Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرقابة ما بين المؤسسة والغوغاء: رمضان بتوابل جزائرية خاصة

كالوباء ينتشر فيروس الصوت الواحد الذي كان يبدو معزولاً إلى الآخرين فيتحول إلى صراخ وغضب عام

يحتج برلماني على "نظرة" أو "لباس ممثلة" أو "عبارة" أو "حركة" شاهدها في مسلسل جزائري بسيط ومجتهد، فيمنع المسلسل، لكن لا هذا الأحد ولا آخر يحتج على وضع الفنان الذي يموت فقراً ويقبر في النسيان والبطالة (رويترز)

أخطر رقابة وأشرسها على الإطلاق هي رقابة العامة على الفنون والآداب، باسم الأخلاق تارة وباسم العقيدة تارة أخرى تتحرك الغوغاء، على حد تعبير أبي حيان التوحيدي، بطريقة مثيرة لإسكات الجَمال أو السؤال الذي ينتجه الفنان أو الكاتب، بالطريقة ذاتها والتي تتكرر منذ غابر العصور لكتم الصوت المغاير المختلف الخارج عن القطيع وقطع اللسان "السليط".

والغوغاء ليس للتحقير إنما لتوصيف الطبيعة الاجتماعية لفئة معينة، وهي نقيض النخبة.

تبدأ رقابة الغوغاء على حد تعبير أبي حيان التوحيدي برفع صوت واحد من داخلها، يبدو ظاهرياً هذا الصوت وكأنه رد فعل فردي ومعزول، لكن الأمر غير ذلك تماماً، فالأمر مخطط له بصورة اجتماعية وسياسية وأيديولوجية محسوبة ودقيقة.

يبدأ مشروع التأسيس لرقابة الغوغاء في شكل احتجاج فردي ضد رأي أو فكرة أو صورة أو لقطة سينمائية أو مسرحية، يتحرك هذا الصوت مدفوعاً بقوة سياسية مستترة ولكنها ضاغطة، وهي إذ تقوم بذلك تريد أن تزن حجم وجودها وحجم تأثيرها لا على العامة فقط، ولكن على ذوي القرار، أي السلطة الحاكمة.

تريد أن تزن درجة تخويفها للنظام الحاكم ومدى إرباكها له، وإلى أي مدى هي قادرة على توصيل صوتها وإلى أي درجة يمكنها تحقيق مشروعها الاجتماعي والسياسي من خلال "صوت واحد".

 تتجسس هذه القوى المتخفية مدى رد فعل السلطة الحاكمة، وإذا ما وجدت نفسها قد حققت ارتباكاً داخل النظام، فستفعل برنامجها الثاني بتعميم الاستنكار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كالوباء ينتشر فيروس الصوت الواحد الذي كان يبدو معزولاً إلى الآخرين فيتحول إلى صراخ وغضب عام يثير القلق ويهدد بالفتنة، وجراء ذلك يتم تعميم الخوف فيخاف الناس ويصمتون أو يترددون أو يدخلون في حيرة، وهم ينتظرون بالأساس رد فعل حاسماً من السلطة التي هي حامية حق المواطن في الأمن والثقافة والخبز.

وإذ تجد السلطة الحاكمة المواطن ساكتاً خائفاً متردداً تسكن هي أيضاً للخوف والتخويف، فتذهب مذهب العامة باحثة عن إطفاء "فتنة مفتعلة" وذلك بمسايرة الغوغاء من خلال التأكيد والموافقة على رقابة الفنان والفن حتى وإن لم تكن مقتنعة بذلك.

يحدث هذا في الجزائر، يحتج برلماني على "نظرة" أو "لباس ممثلة" أو "عبارة" أو "حركة" شاهدها في مسلسل جزائري بسيط ومجتهد، بدت له مثيرة لإحساسه "الرهيف" ومتعارضة مع مفهومه للأخلاق، فيمنع المسلسل، لكن لا هذا الأحد ولا آخر يحتج على وضع الفنان الذي يموت فقراً ويقبر في النسيان والبطالة، ولا أحد يتكلم أو يحتج أو يتأسف أو يتساءل لماذا يلجأ فنانونا إلى الهجرة شرقاً وغرباً بحثاً عن اعتراف أو كرامة.

الجميع يتحدث ويرافع عن الأخلاق في البرلمان وفي الأسواق، ولا أحد يحتج على ثقافة التحرش الوحشي والمعمم في الشارع ضد النساء، ولا يمكن لامرأة أو فتاة أن تقطع لوحدها 100 متر في شارع رئيس أو فرعي من دون أن يأكل جسدها الجميع، فتسمع ما لا يسمع من بذيء الكلام والسب والشتم والقذف، ولا أحد يعتبر ذلك من الأمور التي تثير إحساسه وتمس أخلاقه الحسنة.

تتعرض النساء يومياً للقتل والاغتصاب والحرق والرمي في الشارع من دون أن يرتفع صوت واضح يدين هذا الفعل الإجرامي، وآخرها الحدث الرمضاني المرعب الذي قوبل بالصمت، إذ إن زوجاً ممدداً على الأريكة في الصالون ينتظر ساعة الإفطار ينادي زوجته الغارقة في مطبخ رمضان المعقد فلا تسمعه، فيغضب "صاحب الجلالة" ويلحق بها في المطبخ وهي تحضر الشوربة، فلا يجد ما يعاقب به زوجته لأنها لم تسمعه سوى أن يدفع بيدها داخل الطنجرة وهي تغلي، فتحترق يدها كاملة حتى العظم لتنقل إلى المستشفى وتبتر يدها!

يا الله، هذا البرلماني يرى "لقطة تخدش حياءه" ولا "يسمع بكارثة إنسانية خطرة" تصم الآذان.

يحتج السيد البرلماني الذي لا يسمع بالتحرش ولا بقتل النساء حرقاً أو رمياً من البلكون، والتي أضحت ظاهرة غريبة على مجتمعنا جراء انتشار ثقافة الكراهية الجنسوية، بل ربما يعتبر هذا البرلماني ذلك أيضاً من "مثالب" نساء اليوم ونتيجة تبرجهن، مع العلم ألا امرأة مستثناة من هذا التحرش مهما كان لباسها، قصيراً أو طويلاً أو عريضاً، طبيعياً أو محجباً، بالألوان أو بالأسود الداكن.

يحتج السيد البرلماني على لقطة بمسلسل تم إنجازه بعد تعب وكد، فتتبعه الغوغاء بطريقة هستيرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتدخل سلطة الضبط السمعي البصري، وتحت الضغط تستجيب للغوغاء، وأنا متأكد من أن بعض أعضاء تركيبة هذه السلطة غير مقتنعين بقرارها هذا، لكن الخوف من الفتنة والتفتين يجعلها تتصرف هذا التصرف، وهذا لا يبرر موقفها هذا.

من أين طلع صوت البرلماني؟ على أي أسس تربوية وثقافية تشكل وعي هذا البرلماني، ومعه كثيرون، بعيداً عن أي انتماء حزبي، إذ الأحزاب تتشابه في غالبيتها حين يتعلق الأمر بالمرأة والتحرش والحرق والاغتصاب. إن هذا الصوت البرلماني هو ضحية مدرسة مارست غسل مخ جيلين أو أكثر من أبناء هذا البلد الجميل، بلد النساء العظيمات جميلة بوحيرد وفاطمة نسومر وجميلة بوباشا وفضيلة دزيرية وآسيا جبار والرسامة باية وأحلام مستغانمي وزهور ونيسي وسليمة غزالي ولويزة حنون وبقار حدة والشيخة الريميتي وعائشة لمسين وطاووس عمروش وربيعة جلطي وعائشة حداد وغيرهن، بلد الرجال العظام كاتب ياسين ومحمد ديب وأبو القاسم سعد الله وعبدالحميد بن باديس وجون عمروش ومفدي زكريا ومولود معمري وجان سيناك ومولود فرعون والطاهر وطار وعمار مزداد وعبدالحميد بن هدوقة ومالك شبل ومحمد أركون وعلي مراد وأزراج عمر وغيرهم.

 إن المدرسة الجزائرية التي هيمن عليها "الإخوان المسلمون" لمدة نصف قرن وأكثر ها هي تعطي ثمارها الواضحة المُرّة، فالجيل الجديد بشكل عام يتميز بانفصام في الشخصية، فلا هو قادر على الانخراط في مغامرة المعاصرة ولا هو مقتنع بما يعيشه من كبت ونفاق اجتماعي وأخلاقي كبيرين يغرقان المجتمع برمته، وهو ما يدفعه إلى الحلم بالعيش في بلاد أخرى، وهذا حلم أزيد من 90 في المئة من الشباب والكهول أيضاً.

إن تصرفاً يصدر من برلماني المنتظر منه أن يكون مدافعاً عن حرية التعبير والاختلاف والتعدد، سيجعل جميع الفنانين يفكرون بالهجرة والهرب خارج البلد، بحثاً عن قليل من الحرية والهواء، وبحثاً عن فضاء ثقافي وفني يسمح لهم بتحرير طاقاتهم الفنية الكبيرة، ففي هذا المسلسل الممنوع أسماء وازنة وأخرى واعدة، يمكنها أن تجعل الجزائر على المدى المتوسط بلداً قادراً على أن ينتج ثقافة سينمائية للتسويق.

هذا الصوت الرقيب الخاضع لسوط الغوغاء سيدفع الممثلين إلى الهرب لبلدان أخرى، وسنستوردهم في مسلسلات تشترى بالعملة، وسيتأسف الذين منعوهم ذات يوم قائلين: خسارة، رحلوا وتركوا الساحة قفراً، وسيظل الانتهازيون وضعيفو المواهب يملأون الشاشة كل رمضان وكل شعبان وما بين العيدين.

هذا الموقف الرقيب سيدفع المشاهد بكل بساطة للهجرة إلى قنوات أخرى، فالسماء مفتوحة، وسيعيش حالين ثقافيتين، وسيعيش اغتراباً وستتكرس ثقافة النفاق الاجتماعي أكثر وأكثر ويزداد التحرش، وربما سيرتاح السيد البرلماني ولن تصرخ الغوغاء.

مع ذلك، فهذا الموقف الرقيب لن يمنع المواطن الجزائري من مشاهدة المسلسلات التركية من دون حرج، وهي تعرض الغواية وعلاقات زنا المحارم والخيانات الزوجية والعلاقات غير الشرعية!

ألا يعلم السيد البرلماني بأن أكبر نسبة مشاهدة أفلام الخلاعة والاستهلاكية التافهة هي من العرب والمغاربيين؟ ألا يعلم بألا أحد من الجزائريين لم يشاهد، مثلاً، فيلم "تيتانيك"؟

رجاء ارفعوا أيديكم عن الفنانين والمثقفين والأدباء!

المزيد من آراء