض أسوأ الفظائع في الحرب. 

لحظة الاعتراف 

في مارس (آذار) 2021، وصل الاختراق أخيراً. وكان متابعو "آنا ش" على "فيسبوك" قد حصلوا بحلول ذلك الوقت على ثقة أكثر من 500 من أكثر المسؤولين تفانياً في النظام. ومن بين صور أصدقائها، برز وجه مميز أطلق على نفسه اسم أمجد يوسف، وكان يشبه إلى حد كبير المسلح ذا القبعة الذي أرهقت نفسها في البحث عنه. بعد ذلك بوقت قصير، استوعبت أنصار أو "آنا ش" وجه أمجد، فأصبح من الصعب التمييز بينه والقاتل في الفيديو، وجاء تأكيد من مصدر داخل التضامن بأن القاتل كان رائداً في الفرع 227 من الاستخبارات العسكرية السورية. 

قالت أنصار، "كان الارتياح لا يوصف، لقد كان هناك شخص يحمل مفتاح كل شيء. والآن أنا بحاجة إلى جعله يتحدث". تتذكر جيداً اللحظة التي أرسل فيها أمجد رسالة على "فيسبوك" يطلب صداقتها، والإثارة التي شعرت بها عندما قبلت الفريسة. وبعد كل هذا الوقت، تم ضبط الطعم، وهي الآن بحاجة إلى لفه. ولم تكُن المكالمة الأولى ناجحة، إذ ارتاب فيها أمجد وأنهى المكالمة بسرعة. لكن شيئاً ما في تلك المحادثة الأولية أثار فضوله. أصبح الصياد هو المطارد. هل كان من التشويق التحدث إلى امرأة غريبة، أم هي الحاجة إلى استجواب من تجرأ على الاقتراب منه؟ أم شيء آخر؟ في كل الحالات، عندما أجرى أمجد مكالمة جديدة بعد ثلاثة أشهر، ضغطت أنصار على التسجيل، وردّت "آنا" على المكالمة. 

بعد كل هذه الأعوام، بدا أمجد صارماً في البداية، كأنه جاسوس يتحكم في جميع محادثاته، وبسهولة ينشر الصمت كسلاح. نطق بكلمات قليلة، وعندما تحدث تمتم، مما أجبر مستمعه على بذل جهد كبير لسماعه. بذلت "آنا ش" كل ما في وسعها لنزع سلاح أمجد، مبتسمة بخجل، تضحك وتذعن له وهو يملؤها بالأسئلة، وكل ذلك وفقاً لشروطه. يبدأ وجهه المتجمد تدريجاً بالاسترخاء، فازت "آنا" بالأرض. سألته عن التضامن. 

ثم طرحت سؤالاً غيّر نبرة المحادثة بأكملها، "كيف كان شعور الجوع، وقلّة النوم، والقتال، والقتل، الخوف على والديك، وعلى شعبك. إنها مسؤولية ضخمة، الشخص يتحمل كثيراً على عاتقه". جلس أمجد على كرسيه، وكأنه يقرّ بأن شخصاً ما قد فهم عبئه أخيراً.

منذ ذلك الحين، كان في مقعد الاستجواب. والمحادثة لم تعُد له. حصلت "آنا" على إجابة لكل رد من ردوده، يبنيه، ويريحه، وينفخ غروره. تماماً مثل جينيفر ملفي بالنسبة إلى توني سوبرانو، فقد أصبحت له معالجاً، لوحة وصوت، وامرأة موثوقة يمكنها التعرف إلى عقله من دون إصدار حكم على ما يبدو. 

قالت أنصار، "لا أنكر أنني كنت متحمسة للتحدث إليه، لذلك كنت أبتسم، لأنه رائع أن تتحدث إليه. لكن لمعرفة قصصهم نحتاج إلى إقناعهم بأننا مجرد باحثين، ولذلك ينفتحون. إنها ليست نتيجة مقابلة واحدة، إنها نتاج أربع سنوات من التخفي". وتضيف، "تدريجاً، تعلمت أن أفصل نفسي. لقد خلقت هذه الفتاة ’آنا ش‘ التي تعجب حقاً بأعمالهم. إنها صعبة أو خشنة. بعد أن تغلق الكمبيوتر المحمول، تشعر وكأنها أشياء ثقيلة، لكنها ضرورية، كما أنني أردت أن أراه كإنسان". 

طوال صيف العام الماضي، حاولت أنصار (بشخصية آنا) وأوغور من وراء الشاشة، إقناع أمجد بالتحدث. كان الدخول إلى رأس قاتل أمراً، وجمع معلومات حقيقية حول سبب قيامه بذلك واستخراج الاعترافات أمراً آخر. بحثا في ملفه الشخصي على "فيسبوك" وراء أدلة، وعثروا على صورة لأخ أصغر، وقصائد كتبها أمجد بعد وفاة الأخير في أوائل 2013، وقبل ثلاثة أشهر من مذبحة التضامن. استمرت "آنا" في مضايقته لإجراء مكالمة أخرى، لكنه ظل بعيد المنال. ثم في وقت متقدم من إحدى الليالي في شهر يونيو (حزيران)، اشتعل زر استلام الرسائل، لقد كان أمجد. وهنا جاءت فرصتها لتثبيته. 

"لقد قتلت كثيراً"

كان أمجد أكثر استرخاءً هذه المرة، مرتدياً قميصاً، مع ربما مشروب أو اثنين على طاولته. وكانت الأرضية الآن ملكه، أو هكذا اعتقد، وبدأ بمحادثة قصيرة ه ذه المرة ، محاولاً أن يشعر "آنا" بالخروج. استغلت اللحظة وسألت عن أخيه، فبدأ القاتل والمنفذ المخيف يبكي. تحوّلت "آنا" إلى مدافع، وقالت له إنه يجب عليه البقاء في الجيش على الرغم من خطر إجبار والدته على الحزن لفقدان ابن آخر. رد أمجد، "لقد فعلت ما تريديني القيام به". وهنا جاء أول اعتراف حقيقي لأمجد. قال: "لقد قتلت كثيراً. انتقمت." 

وكأنه يدرك خطورة اللحظة، أغلق أمجد المحادثة وأنهى المكالمة. وخلال الأشهر القليلة التالية، كان من الصعب العثور عليه، ولم يردّ إلا على الدردشة، إذ سأل عن موعد عودة "آنا" إلى سوريا. ومن كانت هذه المرأة التي كانت تحت جلده؟ ومتى ستتاح له الفرصة لاستجوابها على أرضه وشروطه؟ بدأ أمجد بلعب دور الصديق الغيور، يسأل "من هي آنا، وهل تشرب، وأين هي؟". 

في هذه الأثناء، بدأت أنصار تشعر بأن شخصيتها الثانية (أنا ش) قد وصلت إلى أقصى صلاحياتها، وأنهما بحاجة إلى الراحة، لقد تحدثت هذه الشخصية إلى ما يصل إلى 200 مسؤول في النظام، بعضهم جناة مباشرون في جرائم قتل، وآخرون جزء من المجتمع الذي ساعد وحرض على محاولات الأسد الوحشية المتزايدة للتشبث بالسلطة. بدأوا يتحدثون في ما بينهم عن المرأة الغامضة في بريدهم الإلكتروني. 

خلال السنة الماضية، سئمت أنصار من كل هذا التعاطف مع الجناة، الذي بدأ يتسلل إلى روحها، قالت إن "أنصار تستحق أيضاً أن تعيش"، مضيفة، "ثم كان السؤال، أين أنصار؟ ومن تكون الآن؟ تمكّنت آنا من التظاهر بأنها فعلاً الشخصية التي تجسدها وبأنها علوية"، ومتابعة، "أعتقد أن آنا تمادت، فهي لم تعُد هوية رقمية فقط، لذلك قررت إعدام آنا".

وفي صباح بارد من شهر يناير (كانون الثاني) من هذا العام، قام أوغور وأنصار بتعبئة صندوق صغير به نسخة مطبوعة من ملف "آنا" الشخصي على "فيسبوك"، مع سيف استخدمه نظام الأسد كرمز وبعض الحلي، وتوجهوا بالسيارة إلى محمية طبيعية خارج أمستردام. هناك، حفروا حفرة ودفنوا شخصية "آنا"، وكان أوغور الشخص الوحيد الذي يشهد على زوال المحقق الرقمي "آنا ش" الذي كان عملها سيجعل أي جاسوس حقيقي فخوراً. 

قال أوغور إن "علماء النفس والمعالجين سيخبرونك أنه إذا كانت لديك فترة صعبة بشكل خاص، فيمكنك تمييز تلك الفترة بطقوس، لذا فإن طقوس شيء ما يساعدك على التجاوز والمضي قدماً". 

بعدها حان الوقت لكي يبدأ الباحثان بالتركيز على المواد التي جمعاها، ولم يتمكّنا من معالجتها، بينما كانا منغمسين بعمق في الشخصية التي دفناها للتو في الغابة مع دقيقة صمت. قالت أنصار، "أضحك عليها طوال الوقت. نحن دائماً نتذكر آنا." 

لكن كان هناك شيء آخر يتعين عليهما القيام به، وهو مواجهة أمجد بما عرفوه عنه. سأل أوغور أنصار، "إلى متى تريدين الاستمرار في مغازلة ضابط الاستخبارات؟". وأضاف، "أعتقد أن اللحظة التي انفتح فيها على أخيه، وقيامه بالانتقام له كانت أقرب ما يمكن أن تحصل عليه في هذا السياق بالذات." 

عبر "فيسبوك مسينجر"، استخدمت أنصار هويتها الحقيقية هذه المرة بدلاً من "آنا"، بإرسال مقطع فيديو مدته 14 ثانية إلى أمجد. كان سؤاله الأول: "هل هذا أنا الذي يظهر في الفيديو؟ قالت أنصار، "نعم، هذا أنت". قال أمجد: "نعم، أنا. لكن ماذا يقول هذا الفيديو؟ لا شيء. أنا أعتقل شخصاً ما، وهذه وظيفتي". وإدراكاً لعواقب ما عُرض للتو، انتقد أمجد أعضاء جبهة الدفاع الوطني، وهي الميليشيا التي ينتمي إليها المبتدئ الذي سرّب الفيديو. ووصفهم بأنهم بلطجية وقتلة، وأنه ليس مثلهم. ثم توقفت الحيلة، وتقبل أمجد بتحدٍّ ما فعله. وكتب في رسالة، "أنا فخور بما فعلته"، قبل أن يهدد أنصار بقتلها هي وعائلتها. 

لم تردّ أنصار ولا أوغور على أمجد منذ فبراير (شباط)، وحظراه من حساباتهما على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، حاول التواصل مرات عدة. ومن الواضح أنه قلق بشأن ما ينتظره. بدأت محاكمات جرائم الحرب في ألمانيا في كسر درع الإفلات من العقاب الذي يكتنف نظام الأسد في سوريا. ومع ذلك، فإن تلك الجلسات لا تحتوي على الأدلة الدامغة ذاتها كما تم تصويرها في فيديو مذبحة حي التضامن القريب من دمشق. 

وقبل سرد قصة هذه الجريمة، كان على رجل واحد الوصول إلى بر الأمان، هو الشخص الذي سرب الفيديو إلى صديق في فرنسا، حيث بدأت رحلته الخطيرة في وقت ما من الأشهر الستة الماضية. 

هروب المصدر 

إن ترك النظام في سوريا ليس أمراً السهل. وأي شخص يأمل في السفر إلى أجزاء أخرى من المقاطعة، أو إلى الخارج على وجه الخصوص، يواجه عملية استجواب طويلة قبل السماح له بذلك. وعلى الرغم من احتفاظ الأسد بالسلطة، تقلصت المنطقة التي يسيطر عليها، ولدى اثنين من القادة الأقوياء، إيران وروسيا، حق النقض ضد عدد من قرارات الدولة، فيما تحتفظ جماعات المعارضة بالسيطرة على الشمال الغربي، والأكراد لهم رعايا في الشمال الشرقي. واليوم لا تزال سوريا محطمة وغير قابلة للتسوية. وحتى أفراد الأسرة يمكن أن يُشتبه في أنهم خونة. 

هكذا كان الأمر عندما انطلق مسرب الفيديو الشاب من العاصمة السورية إلى حلب في الأشهر الستة الماضية في المحطة الأولى برحلة كانت ستأخذه إلى الشمال، الذي تسيطر عليه المعارضة، ثم إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. 

وكانت الرحلة إلى حلب متوترة. لقد سُمح له بالمغادرة، لكن هل ستلحقه وحدات الاستخبارات المرعبة قبل أن يتجاوز براثنهم؟ على مشارف حلب الشمالية، حصل عقيد من الفرقة الرابعة في الجيش السوري على رشوة بقيمة 1500 دولار مقابل السماح للرجل بعبور المنطقة الحرام الفاصلة بين الجانبين. تأخرت الرحلة يوماً واحداً، فتم تجهيز شحنة الكبتاغون من قبل الفرقة الرابعة لعبور الطريق ذاته. بعد فترة وجيزة، شقت شاحنة تحمل عشرات الكيلوغرامات من المنشطات، صنعها ووزعها النظام وصدرت عبر الشرق الأوسط، طريقها إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة. 

وسرعان ما تبعها عبور المصدر. وبعد أسابيع عدة، التقى أنصار في تركيا، حيث تم سد الثغرات في قصة حي التضامن على مدى أسابيع من المناقشات، وترتيب الملاحظات الخاصة بملاحقة جرائم الحرب بشكل مطّرد. 

أول محاكمة في ألمانيا 

في فبراير، سلّم أوغور وأنصار مقاطع الفيديو وملاحظاتهما التي تتكون من آلاف الساعات من المقابلات، إلى المدعين العامين في هولندا وألمانيا وفرنسا. في الشهر ذاته، جاءت أول محاكمة على الإطلاق في ألمانيا لمسؤول آخر في الاستخبارات العسكرية السورية، هو أنور رسلان، لدوره في الإشراف على مقتل ما لا يقل عن 27 سجيناً وتعذيب ما لا يقل عن 4000 آخرين. وأدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وسُجن مدى الحياة. 

ولا تزال أنصار بعيدة من عائلتها، وهي ليست الشخص نفسه الذي كانت عليه قبل أن تبدأ هذا المشروع. تعلّق، "لكن الأمر كان يستحق ذلك. لقد كان الأمر مرهقاً، لكنني آمل أن يساعد عملنا في تحقيق العدالة". 

حي التضامن القريب من دمشق هو اليوم جزء صاخب من العاصمة، ويبدو أن الحرب لم تُظلم أبوابه أبداً، فتمت تغطية كثير من الأضرار والفظائع من خلال المباني أو مواقف السيارات أو أكوام من حطام السفن ونوافير الصراع. في حين لا تزال أنصار وأوغور مقتنعين بحدوث مذابح عدة هناك، وقد تم جمع مواقع وأسماء أولئك الذين فُقدوا في الصراع الوحشي للسيطرة على الضاحية. 

قال أوغور، "السكان المحليون يلومون النظام". يعرفون من قتل أحباءهم. الغريب أن القتلى في هذا الفيديو ليسوا منشقين، بل كانوا في صف النظام. يمكنك أن ترى أنهم لا يعانون سوء التغذية. هم جاؤوا مباشرة من نقاط التفتيش، وليس من زنزانات. وقُتلوا كتحذير بعدم التفكير في عبور الجوانب. أسرهم تستحق العدالة". 

وقالت أنصار، "أنا سعيده بقراري. في بعض الأحيان، يريد الناس فقط القيام بالأمر الصحيح. إذا كنت قد تعلمت أي شيء من هذا، فهو أن الخير موجود في الناس. هذه الحقيقة لا تزال ترى النور في النهاية". 

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير