Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دفاتر مالت" لريلكه تجمع أنواعا أدبية تحت شعار الترحال والألم

نحو التماهي المطلق بين الكاتب وبطله الملتقط في لحظات بؤسه

راينر ماريا ريلكه (1875 – 1926) (موقع غيتي)

إنه يأخذ بيدنا في حلم طفولة انقضت في قصر يقع على ضفاف بحر البلطيق، قصر يتجول بنا فيه بلباقته المنتمية إلى أزمان أخرى. فيرينا الأواني الزجاجية المصنوعة في بوهيميا، والكتب النادرة والزهور فيما يستبد بنا الخوف من أن تؤدي حركة نقوم بها إلى تدمير القوقعة التي تنغلق علينا حتى اللحظة التي ندرك فيها أن ثمة عاصفة تسكن هذا العالم، وأن "دفاتر مالت لوريدس بريغى" ما هو سوى كتاب الآلام. كتاب تلعب فيه باريس دوراً كبيراً، إذ إن اكتشاف هذه المدينة هو ما يحرر لدى ريلكه، بعنف يمزق أحياناً، دفق الذكريات وضروب المعاناة".

بمثل هذه العبارات قدم الكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل للآداب قبل سنوات قليلة الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب الذي يعتبر واحداً من أشهر مؤلفات إريك ماريا ريلكه، بل واحداً من كتبه الأكثر إثارة للأسئلة. فهل هو رواية؟

بالتأكيد يمكن اعتباره كذلك على الرغم من افتقاره لكثير من عناصر العمل الروائي. وهل هو كتاب ذكريات؟ نعم إلى حد ما حتى وإن كان يُضن علينا بمعرفة من هو صاحب هذه الذكريات. وهل هو سيرة ذاتية؟ ولكن من هو صاحبها؟ وهل هو كاتبها نفسه أم كتبها عنه شخص يعرفه؟ وهل نحن في صدد نوع خاص من أدب الرحلات؟ أم أمام نوع خاص من الكتب التعليمية التي تصف مسيرة كائن ما نحو البلوغ والحياة؟

تأمل ميتافيزيقي

الحقيقة أن هذا الكتاب الذي لا يتجاوز عدد صفحاته الـ 180 صفحة فيه شيء من ذلك كله، ناهيك عن أنه في صفحاته الأخيرة يكاد يكون كتاباً في التأمل الميتافيزيقي وسرداً لبحث صاحب العلاقة عن الله وسط حضارة تنحو إلى نكران وجوده، وعثوره عليه، وربما كما فعل صاحب "المنقذ من الضلال" في التراث العربي – الإسلامي. وفي نهاية الأمر لا بد لنا من أن نختصر ذلك كله بالقول إننا أمام كتاب نثري له القوة الشاعرية التي دائماً ما ميزت كتابات ريلكه، كما قوة الأفكار التي تمكنت دائماً من أن تطل من خلال أشعاره. وعلى هذا لا بد لهذا الكتاب من أن يقرأ على حدة ولكن ضمن قراءة أكثر اتساعاً لأدب ريلكه ككل، بل لا بد له من أن يقرأ من دون أية أوهام في قسميه كملاحظات تنتمي إلى اليوميات الخاصة التي يكتبها المبدع لنفسه، وهو يحاول أن يكتب شيئاً آخر يريده أن يكون أكثر اتساعاً، لكنه في لحظة ما يكتشف أنه قد كتب بالفعل ما كان يريد أن يمهد له، ومن هنا سيكون من الضروري أن يفهم القارئ منذ البداية أن مالت لوريدس بريغى، الذي "نتطفل" هنا هلى يومياته إنما هو الأنا – الآخر لريلكه نفسه، حتى وإن كان هذا الأخير قد جعل من "بطله" دنمركياً وسليل عائلة نبيلة عاش تربية مرفهة على الرغم من الانهيار الذي دمر ثروة العائلة ومكانتها، انهيار لم يمنع مالت من أن يتزود منذ صباه بثقافة رفيعة. وفي يقيننا أن تأمل الكاتب للحياة التي يعيشها "بطله" هذا، إنما هو تأمل في تاريخ ذاته وكأنه جعل من ذلك الآخر مرآة له، شوهها وطلاها بالألوان إلى درجة خيل إليه هو نفسه أن الآخر بات آخراً تماماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضياع وبؤس في باريس

وفي هذا المجال يلتقط الكتاب منذ بداياته مالت وهو يحاول الهرب من وحدته وبؤسه وانسداد الآفاق في وجهه مرتحلاً إلى باريس، ولكن هل ستراه سيجد حلولاً في العاصمة الفرنسية لوحدته وبؤسه وافتقاره إلى الحنان؟ هل تراه سيتحمل فيها تخلي كل معارفه عنه مكتفياً بالبحث عن إلهه؟ في سبيل العثور على إجابات حول أسئلته هذه يغوص مالت مريضاً وجائعاً وهو سجين غرفته الباريسية لا يكاد يبرحها، يغوص في استعادته ماضيه باحثاً عن لحظات حنان في ذلك الماضي يود لو يجدها كي يتمسك بها، فإن لم يجد ينتقل إلى أحلامه محاولاً أن يتذكر منها ما من شأنه أن يضيء له دربه، وينجيه من الخوف الذي يتربص به في كل ثانية وزاوية. بل لربما يساعده على أن يستعيد ولو في مخيلته التي يبدو أنها هي كل ما تبقى له، كل تلك الكائنات التي اعتاد فقدانها في ذلك الماضي الذي بالكاد يمكنه أن يتذكر الآن حقاً كيف عاشه ولماذا عاشه. ولعل الملاحظة الجديرة بالانتباه هنا هي أن ريلكه يكاد هنا يسير في التذكر والتعلق به، على خطى معاصره الفرنسي مارسيل بروست في "البحث عن الزمن الضائع"، مع حفظ الفوارق في الحجم والأسلوب واللغة بين العملين، ولكن فيما نعرف أن تجربة بروست تنبع من الذكاء المطلق ومن الوعي الذي يحرك قلم هذا الأخير ودوافع شخصياته، يمكننا القول بكل بساطة إن ما يحرك هذا لدى ريلكه إنما هو الوعي الباطني، بحيث أن أي حد أدنى من الإثارة يمكنه أن يحرك لديه تماسه غير المقصود مع كل الأفكار والأشياء التي سيضطر إلى التعايش معها، ولو بحثاً عن المطلق الذي لن ندرك إلا في الصفحات الأخيرة من الكتاب، وهي صفحات تأملية خالصة كما أشرنا، أنه سيصل إليه عبر لاوعيه الذي يتحول لديه عند ذاك فقط إلى وعي لا يقل عن وعي بروست بعلاقته بالزمن، إنما باستخدام لغة بالغة التكثيف في مقابل لغة بروست المنفلشة ومقابل بحث بروست الواعي عن الزمن.

بروست أم سيلين؟

وفي السياق ذاته، لا بد هنا من التوقف عند ميزة تسم "دفاتر" ريلكه هذه، وربما نبدو عاجزين عن العثور على ما يماثلها لدى بروست، ما يحيلنا بالتأكيد هنا إلى لوي فردينان سيلين ولا سيما في كتابيه الماقبل نازيين، "سفر إلى آخر الليل" و"الموت بالتقسيط"، فسيلين فقط يمكنه أن يزعم أنه مساو لريلكه في تحليله العميق والذكي للألم، وهو أمر يجعلنا نرى في ريلكه وسيلين معاً، الكاتبين الأكثر قدرة على إيصال اللغة لدى كل واحد منهما من ناحيته إلى أقصى درجات إدراك، أن الخوف الميتافيزيقي هو العنصر الفاعل الكامن في خلفية القدر الأكبر من  المشاعر البشرية. بل لعل في إمكاننا هنا أن نوافق أولئك النقاد المعاصرين لريكه من الذين رأوا في "الدفاتر" مزيداً من السعي لدى هذا الكاتب إلى تصوير كيف أن في مقدوره أن يلاحق في شارع ما في مقهى ما وفي مدينة ما بالكاد يعرفها، شخصاً يراه صدفة ولا يعرف عنه شيئاً، لكنه لا يلبث أن يحاول الغوص في أفكاره وحياته إلى حد التماهي معه تماماً ما يحول كلاً من الكاتب والشخصية إلى أناتين مندمجتين متماهيتين كلياً، ولعل من شأن هذا أن يذكرنا بالكاتب الأرجنتيني الذي عاش معظم سنواته الأخيرة في باريس وكتب فيها معظم قصصه، لا سيما منها تلك القصص القصيرة التي تقوم على مبدأ التماهي المطلق بين ما هو واقعي وما هو متخيل (كما الحال في قصته "ابن العذراء" التي حولها السينمائي الإيطالي أنطونيوني إلى فيلم إنجليزي في سنوات الـ 60 هو "بلو آب").

مفاتيح لفهم شاعر

ومن البديهي أن هذا الاستخدام للغة أكان واعياً أو غير واع في "دفاتر مالت لوريدس بريغي" التي صدرت للمرة الأولى العام 1910 في لايبزيغ الألمانية، هو ما خلق من حول هذا الكتاب المكثف كل تلك الأسئلة التي طرحناها بصدده أول هذا الكلام، وليس صدفة في هذا السياق أن يتوسط هذا الكتاب المسار المهني لراينر ماريا ريلكه (1875 – 1926)، وأن يصبح بسرعة ليس فقط الأشهر بين كتب هذا الشاعر والكاتب الذي كان يعيش زمن انهيار الإمبراطورية الأسترو- هنغارية التي كان من رعاياها، بل كذلك مفتاحاً أساساً لفهم بقية أعماله الشعرية والنثرية التي لم تكن سهلة الفهم على أية حال، ومنها طبعاً نص آخر بالغ الشهرة له هو "رسالة إلى شاعر شاب"، إضافة إلى "قصص من براغ" علماً أن براغ هي مسقط رأس ريلكه إسة بمجايله كافكا الذي كتب مثله بالألمانية.

المزيد من ثقافة