Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أناتولي تشوبايس "مهندس خصخصة روسيا" استقال أم أقيل؟

جاءت مغادرته موسكو على وقع الحرب الأوكرانية لتثير الجدل حول قربه من بوتين الذي حمله سابقا مسؤولية الفساد الاقتصادي

أناتولي تشوبايس (رويترز)

لم تكف الغالبية الساحقة من مواطني روسيا والاتحاد السوفياتي السابق، عن صب لعناتها على أناتولي تشوبايس بسبب دوره في الخصخصة التي أطاحت بثروات البلاد لصالح حفنة من المضاربين والمغامرين في مطلع تسعينات القرن الماضي، وعلى رغم اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2013 بما فعله الرجل إلا أنه رفض محاكمته، بل خصص له منذ عامين منصب مبعوث الرئيس لشؤون البيئة... الآن يغادر أناتولي تشوبايس تاركاً وراءه العديد من الألغاز حول استمراره في دوائر السلطة لثلاثة عقود ثم اختفائه المفاجئ.

تشوبايس حظي إلى جانب لعنات الملايين، بألقاب مختلفة، منها "غير القابل للغرق"، الذي يتواءم مع كل الأنظمة، السيئة منها والجيدة، فضلاً عن "الليبرالي سيء الصيت"، التي لاحقته من جانب خصومه في أروقة وأوساط الشيوعيين، على مدى عقود طوال.

ظهر تشوبايس على سطح الأحداث في لينينغراد (سان بطرسبورغ الآن)، مع بدايات "البريسترويكا" (إعادة الهيكلة لاقتصاد الاتحاد السوفياتي) ممثلاً للتيارات الليبرالية، ومصارعاً للنظام الشيوعي، وتوجهاته، ارتبط ظهوره بالكثير من الجدل، وجاء اختفاؤه خلال الأيام القليلة الماضية، ليثير ما هو أكثر من الجدل، فهو لم يختفِ يوماً عن الأنظار إلا ليكون اختفاؤه مقدمة لتطورات أكثر دراماتيكية.

في الأعوام ما بين 1991-1994، شغل منصب "مهندس الخصخصة"، من موقعه كرئيس للجنة إدارة ممتلكات الدولة الروسية، ضمن فريق "الإصلاحي" يجور جايدار، ثم نائباً لرئيس وزراء روسيا، في حكومة فيكتور تشيرنوميردين، ثم رئيساً لديوان الرئاسة ووزيراً للمالية في عهد الرئيس بوريس يلتسين، الذي طرده في أعقاب الفوز الساحق للشيوعيين في الانتخابات البرلمانية لمجلس الدوما في ديسمبر (كانون الأول) 1995، محملاً إياه كل مسؤولية وتبعات الفشل، بقوله الشهير "المذنب الرئيس هو تشوبايس".

عاد لكي "يثأر"

بعد أن غادر الساحة السياسية، سرعان ما عاد ممتطياً صهوة جواد "الثأر" بتكليف من جانب أساطين المال والأعمال، ممن اجتمعوا في منتدى دافوس في ربيع عام 1996، ليعلنوا من هناك التعاون معه لإدارة حملة إعادة انتخاب يلتسين لفترة ولاية ثانية، وهو الذي لم تكن شعبيته تتعدى 6 في المئة، وقَبِلَه يلتسين على مضض، تحت ضغط ضباط الاستخبارات المركزية الأميركية، بحسب ما أعلن في وقت لاحق الرئيس بوتين.

وعلى رغم دوره السلبي الواضح على مدى سنوات طوال، والكراهية الشديدة له في الكثير من الأوساط السياسية والاقتصادية في روسيا، عاد تشوبايس ليعمل تحت قيادة فلاديمير بوتين، رئيساً لإحدى أكبر شركات الطاقة الكهربائية "راو يو أس"، وسرعان ما انتقل منها إلى مؤسسة "روس نانو" المملوكة للدولة، ليظل هناك لسنوات طوال، على رغم كل ما ثبت عملياً ضدها من فساد، وما تكبدته الدولة من خسائر، حتى تم تعيينه لاحقاً مبعوثاً شخصياً للرئيس لشؤون البيئة والعلاقات مع المنظمات الأجنبية في عام 2020.

وُلد تشوبايس في بوريسوف ببيلاروسيا 1955، ونشأ في أسرة عسكري سوفياتي من قدامى المحاربين، حيث شارك في الحرب العالمية الثانية، وخدم لاحقاً في صفوف التشكيلات العسكرية السوفياتية في بيلاروس وأوكرانيا ومواقع أخرى، إلا أن الشاب خرج معادياً لكل ما حوله من رموز شيوعية، كارهاً للنظام الاشتراكي، وأكثر ميلاً الى الأنماط الغربية، ومنها "اقتصاد السوق" وكل ما يرتبط به من مظاهر وتوجهات.

أخذ على عاتقه منذ الصبا والشباب في لينينغراد، مهمة تدمير كل ما هو سوفياتي، فانضم إلى صفوف الجماعات السرية، وبحث عن السند والمدد في موسكو مع مجموعة يغور غايدار، ثم انضم إلى فريق أناتولي سوبتشاك، أحد أهم الرموز الديمقراطية الليبرالية وأول عمدة للينينغراد، الذي سرعان ما تزعم حملة إعادة اسمها القديم "سان بطرسبورغ"، باستفتاء شعبي جرى في 12 يونيو (حزيران) عام 1991.  

وكمثال لدهائه، تسلل تشوبايس إلى صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي، على رغم توجهاته المعادية لكل الأعراف الاشتراكية، حتى أن زملاءه أطلقوا عليه ألقاباً لاذعة، مثل "المنشق الليبرالي"، و"غريب الأطوار".

السيرة الذاتية لتشوبايس توضح الكثير من التفاصيل؛ إذ حفلت بزيجات متعددة، وتنقلات بين مختلف الأوساط السياسية متباينة التوجهات، بغرض الوصول إلى الأنساق العليا للسلطة، فبدأ بالانضمام لفريق العمدة الجديد لـ"لينينغراد" أناتولي سوبتشاك، برفقة الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، والسابق دميتري ميدفيديف، ورفيقهما ألكسي كودرين، وغيرهم من أقطاب النظام الحالي في الكرملين، ثم لاحقاً ضمن فريق بوريس يلتسين ويغور غايدار في مطلع تسعينيات القرن الماضي على المستوى الفيدرالي المركزي في موسكو.

 إقالة أم استقالة؟

كانت وكالتا "بلومبيرغ" الأميركية، و"رويترز" البريطانية أول من أذاع خبر إقالة تشوبايس وأنباء مغادرته، فكان لذلك وقع "القنبلة" لأسباب كثيرة؛ ليس آخرها التوقيت الذي يواكب تصاعد العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وما يقال عن موقفه المعارض لها، وهو ما لم يؤكده أي من المسؤولين في الكرملين، أو من رفاقه، ومنهم فلاديمير يفتوشينكوف الملياردير الروسي اليهودي رئيس منظومة "سيستيما" التي عمل بها تشوبايس لبعض الوقت، إذ قال إن صديقه أخبره أخيراً عن خطط لمغادرة روسيا، مضيفاً "للأسف. نعم رحل، لكنني لا أعرف تحديداً إلى أين".

أما وكالتا أنباء "تاس" و"ريا نوفوستي" الروسيتان الرسميتان، فنقلتا عن دميتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للكرملين، قوله إن تشوبايس "استقال بمحض إرادته". وفيما يتعلق برحيله عن روسيا، قال "سواء غادر أم لا، فهذا شأن خاص به".

غينادى زيوغانوف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي، الذي يمكن تسميته بالعدو أو الخصم التاريخي لتشوبايس، قال معلقاً على أنباء اختفائه، إنه "كان يجب ألا يُسمح له بالخروج من البلاد. أطلقوا سراحه عبثاً. كان يجب أن يحاكم هنا". وكان زيوغانوف طالب في أكثر من مناسبة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، بضرورة محاكمة تشوبايس جزاء ما اقترفه من "آثام" على حد تعبيره، وهي التي ترتبط ببيع أصول وثروات الدولة، والسماح بتركيزها في أيدي حفنة من أثرياء روسيا الجدد، بأثمان زهيدة.

وفيما نقلت وكالة "آر بي كا" الاقتصادية الروسية عن اثنين من معارف تشوبايس لم تذكر اسميهما، أنه وقرينته الأخيرة أفدوتيا سميرنوفا المخرجة السينمائية والسيناريست، شوهدا في إسطنبول، قالت مصادر وكالة "بلومبيرغ" إن تشوبايس كشف صراحةً عن معارضته للحرب التي شنها الكرملين في 24 فبراير (شباط) في أوكرانيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مغادرة روسيا تحت أنظار بوتين

غير أن هناك من المؤشرات والقرائن، قديمها وحديثها، ما يؤكد أن تشوبايس لم يكن ليغادر روسيا من دون علم الرئيس فلاديمير بوتين، وهو الذي يرتبط به بعلاقات وثيقة، كما أن أحداً لا يستطيع الجزم بأن مغادرته بمثابة إعلان عن "القطيعة النهائية"، بما يعني ضمناً أن الأبواب تظل مفتوحة أمام احتمالات عودته، بعيداً مما تموج به الساحة الإعلامية، الغربية والعربية على حد سواء، من تعليقات تفتقد إلى التقديرات الموضوعية.

وفي هذا الصدد ينبغي العودة إلى تاريخ العلاقة بين القطبين السياسيين الكبيرين بوتين وتشوبايس، وكانت البداية بعملهما المشترك تحت قيادة أناتولي سوبتشاك، عمدة لينينغراد، قبل انتقال تشوبايس للعمل في الحكومة الروسية في موسكو. ويكفي هنا الاستشهاد بما قاله بوتين نفسه بمؤتمره الصحافي السنوي عام 2013.

الرئيس الروسي خاطب الصحافي الذي توجه إليه بسؤاله عن مدى احتمالات تقديم تشوبايس إلى المحاكمة جزاء دوره في تبديد ثروات الوطن، بموجب "برنامج الخصخصة سيء الصيت"، بقوله: "انظر، أنت لا تحبه، كل شيء كان سيئاً تحت قيادته، لم نعد نفعل ذلك بعد الآن".

بوتين نفسه، وعند مناقشة مشكلة "العملاء الأجانب" أشار إلى أن أفراد وكالة الاستخبارات المركزية عملوا في الحكومة الروسية في منتصف التسعينيات، إلى أن نفذ ما سماه "حملة التطهير"، قائلاً "في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، صفيت الجميع، لكن في منتصف التسعينيات، كان هؤلاء يعملون كمستشارين وموظفين رسميين في الحكومة الروسية، كان لدينا، كما اتضح لاحقاً، موظفون من العاملين رسمياً في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية".

الرئيس الروسي ذهب إلى أبعد من ذلك، خلال حديثه إلى الأمة على الهواء مباشرة، في أبريل (نيسان) 2013، عندما قال "الجميع يفهم كل شيء؛ أناتولي تشوبايس هو من ترأس الهيكل الذي كفل عملية نهب البلاد وتدمير المؤسسات، وكان ضباط من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يعملون ضمن حاشيته".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير