Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرانسيس فوكوياما يدعو إلى مصالحة بين الليبرالية والقومية

الليبرالية تحتاج إلى الأمة

تظاهرة دعم لأوكرانيا عند شلالات نياجارا في كندا، بتاريخ يناير 2022 (رويترز)

الليبرالية في خطر. في الواقع، تتمثل أساسات المجتمعات الليبرالية في تقبل الاختلاف، واحترام الحقوق الفردية، وسيادة القانون، باتت كلها مهددة لأن العالم يعاني مما يمكن تسميته ركود الديمقراطية، أو حتى كسادها. ووفقاً لـ"مؤسسة فريدوم هاوس"، شهدت الحقوق السياسية والحريات المدنية في جميع أنحاء العالم تراجعاً سنوياً على مدار الستة عشر عاماً الماضية. وفي ذلك السياق، يظهر تراجع الليبرالية بشكل جلي في القوة المتزايدة للأنظمة الاستبدادية كالصين وروسيا، وتآكل المؤسسات الليبرالية، أو الليبرالية بالاسم، في دول كالمجر وتركيا، وانتكاس الديمقراطيات الليبرالية كالهند والولايات المتحدة.

في كل حالة من تلك الحالات، قادت القومية صعود اللاليبرالية. واستطراداً، سخر القادة غير الليبراليين وأحزابهم وحلفاؤهم الخطاب القومي في السعي إلى سيطرة أكبر على مجتمعاتهم. ونددوا بخصومهم باعتبارهم نخباً بعيدة عن الواقع، وكوزموبوليتانيين عاجزين، ومؤيدين للعولمة. وكذلك، ادعى القادة غير الليبراليين أنهم الممثلون الفعليون لبلادهم وحُماتها الحقيقيون. في بعض الأحيان، يصور السياسيون غير الليبراليين نظراءهم الليبراليين بشكل ساخر على أنهم غير فاعلين وبعيدين عن حياة الناس الذين يفترضون أنهم يمثلونهم. وفي أحيان كثيرة، لا يكتفي القادة غير الليبراليين بوصف منافسيهم الليبراليين على أنهم خصوم سياسيون فحسب، بل يعتبرونهم شيئاً أكثر شراً، أي أعداءً للشعب.

والجدير بالذكر أن طبيعة الليبرالية بحد ذاتها تجعلها عرضة لهذا الخط الهجومي، إذ يتجسد المبدأ الأهم الذي تصونه الليبرالية في مبدأ القبول، إذ لا تفرض الدولة المعتقدات أو الهويات أو أي نوع آخر من العقيدة. منذ ظهور الليبرالية الحذر في القرن السابع عشر كمبدأ منظم للسياسة، عملت على جذب أنظار السياسات بعيداً عن السعي إلى توفير "حياة كريمة" وفق ما يحددها دين معين أو عقيدة أخلاقية أو تقليد ثقافي، ونقلت تركيز السياسة إلى الحفاظ على الحياة بحد ذاتها في الظروف التي لا يستطيع فيها السكان الاتفاق على ماهية الحياة الكريمة. في الحقيقة، إن هذه الطبيعة اللاإدارية في الليبرالية تخلق فراغاً روحياً، إذ يسلك الأفراد طرقهم الخاصة ولا يختبرون سوى إحساس ضعيف بالمجتمع. في المقابل، تتطلب الأنظمة السياسية الليبرالية قيماً مشتركة، كالتسامح والتسوية والمداولات، لكن تلك القيم لا تعزز الروابط العاطفية القوية الموجودة في المجتمعات الدينية والعرقية القومية المترابطة بإحكام. في الواقع، غالباً ما شجعت المجتمعات الليبرالية السعي بلا هدف وراء الإشباع الذاتي المادي.

واستكمالاً، تظل أهم مزايا مغرية تتمتع بها الليبرالية متجسدة في الميزة البراغماتية الموجودة منذ قرون، والمتمثلة بقدرتها على إدارة التنوع في المجتمعات التعددية. وعلى الرغم من ذلك، هناك حدود لأصناف التنوع التي يمكن للمجتمعات الليبرالية التعامل معها. إذا كان هناك عدد كافٍ من الناس يرفضون المبادئ الليبرالية بحد ذاتها ويسعون إلى تقييد الحقوق الأساسية للآخرين، أو إذا لجأ المواطنون إلى العنف للحصول على ما يريدون، فلن تستطيع الليبرالية وحدها الحفاظ على النظام السياسي. وإذا ابتعدت المجتمعات المتنوعة عن المبادئ الليبرالية وحاولت بناء هوياتها الوطنية على رؤى مختلفة عن الحياة الكريمة، كالعرق أو الإثنية أو الدين أو غيرها، فإنها تدعو بذلك إلى العودة إلى صراع دموي محتمل. وتجدر الإشارة إلى أن العالم المملوء بمثل تلك البلدان سيكون على الدوام أكثر انقساماً، وأشد اضطراباً، وأكثر عنفاً.

لذلك، من المهم للغاية بالنسبة إلى الليبراليين عدم التخلي عن فكرة الأمة. ويجب أن يدركوا أنه في الحقيقة، لا شيء يجعل صفة العالمية التي تتميز بها الليبرالية غير متوافقة مع عالم الدول القومية، إذ إن الهوية القومية مرنة، ويمكن تغيير شكلها كي تعكس التطلعات الليبرالية وتغرس الشعور بالانتماء للمجتمع والإحساس بالهدف، في شريحة كبيرة من الجمهور.

 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن أجل إثبات الأهمية الملحة للهوية الوطنية، لا داعي للنظر إلى أبعد من المشكلة التي واجهتها روسيا في مهاجمة أوكرانيا. في ذلك الإطار، ادعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أوكرانيا لا تملك هوية منفصلة عن هوية روسيا، والبلد سينهار على الفور بمجرد بدء غزوه. وعوضاً عن ذلك، قاومت أوكرانيا روسيا بعناد وذلك بالتحديد لأن مواطنيها موالون لفكرة أوكرانيا الديمقراطية المستقلة والليبرالية ولا يريدون العيش في ديكتاتورية فاسدة مفروضة من الخارج. إذاً، أوضحوا بشجاعتهم أن المواطنين على استعداد للموت من أجل المثل الليبرالية، لكن بشرط أن تشكل تلك المثل جزءاً لا يتجزأ من بلد يمكنهم أن يسموه بلدهم.

الفراغ الروحي في الليبرالية

تكافح المجتمعات الليبرالية كي تزود مواطنيها برؤية إيجابية عن الهوية الوطنية، إذ تواجه النظرية الكامنة وراء الليبرالية صعوبات كبيرة في رسم حدود واضحة حول المجتمعات وشرح ما يحق للناس داخل تلك الحدود وخارجها. ويرجع ذلك إلى أن النظرية الليبرالية مبنية على أساس ادعاء العالمية. ووفق ما أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"، وإنه "لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي وغير السياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر". ويهتم الليبراليون نظرياً بانتهاكات حقوق الإنسان بغض النظر عن مكان حدوثها في العالم. وكذلك، يكره عدد من الليبراليين الارتباطات الخاصة لدى القوميين ويتخيلون أنفسهم على أنهم "مواطنو العالم".

قد يكون من الصعب التوفيق بين ادعاء العالمية من جهة وتقسيم العالم إلى دول قومية من جهة أخرى. ومثلاً، لا توجد نظرية ليبرالية واضحة حول طريقة رسم الحدود الوطنية، وقد أدى ذلك النقص إلى صراعات داخل الليبرالية حول الانفصالية في مناطق على غرار كتالونيا وكيبيك واسكتلندا، وخلافات حول الطريقة المناسبة للتعامل مع المهاجرين واللاجئين. وقد وجه شعبويون كالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، هذا التناقض المتوتر بين التطلعات العالمية التي تتمتع بها الليبرالية وبين الادعاءات الضيقة التي تتبناها القومية، وحولوها إلى تأثير قوي.

واستطراداً، يشتكي القوميون من أن الليبرالية قد حلت روابط المجتمع القومي واستبدلتها بكوزموبوليتانية عالمية تهتم بالناس في البلدان البعيدة بقدر اهتمامها بالمواطنين. في الواقع، بنى القوميون في القرن التاسع عشر الهوية الوطنية على أساس علم الأحياء [البيولوجيا] وآمنوا بأن المجتمعات القومية تعود جذورها إلى أصل مشترك. ولا يزال هذا موضوعاً محورياً يستخدمه بعض القوميين المعاصرين كرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي عرف الهوية القومية المجرية بأنها مستندة إلى الإثنية المجرية. في مقلب مغاير، سعى قوميون آخرون، على غرار الباحث الإسرائيلي يورام هازوني، إلى مراجعة القومية العرقية القائمة في القرن العشرين من خلال المجادلة بأن الدول تشكل وحدات ثقافية متماسكة تسمح لأعضائها بمشاركة تقاليد كثيفة متعلقة بالطعام والعطلات واللغة وما شابه. وفي سياق مُوازٍ، أكد المفكر الأميركي المحافظ باتريك دينين أن الليبرالية تمثل أحد أنواع الثقافة المضادة التي أذابت جميع أشكال ثقافة ما قبل الليبرالية، باستخدام قوة الدولة لإقحام نفسها والتحكم في كل جانب من جوانب الحياة الخاصة.

بشكل ملحوظ، ابتعد المفكر الأميركي دينين ومحافظون آخرون عن النيوليبراليين الاقتصاديين، إذ ألقوا اللوم بشكل صريح على رأسمالية السوق في موضوع تآكل قيم الأسرة والمجتمع والتقاليد. ونتيجة لذلك، فإن تصنيفات القرن العشرين التي حددت اليسار واليمين السياسيين من حيث الأيديولوجية الاقتصادية، باتت لا تتناسب مع الواقع الحالي بدقة، إذ إن الجماعات اليمينية مستعدة لتأييد استخدام سلطة الدولة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصاد.

وفي سياق متصل، ثمة تداخل كبير بين القوميين والمحافظين الدينيين. ومن بين التقاليد التي يريد القوميون المعاصرون الحفاظ عليها هي التقاليد الدينية. وهكذا، فثمة توافق بين حزب "القانون والعدالة" في بولندا وبين الكنيسة الكاثوليكية البولندية، إذ تقبل ذلك الحزب عدداً من شكاواها الثقافية حول دعم أوروبا الليبرالية للإجهاض وزواج المثليين. وعلى نحو مماثل، غالباً ما يعتبر المحافظون الدينيون أنفسهم وطنيين. وينطبق ذلك بالتأكيد على الإنجيليين الأميركيين الذين شكلوا جوهر حركة ترمب "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى".

تجدر الإشارة إلى أن النقد الجوهري الذي يوجهه المحافظون إلى الليبرالية، المتمثل بأن المجتمعات الليبرالية لا توفر جوهراً أخلاقياً مشتركاً قوياً يمكن بناء المجتمع حوله، يعتبر صحيحاً بما فيه الكفاية. في الواقع يشكل ذلك الأمر إحدى ميزات الليبرالية، وليس عيباً فيها. وثمة سؤال يوجه إلى المحافظين حول مدى وجود طريقة واقعية في إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة فرض نظام أخلاقي أقوى. في الحقيقة، يأمل بعض المحافظين الأميركيين في العودة إلى زمن متخيل كان فيه كل شخص تقريباً في الولايات المتحدة مسيحياً، بيد أن المجتمعات الحديثة اليوم أكثر تنوعاً دينياً مما كانت عليه إبان زمن الحروب الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر. بالتالي، إن فكرة استعادة تقليد أخلاقي مشترك يحدده المعتقد الديني تشكل فكرة محكوماً عليها بالفشل. بالتالي، إن القادة الذين يعقدون الأمل على تحقيق هذا النوع من الاستعادة، على غرار ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند الهندوسي القومي، يشجعون على ممارسة الاضطهاد والعنف الطائفي. يعرف مودي ذلك جيداً، إذ كان رئيساً للوزراء في ولاية "غوجارات الغربية" حينما اندلعت أعمال شغب طائفية عام 2002 خلفت الآلاف من القتلى، معظمهم من المسلمين. منذ عام 2014، حينما أصبح مودي رئيساً للوزراء، سعى وحلفاؤه إلى ربط الهوية القومية الهندية بأعمدة الهندوسية واللغة الهندية، وهو تغيير جذري بعيداً عن التعددية العلمانية التي اعتمدها مؤسسو الهند الليبراليون.

دولة لا مفر منها

ستستمر القوى غير الليبرالية في جميع أنحاء العالم في استخدام الإغراءات القومية كسلاح انتخابي قوي. وقد يميل الليبراليون إلى رفض هذا الخطاب باعتباره شوفينياً متطرفاً وفظاً، لكن ينبغي ألا يتنازلوا عن الأمة لخصومهم.

ومن الممكن ألا تتماشى الليبرالية وادعاءاتها بأنها عالمية مع القومية المحدودة على ما يبدو، لكن يمكن التوفيق بين الاثنين. في الواقع، تتوافق أهداف الليبرالية تماماً مع عالم مقسم إلى دول قومية. وتحتاج جميع المجتمعات إلى استخدام القوة، بغية الحفاظ على النظام الداخلي وحماية نفسها من الأعداء الخارجيين. وفي الحقيقة، يفعل المجتمع الليبرالي ذلك [استخدام القوة] عن طريق إنشاء دولة قوية ثم تقييد سلطة الدولة في ظل حكم القانون. وفي منحى مقابل، تستند سلطة الدولة إلى عقد اجتماعي بين الأفراد المستقلين الذين يوافقون على التنازل عن جزء من حقهم في فعل ما يحلو لهم، مقابل حماية الدولة لهم. ويجري إضفاء الشرعية على تلك السلطة من خلال القبول المشترك للقانون، وعن طريق انتخابات شعبية إذا كانت ديمقراطية ليبرالية.

استطراداً، لا معنى للحقوق الليبرالية في حال تعذر تنفيذها من قبل الدولة، التي تعتبر بحسب التعريف الشهير الذي وضعه عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر، احتكاراً شرعياً للقوة في إقليم محدد. وحتماً، يتوافق نطاق سلطة الدولة الإقليمي مع المنطقة التي تحتلها مجموعة الأفراد الموقعين على العقد الاجتماعي. وكذلك يتوجب على الدولة احترام حقوق الأشخاص الذين يعيشون خارج ذلك النطاق، لكن ليس بالضرورة أن تكون تلك الحقوق منفذة.

قد يكون من الصعب التوفيق بين الادعاء الليبرالي بالعالمية وبين عالم مقسم إلى دول قومية

بالتالي، تظل الدول ذات السلطة الإقليمية المحددة جهات فاعلة سياسية حاسمة، لأنها الوحيدة القادرة على ممارسة الاستخدام المشروع للقوة. في عالم اليوم المعولم، تستخدم القوة مجموعة متنوعة من الهيئات، من بينها الشركات متعددة الجنسيات والجماعات غير الربحية والمنظمات الإرهابية والهيئات الدولية كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. إن الحاجة إلى التعاون الدولي في معالجة قضايا مثل الاحتباس الحراري والأوبئة لم تكن يوماً أكثر وضوحاً [من حالها الآن]. في المقابل، يبقى أن شكلاً محدداً من أشكال القوة، هو القدرة على فرض القواعد من خلال التهديد أو الاستخدام الفعلي للقوة، يظل تحت سيطرة الدول القومية. في ذلك الإطار، لا ينشر الاتحاد الأوروبي ولا "الاتحاد الدولي للنقل الجوي" شرطته أو جيشه لفرض القواعد التي يضعها، بل ما زالت منظمات من هذا النوع تستند إلى قدرة اتخاذ تدابير قسرية من قبل البلدان التي أعطت إلى تلك الهيئات ما تحوزه من قوة. ومن المؤكد أن هناك اليوم مجموعة كبيرة من القوانين الدولية التي تحل محل القانون الوطني في عدد من المجالات. لنفكر مثلاً في المكتسبات المجتمعية الاتحاد الأوروبي، التي تعمل كنوع من القانون العام لتنظيم التجارة وتسوية النزاعات، لكن في النهاية، يستمر القانون الدولي في الاعتماد على الإنفاذ على المستوى الوطني. وعندما تختلف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول مسائل مهمة تتعلق بالسياسة، على غرار ما حصل خلال أزمة اليورو عام 2010 وأزمة المهاجرين في عام 2015، لا يجري التوصل إلى تحديد النتيجة من خلال القانون الأوروبي، بل من خلال القوة النسبية للدول الأعضاء. بعبارة أخرى، لا يزال الحد الأعلى للقوة من اختصاص الدول القومية، ما يعني أن السيطرة على السلطة في هذا المستوى تظل بالغة الأهمية.

بالتالي لا يوجد تناقض ضروري بين عالمية الليبرالية والحاجة إلى الدول القومية. على الرغم من أن القيمة المعيارية لحقوق الإنسان قد تكون عالمية، فإن قوة إنفاذ تلك الحقوق ليست كذلك، ذلك أنها مورد نادر يطبق حتماً بطريقة محددة ومحصورة إقليمياً. وفي الواقع، من المبرر تماماً أن تمنح الدولة الليبرالية مستويات مختلفة من الحقوق للمواطنين وغير المواطنين، لأنها لا تملك الموارد أو الإذن لحماية الحقوق عالمياً. وفي سياق متصل، يتمتع جميع الأشخاص داخل أراضي الدولة بحماية القانون على قدم المساواة، بيد أن المواطنين هم وحدهم من يشاركون بشكل كامل في العقد الاجتماعي، ولهم حقوق وواجبات خاصة، ولا سيما الحق في التصويت.

واستطراداً، فإن حقيقة أن الدول تظل مركز القوة القسرية يجب أن تحث على الحذر بشأن مقترحات تدعو لإنشاء هيئات دولية جديدة وتفويض سلطات من ذلك النوع لها. لقد استفادت المجتمعات الليبرالية من خبرة عدة مئات من السنين في تعلم طريقة تقييد السلطة على المستوى الوطني من خلال سيادة القانون والمؤسسات التشريعية، وكيفية موازنة السلطة كي يجري استخدامها بشكل يعكس المصالح العامة. في المقابل، ليس لديها أي فكرة حول طريقة إنشاء مثل تلك المؤسسات على مستوى عالمي، حيث يمكن مثلاً لمحكمة أو هيئة تشريعية عالمية أن تكون قادرة على تقييد القرارات التعسفية لسلطة تنفيذية عالمية. تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي هو نتاج أكبر جهد جدي لفعل ذلك على مستوى إقليمي واسع، وقد جاءت النتيجة على هيئة نظام مربك يتسم بالضعف المفرط في بعض المجالات (السياسة المالية والشؤون الخارجية) والقوة المفرطة في مجالات أخرى (التنظيم الاقتصادي). وفي الأقل، تملك أوروبا تاريخاً مشتركاً وهوية ثقافية معينة غير موجودة على المستوى العالمي. وتستمر المؤسسات الدولية على غرار "محكمة العدل الدولية" و"المحكمة الجنائية الدولية" في الاعتماد على الدول لفرض أوامرها القضائية.

واستطراداً، تخيل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حالة من "السلام الدائم" في عالم مملوء بالدول الليبرالية، عبر تنظيم العلاقات الدولية من خلال القانون بدلاً من اللجوء إلى العنف. لسوء الحظ، أظهر غزو بوتين لأوكرانيا أن العالم لم يصل بعد إلى تلك اللحظة الما - بعد تاريخية، والقوة العسكرية القاسية تظل الضامن النهائي للسلام بالنسبة إلى البلدان الليبرالية. بالتالي، من غير المرجح أن تختفي الدولة القومية باعتبارها الفاعل الأساسي في السياسة العالمية.

الحياة الكريمة

في القلب منه، يتضمن نقد الفكر المحافظ لليبرالية تشكيكاً معقولاً في التشديد الليبرالي على الاستقلال الفردي الذاتي. في الواقع، تفترض المجتمعات الليبرالية مساواةً في الكرامة الإنسانية، وهي كرامة متجذرة في قدرة الفرد على اتخاذ الخيارات. لهذا السبب، فإنها [الليبرالية] مكرسة لحماية هذا الاستقلال الذاتي باعتباره مسألة حقوق أساسية. وعلى الرغم من أن تلك الاستقلالية هي قيمة ليبرالية أساسية، إلا أنها ليست الخير الإنساني الوحيد الذي يتفوق تلقائياً على كل الرؤى الأخرى للحياة الكريمة.

مع مرور الوقت، حدث توسع مطرد في مجال ما يمكن قبوله باعتباره استقلالية، إذ اتسع ذلك من خيار الانصياع للقواعد داخل إطار أخلاقي موجود [بمعنى قبولها أو رفضها]، إلى وضع يصوغ الفرد فيه تلك القواعد لذاته. لقد تمثل الهدف من احترام الاستقلالية في إدارة المنافسة بين مختلف المعتقدات الراسخة وتخفيفها، وليس إزاحة تلك المعتقدات بكاملها. في الواقع، لا يعتقد كل إنسان أن تحقيق أقصى قدر من استقلاليته الشخصية يشكل أهم هدف في الحياة أو أن تعطيل كل أشكال السلطة يمثل بالضرورة أمراً جيداً. في المقابل، يسر كثيرون من الناس أن يحد من حريتهم في الاختيار، من خلال قبول الأطر الدينية والأخلاقية التي تربطهم بأشخاص آخرين أو العيش ضمن التقاليد الثقافية الموروثة. لقد تمثل الهدف من التعديل الأول في دستور الولايات المتحدة في حماية حرية ممارسة الدين، وليس حماية المواطنين من الدين.

وتجدر الإشارة إلى أن المجتمعات الليبرالية الناجحة لها ثقافتها الخاصة وفهمها الخاص للحياة الكريمة، حتى لو كانت هذه الرؤية أضعف من تلك التي تقدمها المجتمعات الملتزمة بعقيدة واحدة. واستطراداً، لا تستطيع المجتمعات الليبرالية الناجحة أن تكون محايدة في ما يتعلق بالقيم الضرورية للحفاظ على نفسها كمجتمعات ليبرالية. إنها بحاجة إلى إعطاء الأولوية لروح المصلحة العامة، والتقبل، والانفتاح الذهني، والمشاركة النشطة في الشؤون العامة، إذا أرادت أن تبقى متماسكة. وكذلك تحتاج إلى تكريم الابتكار وريادة الأعمال والمجازفة، إذا أرادت الازدهار اقتصادياً. إن المجتمع الذي يتألف من أفراد متقوقعين لا يهتمون إلا بزيادة استهلاكهم الشخصي، لن يكون مجتمعاً على الإطلاق.

إذاً، تعتبر الدول مهمة ليس لأنها مراكز القوة الشرعية وأدوات السيطرة على العنف فحسب، بل لأنها أيضاً مصدر فريد في المجتمع. في المقابل، تتعارض الليبرالية العالمية مع طبيعة الروح الاجتماعية البشرية، إذ يشعر الناس بأقوى روابط المودة تجاه المقربين منهم كالأصدقاء والعائلة، ومع اتساع دائرة المعارف، يتضاءل حتماً إحساسهم بالالتزام. وعلى مر العصور، مع نمو المجتمعات البشرية بشكل أكبر وأكثر تعقيداً، توسعت حدود التضامن بشكل كبير، وانتقلت من العائلات والقرى والقبائل إلى بلدان بأكملها، لكن قلة من الأشخاص يحبون البشرية ككل. بالنسبة إلى معظم الناس حول العالم، تظل الدولة أكبر وحدة تضامن يشعرون بالولاء الغريزي تجاهها. في الواقع، يصبح هذا الولاء ركيزة أساسية لشرعية الدولة، بالتالي قدرتها على الحكم. وفي مجتمعات معينة، يمكن أن يكون للهوية الوطنية الضعيفة عواقب وخيمة، ويبدو ذلك واضحاً في بعض البلدان النامية المتعثرة، كميانمار ونيجيريا، وفي بعض الدول المنهارة كأفغانستان وليبيا وسوريا.

قضية القومية الليبرالية

قد تبدو هذه الحجة مشابهة لتلك التي طرحها هازوني، الباحث الإسرائيلي المحافظ، في كتابه عام 2018 "فضيلة القومية"، الذي دعا فيه إلى نظام عالمي مستند على سيادة الدول القومية. ويتناول نقطة مهمة في تحذيره من ميل الدول الليبرالية كالولايات المتحدة، إلى الذهاب بعيداً في السعي لإعادة تشكيل بقية العالم على صورتها الخاصة. في المقابل، لقد أخطأ هازوني في افتراض أن البلدان الموجودة هي وحدات ثقافية محددة بوضوح وأنه من الممكن بناء نظام عالمي سلمي من خلال قبولها على حالها. في الحقيقة، إن بلدان اليوم عبارة عن تركيبات اجتماعية جاءت على هيئة نواتج لصراعات تاريخية تضمنت غالباً الغزو والعنف والاندماج القسري والتلاعب المتعمد بالرموز الثقافية. هناك أشكال أفضل وأسوأ للهوية الوطنية، ويمكن للمجتمعات أن تتخذ قراراً في الاختيار بينها.

على وجه الخصوص، إذا كانت الهوية الوطنية مبنية على خصائص ثابتة مثل العرق أو الإثنية أو الإرث الديني، فثمة إمكانية كامنة لأن تصبح فئة إقصائية تنتهك المبدأ الليبرالي للمساواة في الكرامة. وعلى الرغم من عدم وجود تناقض ضروري بين الحاجة إلى الهوية الوطنية والعالمية الليبرالية، فإن هناك نقطة توتر قوية كامنة بين المبدأين. حينما تستند الهوية الوطنية إلى خصائص ثابتة، يمكن أن تتحول إلى قومية عدوانية وحصرية، على غرار حدث في أوروبا خلال الجزء الأول من القرن العشرين.

لهذا السبب، يجب على المجتمعات الليبرالية ألا تعترف رسمياً بالجماعات القائمة على هويات ثابتة مثل العرق أو الإثنية أو الإرث الديني. وفي المقابل، بالطبع، هناك أوقات يصبح فيها ذلك أمراً لا مفر منه، ويفشل تطبيق المبادئ الليبرالية. في أجزاء كثيرة من العالم، احتلت الجماعات العرقية أو الدينية نفس المنطقة لأجيال وكونت تقاليد ثقافية ولغوية خاصة بها. في البلقان والشرق الأوسط وجنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا، تعتبر الهوية العرقية أو الدينية في الواقع خاصية أساسية لمعظم الناس، ويعد دمجهم في ثقافة وطنية أوسع أمراً غير واقعي بشكل كبير. في منحى مقابل، من الممكن تنظيم نوع من السياسة الليبرالية حول وحدات ثقافية عدة. ومثلاً، تعترف الهند بلغات وطنية عدة وقد سمحت في الماضي لولاياتها بوضع سياساتها الخاصة في ما يتعلق بالتعليم والأنظمة القانونية. وغالباً ما تكون الفيدرالية وما يرافقها من تفويض للصلاحيات إلى الوحدات المحلية أمراً ضرورياً في مثل تلك البلدان المتنوعة. وفي بنية يسميها علماء السياسة "التحالفية"، يمكن تخصيص السلطة رسمياً لمجموعات مختلفة تملك هوية ثقافية محددة. وعلى الرغم من أن ذلك قد نجح بشكل معقول في هولندا، فإن تلك الممارسة جاءت كارثية في أماكن كالبوسنة والعراق ولبنان، حيث ترى المجموعات المحددة الهوية نفسها عالقة في صراع لا فائدة منه [يسمى أيضاً صراعاً صفرياً Zero Sum Struggle، لأن كل مكسب لطرف يعتبر خسارة لطرف آخر، فلا يتراكم شيء مشترك بينها]. في مقلب مغاير، في المجتمعات التي لم تتحول فيها المجموعات الثقافية بعد إلى وحدات تتمحور حول الذات، يكون من الأفضل التعامل مع المواطنين كأفراد وليس كأعضاء في مجموعات محددة الهوية.

في المقابل، هناك جوانب أخرى للهوية الوطنية يمكن اعتمادها طواعية، بالتالي مشاركتها على نطاق أوسع، كالتقاليد الأدبية والروايات التاريخية واللغة والطعام والرياضة. وتملك مناطق على غرار كتالونيا وكيبيك واسكتلندا تقاليد تاريخية وثقافية مميزة، وكلها تشمل أنصار القومية الذين يسعون إلى الانفصال التام عن الدولة التي يرتبطون بها. لا شك في أن تلك المناطق ستستمر في كونها مجتمعات ليبرالية تحترم الحقوق الفردية إذا انفصلت، على غرار ما فعلت جمهورية التشيك وسلوفاكيا بعد أن أصبحتا دولتين منفصلتين في عام 1993.

إذاً، تمثل الهوية الوطنية أخطاراً واضحة، ولكنها تشكل في الوقت نفسه فرصة. إنها عبارة عن بنية اجتماعية، ويمكن تشكيلها لدعم القيم الليبرالية بدلاً من تقويضها. عبر التاريخ، تكونت بلدان متعددة من مجموعات سكانية متنوعة تشعر بإحساس قوي بالانتماء للمجتمع، يستند على المبادئ أو المثل السياسية، وليس على التصنيفات الحتمية للمجموعات. في ذلك السياق، تمثل أستراليا وكندا وفرنسا والهند والولايات المتحدة جميعها بلدان سعت في العقود الأخيرة إلى بناء هويات وطنية على أساس المبادئ السياسية بدلاً من العرق أو الإثنية أو الدين. وبطريقة موازية، مرت الولايات المتحدة بعملية طويلة ومؤلمة لإعادة تعريف ما يعنيه أن تكون أميركياً، فأزالت بصورة تدريجية الحواجز التي تحول دون الحصول على الجنسية، استناداً إلى الطبقة والعرق والجنس، على الرغم من أن تلك العملية لا تزال غير مكتملة وشهدت نكسات عدة. في فرنسا، بدأ بناء الهوية الوطنية بإعلان حقوق الإنسان والمواطن في أعقاب الثورة الفرنسية، ما وضع نموذجاً للمواطنة على أساس لغة وثقافة مشتركة. في منتصف القرن العشرين، كانت أستراليا وكندا دولتين تهيمن فيهما غالبية سكانية من ذوي البشرة البيضاء وتسيطر فيهما قوانين تقييدية في ما يتعلق بالهجرة والحصول على الجنسية، مثل سياسة "أستراليا البيضاء" السيئة السمعة، التي منعت دخول المهاجرين من آسيا. وعلى الرغم من ذلك، أعادت الدولتان بناء هويتهما الوطنية على أسس غير عرقية بعد ستينيات القرن العشرين وانفتحتا أمام الهجرة الجماعية. حاضراً، يتضمن البلدان كلاهما عدداً أكبر من السكان المولودين من أصل أجنبي بالمقارنة مع الولايات المتحدة، كذلك يحتوي البلدان كلاهما درجة أقل من الاستقطاب ومن غضب أصحاب البشرة البيضاء، بالمقارنة مع الولايات المتحدة أيضاً.

إن المجتمع الذي يتألف من أفراد متقوقعين لن يكون مجتمعاً على الإطلاق

وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي الاستهانة بصعوبة تكوين هوية مشتركة في الديمقراطيات الشديدة الانقسام. في الواقع، بنيت معظم المجتمعات الليبرالية المعاصرة بالاستناد إلى قوميات تاريخية التي تكون فهمها للهوية الوطنية من خلال أساليب غير ليبرالية. كانت فرنسا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية كلها أمماً/ قوميات قبل أن تصبح ديمقراطيات ليبرالية. في منحى مقابل، كانت الولايات المتحدة، كما أشارت جهات كثيرة، دولة قبل أن تصبح أمة. في الحقيقة، استغرقت عملية تعريف الأمة الأميركية من الناحية السياسية الليبرالية وقتاً طويلاً وكانت شاقة وعنيفة بشكل دوري، وحتى اليوم يعترض على هذه العملية أشخاص من اليسار واليمين، وكذلك يجري تداول روايات متنافسة بشدة حول أصول الدولة.

واستكمالاً، ستكون الليبرالية في مأزق إذا اعتبرها الناس مجرد آلية لإدارة التنوع بشكل سلمي، من دون إحساس أوسع بالهدف الوطني. عموماً، يتوق الأشخاص الذين عانوا من العنف والحرب والديكتاتورية للعيش في مجتمع ليبرالي، على غرار ما فعل الأوروبيون في فترة ما بعد عام 1945، ولكن مع اعتياد الناس على الحياة السلمية في ظل نظام ليبرالي، فإنهم يميلون إلى اتخاذ هذا السلام والنظام كأمر مسلم به والبدء في التوق إلى سياسة توجههم نحو غايات أسمى. في 1914، كانت أوروبا خالية إلى حد كبير من الصراعات المدمرة لمدة قرن تقريباً، وكان الناس مسرورين بالذهاب إلى الحرب على الرغم من التقدم المادي الهائل الذي حدث في تلك الفترة.

ربما وصل العالم إلى نقطة مماثلة في تاريخ البشرية، إذ كان خالياً من الحروب واسعة النطاق بين الدول لمدة ثلاثة أرباع القرن، وشهد في غضون ذلك، زيادة هائلة في الازدهار العالمي أنتجت تغييراً اجتماعياً هائلاً بالمقدار نفسه. لقد أنشئ الاتحاد الأوروبي باعتباره ترياقاً للقومية التي أدت إلى الحروب العالمية، وقد نجح في ذلك بما يفوق الآمال كلها. في المقابل، ينذر الغزو الروسي لأوكرانيا بمزيد من الفوضى والعنف في المستقبل.

في هذا الوقت، يظهر مستقبلان مختلفان للغاية. إذا نجح بوتين في تقويض الاستقلال والديمقراطية في أوكرانيا، سيعود العالم إلى عصر القومية العدوانية وغير المتسامحة التي تذكرنا بأوائل القرن العشرين. ولن تكون الولايات المتحدة محصنة ضد هذا الاتجاه، إذ يطمح شعبويون على غرار ترمب إلى استخدام نفس أساليب بوتين الاستبدادية. في المقابل، إذا قاد بوتين روسيا إلى كارثة من الفشل العسكري والاقتصادي، تبقى الفرصة متاحة لإعادة تعلم الدرس الليبرالي القائل إن السلطة غير المقيدة بالقانون تؤدي إلى كارثة وطنية، وإعادة إحياء المثل العليا التي يتمتع بها عالم حر وديمقراطي.

 

● فرانسيس فوكوياما هو زميل رفيع الشأن لأوليفييه نوميليني في "معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية"، بجامعة ستانفورد ومؤلف الكتاب الجديد "الليبرالية وخيباتها" (دار نشر فارار وستراوس وجيرو 2022) الذي اقتبس هذا المقال منه.

 

مترجم من فورين آفيرز، مايو (أيار)/ يونيو (حزيران) 2022

المزيد من تحلیل