Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فاريا الأوكرانية علمت الطالب ميخائيل نعيمة الحب الإباحي

ذهب في بعثة دراسية اورثوذكسية إلى بولتافا وكتب قصيدة "النهر المتجمد" بالروسية

شابة أوكرانية من فترة الثلاثينيات للرسام جاسيك مالشوسكي (متحف الفن الأوكراني)

"ولو لم يكنْ في قلبي ودمي في حاجة إلى قلب المرأةِ ودمِها لما كانَ بيني وبينَ فاريا في روسيا، وبيلاّ ونيونيا في أميركا، وهنّ النساء الثلاث اللواتي لم أعرفْ في حياتي غيرهنّ معرفةَ الرّجل للمرأة. والخبرة التي جنيتُها من معرفتهنّ زادتني غنىَ روحياً، وأحسبُ أنّي أغنيتُهنّ على قدر ما أغنيْنني..." (ص:347، سبعون، المرحلة الثانية).

مع هذا الإقرار، من قبل ناسك الشخروب، هذا اللقب الذي أسبغه توفيق يوسف عواد على ميخائيل نعيمة، بوجود علاقة كاملة (جنسية) بينه وبين نساء ثلاث، إبّان غربته الروسية -الأوكرانية والأميركية بعدها، يبرز بعدٌ في سيرة ميخائيل نعيمة لم يسبق أن سلّطت الأضواء عليه بما يكفي لاستجلائه بالقدر الكافي، في مقابل الدراسات المستفيضة عن علاقات جبران خليل جبران المعلنة والسرية. في مذكّراته المفصّلة التي أشرنا إليها، والتي تعدّ إحدى أهمّ السّير العربية، العائدة لكتّاب عرب مخضرمين، في أواخر القرن التاسع عشر، وتوفوا في نهاية القرن العشرين (1889-1988) يروي ميخائيل نعيمة أنه، وبعد أن أنهى دراسته في دار المعلّمين في الناصرة (1902-1906) اختير ليتابع تعليمه في روسيا، لتفوّقه على زملائه في الدراسة، وليتخرّج من تلك المدرسة مديراً أو مشرفاً على المعلّمين في إحدى مدارس الموسكوبية التي كانت منتشرة في لبنان وفلسطين وسوريا. وصفة الموسكوبية تعني أنّ المدرسة كانت تُنمى إلى الطائفة الأرثوذكسية وأنّ إدارتها وتوجّهاتها كانت تابعة لروسيا القيصرية، وكان يهمّها أن تخرّج معلّمين وكهنة يتدبّرون تعليم أبناء الطائفة وبناتها في الديار الواقعة فيها أديارهم ومدارسهم.

ميشا الشاب

إذاً، كان لميخائيل نعيمة، وقد بلغ السادسة عشرة من عمره، أن يُرسل إلى السيمنار الروحي، وهو كناية عن مدرسة ما فوق المرحلة الثانوية بقليل، ويمتدّ برنامجها ستّ سنوات، يعطى الطالب في السنوات الأربع الأولى علوماً علمانية، وفي السنتين الأخيرتين يعطى المواد الدينية والطقوس والعقائد الدينية الأرثوذكسية. وكانت هذه المدرسة في مدينة بولتافا من أعمال أوكرانيا، قبل أن يكون لها كيان مستقلّ. وكان أميَز ما في تلك البلاد، والمدينة الأوكرانية البرد القارس الذي كان يحار الفتى اللبنانيّ كيف يتدبّره ويقيه، أبالجوارب، أم بلفّات الكتّان التي كانت تعطى للطلاّب، والفتيات اللواتي كنّ محطّ أنظار طلاّب السيمنار، وسائر الشبّان، في تلك المدينة ذات القوميات واللغات المتعددة، ومن حيث يمرّ نهر فوسكلا، المتفرّع من النهر الكبير دنيبر. وكان ميخائيل نعيمة قد نظم قصيدة بالروسية عن ذلك النهر إبّان تجمّده، شتاء، وعنونَ قصيدته "النهر المتجمّد"، ومن ثمّ نقل القصيدة بنفسه إلى العربية نظماً، وذلك في سياق تأمّله بجريان الزمن، وانقضاء الشباب، وأفول الآمال وزوال الأحوال، على وزن بحر الكامل، يقول فيه:

"يا نهرُ، هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريرْ؟ / أم قد هرمتَ وخارَ عزمُكَ فانثنيْتَ عن المسيرْ؟/ بالأمسِ كنتَ مرنّماً بينَ الحدائقِ والزهورْ/ تتلو على الدنيا وما فيها أحاديث الدهورْ// بالأمسِ كنتَ إذا أتيتُكَ باكياً سلّيتَني/ واليومَ قدْ هبطتْ عليكَ سكينةُ اللحدِ العميقْ...".

ولمّا كان ميخائيل، أو ميشا، بحسب تسميته الجديدة، بارعاً بالأدب، ومنصرفاً إلى قراءة الأعمال الأدبية باللغة الروسية، بدأ نجمه الأدبي يلمع، وجعل يستقطب الفتيات من معارف أصدقائه الأوكران، إلى أن تعرّف بالصدفة إلى امرأة شابة تدعى فاريا، في مدينة بولتافا، وكانت زوجة شابة لرجل يدعى كوتْيا، هزيل القامة، متديّن وكثير المخاوف، وعديم الشخصية. ولمّا توثّقت العلاقة بين ميشا وكوتيا، وأمنت زوجته فاريا من ميشا، تلميذ السيمنار المتشوّق للأنثى، عمدت إلى حيلة الغرفة المعتمة تدفعه إليها بحجّة تعلّمها تحميض الصور التي كان زوجها يلتقطها بكاميراه، لتنفرد بميشا وتتبادل وإياه القبل، وتدعوه للمزيد ما دام "بعلها" كما يسميه نعيمة، منصرفاً عن زوجته، ولا يعنى بشؤونها.

حب إباحي

وعلى ما قال ميخائيل نعيمة في سيرته الذاتية إنه عرف علاقة جنسية تامة مع فاريا، وأنّ الأخيرة وقعت في غرام ميشا، وبات هاجسها الأوحد كيف تستبقيه وتبعد زوجها العاجز والمحطّم، حتّى أنها سعتْ جاهدة إلى إدخال زوجها أحد الأديرة لعلّه يصير راهباً فيه، إلاّ أنّ مسعاها خاب لعلم الرهبان أنّ له امرأة وأنه لم يتطلّق منها بعد. وفي هذه الأثناء، كان ميشا قد أنهى سنته التعليمية الرابعة (العلمانية) في سيمنار بولتافا، ومضى عائداً إلى لبنان لرؤية أهله. وما إن أقلع إلى أميركا مع أخيه أديب، إثر زيارته الخاطفة إلى بسكنتا، ورؤية والديه وإخوته الباقين، حتّى أقبلت عاشقته الأوكرانية فاريا، لاحقة بميشا، تاركة خلفها كوتيا زوجها الهزيل، تبحث عنه في بسكنتا، فيقال لها إنه غادر لتوه إلى أميركا.

لمْ تمضِ فاريا الأوكرانية من دون أن تترك أثراً في نفس ميشا، فكانت هي الباعث على كتابته مجموعته الشعرية الوحيدة "همس الجفون". وحتّى يمكن القارئ أن يعيّن بعضاً من قصائد المجموعة لها بالذات، على سبيل المثال قصيدة "صرفتُ حبيبتي عنّي" التي سبق لنعيمة أن نظمها بالروسية، ثمّ ترجمها نثراً إلى العربية:

"صرفتُ حبيبتي عنّي وناشدتُها الله/ ألاّ تعود إليّ/ إلاّ من بعد أن تتقنَ الحبّ. / لكنّها ما عتّمت أن عادت/ وأكبّت بشفتيها على شفتيّ/ كأنّها الرّضيع الجائع يكبّ على ثديِ أمّه/ وعندما انتشتْ وتنهّدتْ تنهّدة الشهوة الظّافرة/ سلختُ فمها عن فمي وهمستُ في أذنها: إليكِ عنّي يا يمامتي/ لقد أتقنتِ تغذية ملذّاتكِ المائتة/ أمّا الحبّ فما تعلّمتهِ بعد" (همس الجفون، ص:116)

والقصيدة طويلة، انطوت على أربعة مقاطع، وفيها يدعو حبيبته، في المقاطع الثلاثة أن تنصرف عنه لتتعلّم الحبّ، وفي الرابع، إذ يلقى حبيبته لدى "شاطىْ اللاذاتية" ما وراء الموت، "غارقة في لجة الأحلام"، ويدرك أنها بلغت مقام الحبّ، يهتف عالياً: "إليّ، إليّ يا حمامتي/ لقد آن وقت الطّيران" (ص:118)

عشيقات لاحقات

ظلت صورة فاريا الأوكرانية حاضرة في وجدان نعيمة حتى بعد ان تعرف إلى  بيلاّ الأميركية فكان لقاء نعيمة بها شبيهاً بلقائه فاريا ولكن في إطار يكاد يكون خالياً من الصراع الداخليّ بين الشهوة المسببة للخطيئة، على ما تشرّبه ميشا تلميذ السيمنار من قواعد السلوك المسيحي. إذ وقعت المرأة بيلاّ المتزوّجة من رجلٍ سكّير يدعى هارّي، بحبّ ميخائيل، فقررت إبقاء حبيبها مقيماً معها في المنزل الريفي الذي تولّى ميشا التفاوض لشرائه، إلى جانب زوجها، بعيداً من نيويورك وضوضائها. ولمّا راحت بيلاّ تتمادى في تودّدها وإعلان حبّها لميخائيل، على مرأى زوجها، أثارت غضبه وغيرته عليها، مما اضطرّ نعيمة، آخر المطاف، إلى مغادرة المكان والعودة إلى نيويورك، وسط "دمعة هاري واعتذاراته" ودموع بيلاّ الغزيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طبعاً، لم يشأ ميخائيل نعيمة أن يترك تلك العلاقة من دون أثر شعريّ، فكانت قصيدته المعنونة "الى م. د. ب"، والتي مؤدّاها أنّ ذات الشاعر العاشق، إذ اتّحدت بالكائنات وبالألم والبدايات وبالنّور، فقد صار بطبيعة الحال متحداً بها، "من الأزل وإلى الأبد" قاهراً كلّ عوامل البعد والمكان والزمان: "أنا السرّ الذي استترا/ بروحكِ منذ ما خطرا/ ببالِ الكائنِ الأعلى/ خيالُ العالم الأدنى/ فصوّرَ من ثرىً بشرا"(همس الجفون، ص:102).

المرأة الثالثة في عداد علاقات ميخائيل نعيمة الجسدانية التي افتتحتها الاوكرانية الجريئة فاريا، تدعى نيونيا، وكانت من أصل بولوني، فنّانة ومحترفة في رقص الباليه، وتقيم حفلات لديها على أنغام الموسيقى الكلاسيكية، تؤدّيها فرقة من العازفين المحترفين. ولمّا كان ميشا أحد المدعوين إلى حفلة نيونيا، وقد ذاعت شهرته في نيويورك شاعراً باللغة الإنكليزية، محتفى به بجريدة "نيويورك تايمز" الأميركية. ويظهر العاشقان على خير وئام وانسجام فترة امتدّت لسنتين (1929-1931) مديدتين، إلى أن أسرّت له، وهي دامعة أنّ مرافقها الدائم إن هو إلا زوجها، ولطالما كانت تغفل تسميته الزوجية، وأنها مما يؤلمها أشدّ الإيلام أن تنغّص حياة زوجها وأن تتسبّب برحيل حبيبها "ميشا"! عند هذا الحدّ مثلت في خاطر نعيمة تجربتاه السابقتان، فأدرك أنْ لا مفرّ من النهاية نفسها.

حب هيلدا

أما هيلدا، وهي المرأة الرابعة التي، وإن كان امتنع عن إدراجها مع النساء الثلاث اللواتي شاركنه علاقته الجسدانية، فإنها، وقد تعرّف إليها في جنازة جبران، صديقه ورفيق دربه ومسيرته الأدبية، بالرابطة القلمية عام 1931، بإحدى الكنائس المارونية في مدينة بوسطن، فمثّلت صنفاً أخيراً من النساء العرّافات اللواتي أمددنَ نعيمة بما كان يأمل به، غداة اجتياز عتبة الأربعين من عمره وما يزيد على السنتين، ألا وهو المزيد من الحوافز للعودة إلى وطنه، إذ قال: "أذهلتني هيلدا بحلم روته لي بعيد أن صممتُ العودة إلى الوطن. وكانت لا تعرف شيئاً عن تصميمي. فقد رأتني في ذلك الحلم وفي يدي معوَل أشقّ به الأرض. وعندما سألتْني عن الذي أفعله أجبتها من غير أن ألتفت إليها، ومن غير أن أتوقّف لحظة عن عملي: إنّي أشقّ طريقاً لي في هذا الجبل" (ص:328)

لم تشغل المرأةُ ميخائيل نعيمة في موطنه، على ما بدا من سيرته "سبعون"، بمرحلته الثالثة والأخيرة. ولئن تواترت الكثير من الإشاعات على ألسنة عارفيه والمحيطين به بأنّه كان مزمعاً على الزواج من إحدى فتيات الجبل، فإنّ الوقائع كلّها والشهود، ومنهم توفيق يوسف عواد أول صحافي زاره مهنّئاً بعودته إلى الوطن، سرعان ما تفيد ببطلانها.

ذلك أنّ "الفتى قد تزوّج فاتنة تدعى الكلمة، وأنجب منها أولاداً لا يظنّ أنهم سيعقّونه في آخرته، لأنّه أرضعهم عصارة قلبه وفكره، مثلما أرضعتِ أنتِ (أم الكاتب) بنيكِ من دمك ولحمكِ" (ص:243).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة