Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حكاية في دمشق" يصور الحرب السورية عبر مآسي الشخصيات

سعى الفيلم إلى تركيز قصة الحب المستحيل بين أسوار البلدة القديمة

الممثلة جيانا عنيد في فيلم "حكاية في دمشق" (الخدمة الإعلامية للفيلم)

ابتعد فيلم "حكاية في دمشق" عن التصوير المباشر للحرب السورية، واختار مخرجه أحمد إبراهيم أحمد سيناريو الكاتبة سماح قتّال ليروي قصة حب بدت في الجزء الأول من هذا الروائي الطويل (المؤسسة العامة للسينما) وكأنها ترصد أحداثاً عادية للغاية. ففي افتتاحية الشريط نتعرف إلى لينا (جيانا عنيد) التي تدير محلاً لبيع التحف الشرقية، وتلتقي بـوجيه (غسان مسعود) الرجل الهائم على وجهه الذي يجد في حانوتها ملاذاً له من ذكريات تطارده، فيغتنم فرصة وجوده معها للعزف والغناء على العود لزوار المكان. لكن الرجل الستيني سرعان ما نعرف عنه أنه ملاحق من صهره زياد (لجين إسماعيل) الذي يتردد هو الآخر على محل بيع التحف والمصنوعات اليدوية، مطارداً إياه لكونه يعاني من مرض نفسي، فتكون فرصة للقائه بصاحبة المتجر، ولتعارف عابر بينه وبين الفتاة الشابة التي تجد فيه صورةً لفتى أحلامها من دون أن تعرف في البداية شيئاً عن ماضيه.

تتكرر المصادفات التي تجلب كلاً من وجيه وزياد إلى محل التحف الشرقية، ومعها نبدأ باكتشاف قصة الرجلين اللذين يطارد أحدهما الآخر، فنعرف أن زياد فقد زوجته وابنته الصغيرة في تفجير إرهابي، ويتقاسم مع قريبه قصة هذا الفقد المزدوج، فكل من الرجلين ضحية لفقدان مشابه. الأب فقد ابنته وحفيدته، والشاب فقد زوجته وطفلته الصغيرة، لكن العم فقد معهما رشده وصوابه، وبدا أنه غير قادر على استيعاب ما حدث له، مما يؤجج حالته النفسية، ويجعله حجر عثرة أمام قصة حب خجولة بدأت تنمو بين صهره الأرمل والفتاة الحسناء صاحبة المتجر.

مأساة عائلة

العم المقيم في بيت صهره يمانع أن تحل امرأة أُخرى محل ابنته الميتة، ويقف حائلاً بين لقاء زياد ولينا، فيما تحاول هذه الأخيرة التقرب من الرجلين، لكن عبثاً تستطيع ذلك. فالعم يحذرها ويرفض مجيئها إلى بيته، ويواظب على زيارة قبر ابنته، واستذكار حفيدته التي قضت بين ألسنة اللهب التي التهمتها بعد وقوع الحادثة.

تتداعى أحداث فرعية كان من الممكن الاستغناء عنها، من مثل العم (فائق عرقسوسي) ومطالبته ابنة أخيه بحصته من الميراث، وقصة الشاب الكوافير (غدير سليمان) الذي حاول عبثاً التقرب من بطلة الفيلم وخطب ودها. كلها أحداث شتت التركيز على قصة الرجلين اللذين جعل منهما الفقد وجهين لعملة واحدة. لكن مخرج الفيلم استغل هذه العلاقات لنقل كوادر باذخة عن دمشق القديمة، حيث تنقلت الكاميرا بين باب شرقي والقيمرية وباب توما، ومنها إلى أحضان الشطر المعاصر من عاصمة الأمويين.

اللقطات الواسعة والمتوسطة، وحتى تلك العمودية المأخوذة بكاميرا درون، واكبت تطور الحدث الرئيس، وقدمت متتالية بصرية (يزن شربتجي) فتلصصت على شوارع الشام ودهاليز البلدة القديمة، في محاولة لاستعراض آثار الحرب على وجوه الناس والبيوت القديمة التي أبرز الفيلم جمالياتها العمرانية مقابل الخراب الذي حل بساكنيها. وذلك بمرافقة موسيقى (طاهر مامللي) التي بدت وكأنها أخذت دور الراوي الخفي باعتمادها على آلة العود، وتعشيقها مع لازمات موسيقية حالمة تمكنت من ضبط إيقاع القصة، والتوليف بين مشاهد الفيلم ولقطاته من دون التعليق المباشر على الأحداث، بل بنبرة تصويرية لافتة، لا سيما في مشهد الدرويش (حسن عويتي) تحت قوس باب شرقي، وصرخته تحت المطر لأهل دمشق بأن لا ينتظروا معجزة لإنقاذهم.

انكسارات داخلية

المقاربة التي قدمها "حكاية في دمشق" مالت إلى اعتبار الحرب السورية من الماضي، لتنبش في انكسارات عميقة ومؤلمة تعيشها شخصيات الفيلم بلا فكاك منها، وبلا أمل في استرجاع علاقتها المتوازنة مع الواقع. جدلية تجلت في تلك المناجاة الداخلية لشخصيتي العم والصهر، فحتى بعد موت كل من الزوجة والابنة والحفيدة بقيت صورهن وأصواتهن تزور الرجلين في الحلم، فتحاصر أشباحهن جدران المنزل، وترمي أطيافهن الوحشة في قلب الرجلين. مشهد الطفلة بثوبها الأبيض وهي تمشي بين ألسنة اللهب افتتح المخرج بها شريطه المؤثر، فعمل على تقديم عتبة رمزية للأحداث والشخصيات التي سوف تفصح عن نفسها بلا استعجال. وضمن قالب رومانسي التبست عبره أدوار الضحية والجلاد، ليعتمد السيناريو الظروف المضادة بدلاَ من الصراع التقليدي بين شخصيات رئيسة وأُخرى مضادة لها، ما ترك المجال مفتوحاً لاستطالات في المعالجة الفنية، والدوران حول الشخصيات بدلاً من دفعها قُدماً مع كل مشهد من مشاهد الفيلم. وهذا ما بدا واضحاً في تكرار بعض المشاهد وخصوصاً هروب العم وظهوره واختفاءه، ثم ظهوره عند قبر ابنته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللافت في فيلم "حكاية في دمشق" هو إدارة الممثل، لا سيما في أداء كل من غسان مسعود ولجين إسماعيل، بحيث تمكن مخرج الفيلم من تعزيز الحس الساخر لديهما، ودفعهما إلى مواجهات صادمة وكاريكاتيرية في الوقت ذاته، ومن غير التقليل من حجم المأساة التي تعيشها الشخصية مع عالمها الداخلي والمركب، بل بالاعتماد على تحقيق عنصر المباغتة للمُشاهد، والانتقال بعدها إلى تجسيد ما يشبه سجناً لا مرئياً تحاول الشخصيات اختراقه عبثاً. ثم النهاية بتحطيم العم لعوده، ودخوله في حالة من الصمت المطبق، وانكفاء الصهر عن حبه لصاحبة المتجر ذات العلاقة القوية مع طيف جدتها، التي أورثتها تمسكها بالبيت الدمشقي الذي نشأت بين جنباته، فرفضت بيعه أو مغادرته إلى أي مكان آخر.

بالمقابل حاول مخرج الفيلم اللعب على مناخات لونية لافتة لشريطه الجديد، منتقلاً بين المشاهد واللقطات عبر لغة مونتاجية سلسة اعتمدت تقنيتي الظهور والإظلام التدريجي، لا سيما في الثلث الأخير من الفيلم. وذلك للدلالة على مرور الزمن، والمضي نحو إيجاد إطار تاريخي للنص ضمن سياق الحدث السوري. فزمن المعارك الذي انتهى في الفيلم لا يزال مستمراً في ذاكرة من شهدها، وما زالت القذائف تنهمر، والقصف النفسي أكثر مضاءً من أصوات المدافع وجنازير الدبابات، وهدير الطائرات الحربية. كل هذا جعل من "حكاية في دمشق" محاولة لتقديم قراءة مغايرة ضمن بنية بصرية ابتعدت عن التجهم السائد في أفلام الحرب السورية، وراهنت على عصيان الذاكرة، ومناعتها على نسيان الجراح المفتوحة.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما