Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحيّة "مفروكة" عن المرأة التي طلّقت وخسرت كلّ شيء

ثلاث ممثلات لبنانيات يقدمن نموذج المرأة المكسورة بأداء ساخر وأليم

الممثلات الثلاث يؤدين أدوار المطلقات الثلاث (الخدمة الإعلامية)

"مفروكة" كلمة لبنانية شعبية تعني نوعاً من الحلوى التي تُحضّر بالقشطة والمكسّرات ويتم فركها باليدين، أما هنا على خشبة مسرح مونو في بيروت، فهي مسرحية من إخراج رياض شيرازي وتأليف مروى خليل ووفاء حلاوي ومن تمثيلهما أيضاً، وإلى جانبهما الممثّلة الشابّة البارعة سيرينا الشامي. و"مفروكة" كناية أيضًا عن "المرأة المفروكة" أي بالعامّيّة اللبنانيّة المرأة التي نزلت بها نوائب الدهر وعانت ما عانت، لكنّها صمدت وتجاوزت كلّ ما حملته لها الأيّام على صعوبته.

وأقلّ ما يُقال في هذه المسرحيّة أنّها تضارع حلوى "المفروكة" لذّة وحلاوة وعذوبةً من ناحية، لكنّها من ناحية أخرى تنقل إلى الجمهور قسوة المجتمع الذكوريّ الذي لا يرأف ولا يتفهّم ولا يتسامح مع المرأة المطلّقة. وبين الحلوى والقسوة، بين المذاق اللذيذ والمذاق المرّ، ثلاث نساء، ثلاث ممثّلات باهرات متألّقات متوهّجات شجاعات، قدّمن أداء رائعاً لا تشوبه شائبة. ثلاث نساء جسّدن بكلّ زخم وصخب وواقعيّة قصّة "أمل" المرأة التي اختارت الطلاق وخسرت كلّ شيء في المقابل. ثلاث نساء جبّارات بأدائهنّ وأصواتهنّ وغضبهنّ وثورتهنّ وشغفهنّ، تحوّلن بفضل قوّة التعبير وصلابة النصّ وحنكة التأدية إلى مزيج أنيق يقدّم قسوة الواقع وخفّة السخرية الثاقبة في الوقت نفسه.

ومن الجدير ذكره أنّ التمثيل العفويّ والمدروس توافق تمام التوافق مع الديكور الذي تكوّن من ألواح خشبيّة طويلة يتغيّر استعمالها ويتغيّر ألوانها ورمزيّتها مع تقدّم العرض الذي يستمرّ زهاء ساعة وربع ساعة. فهذه الألواح التي تشكّل حيطان السجن المنزليّ هي خزائن وسرير ومرايا، هي أيضاً نوع من كواليس على المسرح تختفي خلفها النساء لتبديل ملابسهنّ في كلّ مرّة يتقدّم فيها االنصّ.

وقد رافق العرض إضاءة وموسيقى توافقا مع النصّ، فاشتدّا مع اشتداد المعاني وتحوّلا إلى موسيقى وأضواء حنين متى استعادت البطلة "أمل"، بنسائها الثلاث اللواتي يجسّدنها، ذكرياتها وقصّة حبّها. فبين الأغاني الاجنبية والعربية قصّة واحدة وامرأة واحدة ومأساة واحدة تلتقي حول وجعها نساء المجتمع اللبنانيّ بمختلف طوائفه ومذاهبه وطبقاته الاجتماعيّة.

القوانين تعسّر ولا تيسّر

تكتشف المرأة اللبنانيّة التي ترغب في الطلاق أنّ قوانين الأحوال الشخصيّة في لبنان لا تزال ظالمة متحيّزة ذكوريّة، فهي تحرمها من أبسط حقوقها وتمنع عنها أولادها ومطالبها المادّيّة، بخاصّة إن كانت هي التي تطلب الطلاق. وقد ركّز الكلام في هذه الكوميديا الساخرة على هذه القضيّة من مختلف أوجهها وبحسب مختلف الأديان وتمّ تمرير المرسلة بحنكة. فـ"أمل" المسيحيّة المتزوّجة من مسلم زواجاً مدنيّاً في قبرص تلجأ إلى الشيخ فالكاهن فالمحامي لتنال حضانة ابنيها، لكنّها تفشل في ذلك لأنّ قوانين الأحوال الشخصيّة كلّها تقف في صفّ الرجل وتمنحه الحضانة الكاملة، مع اختلافٍ بسيط في التفاصيل حول سنّ الطفل القانونيّة التي ينتقل فيها من حضن أمّه إلى بيت والده. إنّ الخسارة القانونيّة واقعة لا محالة للأمّ، فهي ستخسر حضانة أولادها إن تجرّأت على طلب الطلاق، لكنّها ستخسر ذاتها إن بقيت متزوّجة، فأين المخرج؟

إنّ ما تنادي به هذه المسرحيّة هو عدم حرمان الأمّ من أبنائها لدى الطلاق، وما تطالب به هو عدم ظلمها، عدم التفريط بدورها وكيانها وأهمّيتها في حياة أبنائها. الزواج والطلاق والميراث والحضانة لا زالت أموراً ظالمة بحقّ المرأة في مجتمعنا الذكوريّ حتّى اليوم في القرن الواحد والعشرين. لا زالت المرأة هي الحلقة الأضعف ليس لأنّها الضحيّة بل لأنّها منتهكة الحقوق، ليس لأنّها عاجزة بل لأنّها عزلاء. لا يعني الطلاق أنّ الأمّ لم تعد أمّاً، لا يعني الطلاق فقط أنّ شخصين بالغين عجزا عن العيش معاً لمدّة أطول، ولا بدّ من أن ينفصلا من دون أن يعاقب الدين والقانون أحدهما بشدّة مبالغ فيها. إنّ إصلاح القوانين الشخصيّة في لبنان سيخفّف من حدّة الشرخ العائليّ الذي تعاني منه العائلة المفكّكة بسبب الطلاق، فهذا الانفصال بنفسه مُقلق ومزعزع بالنسبة للأهل والوالدين، فلمَ جعله أكثر وحشيّة وقسوة؟

معوّقات الطلاق الاقتصاديّة

تنادي هذه المسرحيّة تحت طبقات كثيرة من الإضحاك والسخرية بضرورة تغيير قوانين الأحوال الشخصيّة وجعلها أكثر إنصافًا للمرأة. لكنّ المرأة أيضًا يجب ألاّ تستسلم. فـ"أمل" التي تقول بلسانها إنّها وضعت شهادتها الجامعيّة في خزانة الملابس "تحت فستان الزواج" بتعبير رمزيّ عميق الدلالات، تختار الطريق الصعب، طريق العودة إلى مجال العمل لتعيل نفسها وتقوم بأود بيتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تتأقلم "أمل" مع حياتها الجديدة كـ"مطلّقة" وتجد لنفسها وظيفة. تحاول هذه الأمّ "اليتيمة" من أولادها إن أمكن القول، التماسك والصمود على الرغم من حرمانها من ولديها وبقائها وحدها "خارج صورة العائلة"، فتجد لنفسها عملاً وتمارس اليوغا وتتغلّب على الصعاب. تتغلّب "أمل" على وجع رؤية زوجها مع امرأة أخرى، تتغلّب على وجع أن تستيقظ في السادسة صباحاً لتتحدّث عبر الهاتف مع ولديها البعيدين عنها قبل توجّههما إلى المدرسة، بينما هي في بيتها وحدها. تتغلّب على وجع أن تضطرّ إلى أن تعرف أخبار ولديها عبر الهاتف في المساء أو عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ.

إنّما تتحوّل "أمل" من الناحية الاقتصاديّة من الضحيّة إلى المرأة القويّة المستقلّة التي تعمل وتتحرّر على الرغم من الألم والظلم اللذين تعرّضت لهما.

عواقب الطلاق الاجتماعيّة

تعاني المرأة المطلّقة من أحكام مسبقة كثيرة لا يتوانى المجتمع في إلقائها عليها، فتقول "أمل" في المسرحيّة: "كلّ ما يشوفوني بيقولوا "حرام"! بدال ما يقولوا حمدالله على السلامة". تصبح المرأة المطلّقة منبوذة معزولة. عائلتها ترفضها وترى أنّ اللوم يقع عليها هي التي كان لا بدّ من أن تتجنّب هذا العار، فالطلاق "عيب". أصدقاؤها يتوقّفون عن دعوتها إلى أمسياتهم ومشاريعهم، فالنساء يخفن منها على رجالهنّ ويتّهمنها بأنّها هدّامة بيوت وامرأة قوّية متفلّتة من زمام الأخلاق والتقاليد. أمّا الرجال فيرون فيها لقمة سائغة يجوز التقرّب منها، مهما كانت الظروف ومهما كانت حالتها الاجتماعيّة. إنّ نظرة المجتمع إلى المرأة المطلّقة ليست أقلّ ظلماً من قوانين الأحوال الشخصيّة، وكأنّ الجميع يعاقب المرأة على طلاق هي طرف واحد فيه بينما الطرف الآخر مدلّل مرفّه.

تروح المرأة المطلّقة التي حاربت بشجاعة لتنال طلاقها وحرّيّتها تدفع الثمن غاليًا منذ اكتسابها هذا اللقب، فهي الملامة مهما كان سبب طلاقها. تصبح المرأة المطلّقة مرتبكة بذاتها وبجسدها وبمستقبلها وبطموحاتها: هل تجرؤ على الحلم؟ هل تجرؤ على البدء من جديد؟ هل تجرؤ على الحبّ من جديد؟ كيف الإكمال في ظلّ قوانين ظالمة وأحكام اجتماعيّة مؤذية؟

"مفروكة" مسرحيّة تتوقّف عند آثار النظام الطائفيّ والمدنيّ التقليدي في المجتمع اللبنانيّ الذكوريّ، بحنكة وخفّة وسخرية رائعة. هي مسرحيّة المرأة المطلّقة التي ترفض الاستسلام وترمّم نفسها وتستعيد أنوثتها، وهي كذلك مسرحيّة الأمّ التي تُمّحى من الصورة، لكنّ قلبها لا يزال يحمل همّ أبنائها هم الذين ينامون كلّ مساء بعيداً عن حضنها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة