Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تي شيرت وسيلفي و"قوة هشة"... عندما تصبح الصورة أكبر من الزعيم

يؤدي زيلينسكي دوراً أبعد ما يكون عن المنطق لكنه أصبح "أيقونة" في تشكيل "براند الحرب"

ينهي زيلينسكي المسافة بينه وجمهوره ليبدو ببساطة كبقية المواطنين الذين انتخبوه (رويترز)

صوت جهوري يدق على المنصة، شبح ابتسامة، نكتة، غمزة، تحلل من ربطة عنق، حذاء رياضي، نبرة هادئة تعقبها صيحة حادة، لكل زعيم صورة مرسومة. جانب منها صنعته الطبيعة والسمات الشخصية، والآخر، وهو الأكبر في الغالب، يتم رسمه بعناية فائقة، حيث اللمحة لها معنى، والحركة ذات مغزى، والنبرة تعني الكثير، والـ "براند" يصنع الفارق.

صورة القائد أداة رئيسة في الحكم. قد تصنع مجده، وقد تكسر رقبته. وصناعة صورة القائد قديمة قدم التاريخ، لكنها في العصر الرقمي، وفي زمن هيمنة منصات التواصل الاجتماعي، اكتسبت أهمية استراتيجية غير مسبوقة، وأصبحت الصورة أحياناً أكبر من الزعيم نفسه.

صورة الزعيم

في أوقات السلم، وسيادة الأزمات العادية، من اقتصاد وتأمين صحي وتعليم وبنى تحتية وخدمات وغيرها، تكون مواكبة صورة الزعيم المستمرة لما يجري في بلده أمراً محورياً، حيث الابتسام وقت الإعلان عن زيادة أسعار الوقود قد تعني خسارة فادحة في الانتخابات المقبلة، ومواساة ودمعتان تسيلان على الخدين قد ينجم عنهما نصر مبين.

حتى عهد قريب مضى، كانت صورة القائد تمثالاً وعملة معدنية ولوحة إعلانية ومنحوتة جدارية وطابعاً بريدياً. واليوم، أصبح الزعيم يأوي إلى الفراش مع المواطن، يتناول معه قهوة الصباح، ويصطحبه إلى العمل، ويقضي معه عطلته، لأنه موجود على الشاشات المتصلة بالإنترنت.

صورة الزعيم ليست حكراً على أنظمة شمولية، بل هي سمة الزعماء في كل مكان. جاء في كتاب "البورتريه السياسي: القيادة، والصورة، والسلطة" (2020) أن صورة الزعيم تهيمن بشكل متزايد على الاتصال السياسي في الدول الديمقراطية، لإضفاء طابع شخصي على الحملات السياسية وفترات الحك.

"براند" الحرب

وإذا كانت صناعة صورة الزعيم ضرورة في الأوقات العادية، فإنها تصبح مسألة حياة أو موت في أوقات الكوارث والمصائب والحروب، لا سيما في عصر باتت فيه الصورة العنكبوتية حاكمة، وجانب من مصائر الأوطان قيد دقة زر، فإنه في أوقات الكوارث والأزمات والحروب، تصبح صورة الزعيم مسألة حياة أو موت، لا لمستقبله السياسي بل ولشعبه بأكمله. وعلى الرغم من وفرة الحروب والكوارث في التاريخ المعاصر، فإن حرب روسيا وأوكرانيا قدمت للعالم نموذجاً فريداً وغير مسبوق من صناعة صورة الزعيم. ويمكن القول إنه جرى عمل "براندينغ" Branding أو "تميز منتج" كامل للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والحرب الدائرة في بلاده، باحتراف شديد يبدو كأنه طبيعي تماماً وغارق في البساطة لكنه مصنوع بحرفية عالية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أعلى مبيعات تحققها خطوط إنتاج التي شيرتات القطنية بلونها الزيتوني هذه الأيام. إنها الـ "تي شيرت" الأيقونية التي لا يرتدي زيلينسكي سواها منذ بدء الحرب الروسية في بلاده. الـ "تي شيرت" التي تحمل كذلك شعار القوات المسلحة الأوكرانية تحولت بعد بضعة أيام من ظهوره المتكرر بها، إلى قوائم المنتجات الأكبر طلباً على تطبيقات البيع "أون لاين"، وبينها "أمازون" و"إي باي".

لكن المسألة أبعد كثيراً من مجرد "تي شيرت"، فالرسائل بعضها واضح وصريح، وبعضها الآخر مبطن، وإن أثبت قدرة على رسم صورة ذهنية ونفسية لدى ملايين البشر. فهو لم يعد رئيس جمهورية مرتبطاً بأكواد ملابس وبروتوكولات بعينها في الظهور الإعلامي واللقاءات الدولية والأممية، بل صار بهذه الـ "تي شيرت" التي لا تحمل تمساحاً يشي بسعرها، أو لاعبي "بولو" يتنافسان في رياضة مخملية، أيقونة رجل يقول للعالم إنه يحارب.

أحتاج ذخيرة لا رحلة

تهافت كثيرون على طباعة شعارات تأييد لأوكرنيا، أو تحمل علمها، أو عليها عبارات تهديد لروسيا، لتحقيق مكاسب سريعة، بينما الحرب مستمرة. ذهب البعض لطباعة عبارة "أحتاج ذخيرة وليس رحلة" وهي العبارة المنسوبة لزيلينسكي على الرغم من عدم التأكد من تفوهه بها فعلياً في أعقاب العرض الأميركي له بإجلائه من أوكرانيا.

العبارة والـ "تي شيرت" والرئيس باتوا "براند" قائماً بذاته لهذه الحرب، لكن رسائل الـ "تي شيرت" لم تتوقف عند حد المبيعات، بل امتدت وما زالت إلى أفراد الجيش الأوكراني الذي وصلته الرسالة من رئيسه مسجلة بعلم الوصول، "أنا جزء منكم ومعكم على خطوط الحرب الأمامية".

الرسالة عابرة الحدود وصلت إلى قادة العالم الذين يلتقيهم عبر تطبيقات الاتصال المرئية على الإنترنت بـ "التي شيرت" نفسها، والمؤكد كذلك أنها وصلت إلى غريمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي ما زال يرتدي بذلاته الكلاسيكية الأنيقة أو الرياضية المنمقة. "تي شيرت" زيلينسكي بات يرمز لـ "التحدي الأوكراني" القوي ببساطته للدب الروسي العاتي بآلة حربه.

وتستمر عملية الـ "براندينغ" لتخدمها صور ومقاطع فيديو السلفي التي كان زيلينسكي يلتقطها بنفسه في شوارع كييف أيام الحرب الأولى، مرتدياً ومن حوله الـ "تي شيرت" الأيقوني. زاوية الوجه غير المحترفة التي تظهر في لقطات السلفي على خلفية مبان مدمرة يكاد المتابع يشم فيها رائحة الموت، أو في شارع يكتنفه الظلام فتتسلل قشعريرة السواد إلى المتلقي.

تكتمل الصورة المرسومة والرسالة المرجوة عبر الكلمات الحماسية المقتضبة التي يتفوه بها، فلا يملك المتابع إلا أن يتأرجح بين البكاء على حال الرئيس وحال أوكرانيا وحال هذا الشعب، أو حمل السلاح والانضمام لصفوف المقاومة الأوكرانية، ولو عبر "فيلق الأجانب".

مهارات تمثيلية

البعض يلمّح بأن زيلينسكي ربما يستخدم مهاراته الفنية والتمثيلية، باعتباره ممثلاً كوميدياً ومنتجاً يمتلك أدوات الصورة عبر الشاشة، في صياغة وضع أوكرانيا في هذه الحرب أمام العالم.

هذه الفيديوهات أسهمت بقدر كبير أيضاً في صياغة "براند" الحرب في أوكرانيا، لا سيما في رسالة مبطنة للغرب بدوله وتكتلاته العسكرية والاقتصادية، والذي بح صوت زيلينسكي مناشداً إياه التدخل لإنقاذ بلاده وشعبه، متسائلاً عن سر التردد ولغز الحرج وماهية التعسر والتعثر.

وعلى الرغم من ذلك فإن الحوارات واللقاءات التي أجراها الرئيس الأوكراني على مدى الأيام القليلة الماضية مع عدد من وسائل الإعلام الغربية في مكان إقامته بكييف، أسهمت هي الأخرى في وضع مزيد من الرتوش على صورة الزعيم الأوكراني في الحرب. كواليس اللقاءات أحياناً تكون أهم وأعمق أثراً من اللقاءات نفسها.

مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) كلايف مايري أجرى حواراً مهماً مع زيلينسكي في كييف قبل أيام، لكن على هامش أهمية الحوار والحديث عن الحرب والمقاومة و"جرائم الحرب" الروسية وموقف أوكرانيا من الغرب وغيرها، يقفز ما رواه مايري عن كواليس الحوار، لتصبح في بؤرة الضوء. يقول إن أحدهم سلم زيلينسكي هاتفاً محمولاً عليه رسالة من فرنسا. سأل زيلينسكي حارسه، "هل الرسالة من إيمانويل؟" فأجاب الحارس بنعم. فما كان من الرئيس الأوكراني إلا أن استأذن مراسل "بي بي سي" إن كان يمكنه أن يتصل بـ "إيمانويل" (ماكرون) سريعاً أم لا.

ويستمر زيلينسكي في رسم الصورة، أو في الخضوع للصورة المرسومة، سواء كانت صورة معدة سلفاً، أو هبة من السماء، ومعه "براند" حرب روسيا في أوكرانيا من ألفها وفي انتظار يائها.

تحت عنوان "الصناعة المسرحية المروعة لفيديوهات السيلفي التي يلتقطها زيلينسكي"، قالت الكاتبة ميغان غاربر في مجلة "ذو أتلانتيك" الأميركية، إن الفيديوهات الأولى، التي صورها الرئيس الأوكراني لنفسه في شوارع كييف، كانت بمثابة إشهار، أمام شعبه والعالم، لاختياره أن يكون معرضاً للكسر مثلهم، إنه واحد منهم، إنه باق معهم.

وتحلل غاربر فيديوهات زيلينسكي السلفي بقولها، "تراه ممسكاً بالهاتف المحمول، ينظر مباشرة إلى العدسة، يتحدث مع المشاهد وليس إليه. يبدو أنه ينهي المسافة بينه وبين جمهوره. يبدو منهكاً. يبدو غاضباً. لكنه لا يبدو مهزوماً. ببساطة، يبدو كبقية الناخبين الذين انتخبوه".

تنص قواعد بناء الصورة للزعيم أو الحزب السياسي على التالي: ابتكر "لوغو" خاصاً يعكس القيم الأساسية التي تود توصيلها، تحدث في مناسبات أمام الجمهور مباشرة، قدم رسالة محددة مقتضبة يسهل فهمها، استخدم تقنيات الـ "لايف" في الـ "سوشيال ميديا"، قم بتوصيل رسالتك إلى الجمهور المستهدف بطرق مختلفة، مع الحفاظ على اتساق الرسالة.

هذا ما يفعله الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، منذ الـ 24 من فبراير (شباط) الماضي، كل يوم كلما أمكن، وكلما أطل على العالم أو على منصات التواصل الاجتماعي، وهو عبر هذه الإطلالات رسخ أقدامه ورسم صورته ووصنع "براند" خاصاً به وبحرب بلاده.

صحيفة "واشنطن بوست" أشارت إلى أن زيلينسكي يستخدم سلاح "الغضب الأخلاقي" في حديثه ومناشداته للعالم، لكن أغلب الظن أن الحرب المفاجئة والوضع الكارثي المتفجر في لحظات أظهرا الجوانب الخفية من شخصية الرئيس الأوكراني والتي امتزجت جيداً بالصورة المراد رسمها له وللحرب. ظهوره متقضب لكن مفعم بالعواطف. رسائله لا تعمد إلى اللف والدوران بل يلجأ للحقيقة الصادمة أحياناً لدرجة أن البعض شبهه بالطفل الذي يتحدث بما يدور في خلده، فلا تستطيع معاقبته أو الغضب منه، لأنه لم يتعلم الالتواء بعد.

يبدو أن الشعب الأوكراني والعالم الغربي والرأي العام وربما زيلينسكي نفسه أعادوا اكتشاف الرئيس الأوكراني الذي يقوم بدور أبعد ما يكون عن المتوقع أو المنطقي أو المنتظر، لكن ما يهم أنه أصبح دوراً أيقونياً، ودرساً يدرس في كيفية صناعة الصورة السياسية وتكوين "براند" الحرب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات