لم يكن السينمائي المصري من أصول لبنانية – شامية، هنري بركات، قادراً على إخفاء ألمه خلال الأشهر الأخيرة من حياته أمام موجة هجوم تعرض له في مصر، البلد الذي أحبّه، وأمضى جل حياته فيه، وقدم له عدداً من أروع الأفلام السينمائية التي لو لم نذكر منها سوى "الحرام" و"دعاء الكروان"، وحتى "في بيتنا رجل"، لذكرنا بكم كان هذا المبدع ليس فقط سينمائياً كبيراً، بل كذلك مصرياً كبيراً. ومع ذلك تركز الهجوم على كونه "أجنبياً"، وكثر الذين راحوا يستخدمون لوصفه لقب "الخواجة هنري"، وهو لقب شتائمي في مثل تلك الأحوال. وحسبنا أن نذكر هنا أن اثنين على الأقل من بين هذه الأفلام الثلاثة اعتبرت دائماً، ومن قبل النقاد والسينمائيين المصريين في مقدمة أهم عشرين فيلماً في تاريخ سينما وادي النيل، بينما اعتبر الثالث بين أعظم نتاجات السينما الوطنية في المحروسة. والأفلام الثلاثة مقتبسة كما نعرف عن روايات لثلاثة من كبار أدباء مصر: "الحرام" عن يوسف إدريس، و"دعاء الكروان" عن طه حسين، و"في بيتنا رجل" عن تلك التي تعتبر من أفضل روايات إحسان عبد القدوس... "ويقولون عني إنني خواجة وأجنبي؟"، كان بركات يسأل والدموع تكاد تفر من عينيه وهو على عتبة أيامه الأخيرة في مثل هذه الأيام تحديداً من عام 1997.
تعاطٍ جدّي مع الفن
مهما يكن، فلنختم هنا الحديث عن هذه المسألة متذكرين أن السينما المصرية نفسها، وفي شخص الناقد الكبير الراحل سمير فريد، عرفت كيف ترد على تلك الألسنة بتكريم كبير أقيم لبركات، إنما بعد رحيله، خلال انعقاد دورة عام 2014 من مهرجان القاهرة، وكانت واحدة من أهم دورات ذلك المهرجان فيما كان المعرض نفسه واحداً من أبرز نشاطاتها. ونعود إلى الفنان بركات نفسه. فنلاحظ من فورنا ثلاثة أمور أساسية تستوقف المرء في مسيرته السينمائية إلى المرارة التي شعر بها خلال الأعوام الأخيرة من حياته، وتحديداً خلال الفترة التي توقف فيها عن الإنتاج، وتواكبت مع تلك الحملة التي شنها عليه صحافيون أخذوا عليه انتماءه الديني وكونه من أصل غير مصري، هو الذي وُلد في مصر وعاش فيها وحقق بعض أهم الأفلام التي عبرت عن حياتها وحياة أهلها. وإذا اعتبرنا أن هنري بركات يكاد يتفرد بين المخرجين المصريين بكونه الأكثر تعبيراً، في فيلمين على الأقل من أفلامه، عن حياة الريف المصرية، يدهشنا ذلك الموقف ويشعرنا بالمرارة التي أحس بها بركات يوم كان على أعتاب شيخوخته، في عمر يقدم فيه لأمثاله كل تكريم كواحد من معالم الحياة الوطنية. أما أولى الملاحظات فيما يتعلق بالجانب الإيجابي فعلاقته الفنية طويلة الأمد بسيدة الشاشة المصرية فاتن حمامة التي لعبت الدور الأساسي في أكثر من عشرين فيلماً من أفلامه التي يصل عددها إلى مئة فيلم، وثانيها أنه اعتبر واحداً من أهم السينمائيين العرب الذين عبروا عن قضية المرأة المصرية في شكل خاص، والمرأة في شكل عام، من خلال أفلام أعطت المرأة الدور الرئيس في حكايته، بحيث إنه في هذا المجال يكاد يقارن بالأميركي جورج كيوكر، والياباني كنجي ميزوغوشي، أما الأمر الثالث فكان تعاطيه مع الفن السابع تعاطياً جدياً حتى في أفلامه الأقل جدّية، وكانت كثيرة على أية حال.
أما الفيلمان الأولان اللذان نعنيهما هنا، فهما بالطبع "الحرام"، و"دعاء الكروان". والفيلمان - وليس الأمر مصادفة بالطبع - هما من بطولة فاتن حمامة، ويقفان بقوة - متفاوتة الدلالة على أية حال - إلى جانب المرأة ضد ظلم المجتمع لها، وعدم فهمه دوافعها وتصرفاتها. ولقد قيل دائماً إن هنري بركات لو لم يحقق غير "الحرام" و"دعاء الكروان" لكان له في ذلك كل المجد، لكن بركات حقق غيرهما، وحقق عدداً لا بأس به من أفلام كبيرة جعلت اسمه يرد دائماً إلى جانب كبار الكبار في تاريخ السينما المصرية المخرجين المصريين الذين يتعامل معهم النقد بوصفهم كبار ومنهم إلى جانب هنري بركات، الراحلون يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وكمال الشيخ، وتوفيق صالح، هؤلاء الذين يشكلون التيار الذي مهد لانبعاث السينما العربية الجديدة.
... وأفلام لكسب العيش
صحيح أن أفلام هنري بركات ليست كلها بالجودة والمكانة التي كان بالإمكان توقعهما منه، لكن الرجل له في رصيده من الأفلام الجيدة ما يغطي، بالطبع، على أفلامه الأقل جودة، والتي كان يحققها لمجرد كسب العيش، هو الذي كان يقول إن الإخراج السينمائي مهنته الوحيدة التي يعيش منها، لذلك لا يمكنه أن ينتظر دائماً مشاريع جدية ترضي النقاد والنخبة. ومن هنا فإن الذي حقق "الحرام" هو هو الذي حقق "العسكري شبراوي"، و"نوارة والوحش"، ونحو دزينتين من أفلام لا أهمية كبرة لها على الإطلاق، بيد أن تاريخ الفن السينمائي، إذ ينسى تلك "الأعمال" سيظل يذكر أفلاماً مثل "الخيط الرفيع"، و"الحب الضائع"، و"سفر برلك"، و"بنت الحارس" (والأخيران في لبنان من بطولة فيروز) و"شيء في حياتي"، و"الباب المفتوح"، وطبعاً "في بيتنا رجل"، و"حسن ونعيمة"... إلخ. تماماً كما أن تاريخ الأفلام الغنائية سيذكر من بين إنتاجات هنري بركات، أجمل أفلام فريد الأطرش، مثل "ماتقولش لحد"، و"يوم بلا غد"، و"لحن الخلود"، علماً بأن في مقدورنا دائماً أن نضيف إلى فيلمي بركات الرئيسين "الحرام"، و"دعاء الكروان"، وكما إلى جانب "في بيتنا رجل"، هناك فيلمان له أقل جودة قليلاً وإن كانا قد آثاراً الضجة من حوله في سنوات نشاطه الأخيرة: "أفواه وأرانب"، و"ليلة القبض على فاطمة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المرأة وموقع الصدارة
ولد هنري بركات في القاهرة في عام 1914. وفي القاهرة نفسها تلقى دراسته الثانوية والجامعية، حيث تخرج بإجازة في الحقوق، لكنه سرعان ما قرر أن يتجه للعمل الفني، فكان أول لقاء له مع السينما حين شارك أخاه في إنتاج فيلم "السيد عنتر" من إخراج استيفان روستي، وكان ذلك في عام 1935 بعد ذلك كانت رحلته إلى باريس، حيث شاهد أكبر عدد ممكن من الأفلام، وعاد منها وقد اقتنع بأن السينما ستكون مهنته، والإخراج تخصصه، لذلك قرر القيام بخطوات ضرورية متتالية، فتدرب على التوليف في فيلم "انتصار الشباب" من إخراج أحمد بدرخان، ثم عمل مساعد إخراج مع أحمد جلال وحسين فوزي وأحمد كامل مرسي. وما إن حل عام1941 حتى بدأ يخوض مغامرة الإخراج بفيلمه الأول "الشريد". ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن العمل السينمائي، مقدماً أفلاماً مقتبسة في معظم الأحيان من أعمال أدبية اجتماعية، وهو الذي كان فيلمه الأول مقتبساً من قصة لأنطون تشيخوف.
ولئن كان بركات قد بدأ مع "الشريد"، فإنه انهى حياته السينمائية مع فيلم "تحقيق مع مواطنة" الذي اعتزل بعده العمل السينمائي، إثر خلاف مع منتجه أوقعه هو الآخر في مرارة، ظلت ترافقه حتى أيامه الأخيرة، لكنها سرعان ما تبدت ثانوية الأهمية حين راحت أقلام صحافية تهاجمه لأسباب لم تقنع أحداً منغصة عليه وعلى محبيه من السينمائيين والنقاد، عيشه، كما أفسدت عليه دعة حياته التي كان كثر يرون أنه إنما أنفقها عاملاً في سبيل سينما مصرية لا تزال حتى اليوم تفخر ببعض أفلامه، ولا سيما منها تلك التي حققها في مرحلة القطاع العام – التي، للمناسبة أعطت الثقافة المصرية أعظم مبدعاتها في السينما وفي غير السينما - وأتت في بعض أفضل ما أنتجته مقتبسة عن أعمال روائية مصرية كبيرة، كما غاصت في واقعية اجتماعية تصر على أن يكون للمرأة مكان الصدارة بين شخصياتها.