Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريتسوس... شاعر النوافذ المفتوحة على ملاحم الإغريق

مختارات وجيزة بترجمة سركون بولص

الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (متحف سيكلا ديك)

منذُ أن ترجم سعدي يوسف مختارات من شعر ريتسوس "إيماءات" عام 1979 عقب حصوله على "جائزة لينين" النسخة الاشتراكية لجائزة نوبل التي رشح لها أربع مرات بين الأعوام 1959 و1965. ولم يفز بها، تسرَّب تأثير حفيد هوميروس سريعاً للشعرية العربية بخاصة في شعراء "قصيدة النثر" وسرعان ما شغلَ مكانة إليوت الراسخة نقدياً في تأثيره في تجارب ما يمكن تسميته الحداثة الشعرية العربية الأولى متمثلة بجيل الرواد في العراق وشعراء مجلة "شعر" في لبنان. بيد أن تأثير الشيوعي الإغريقي امتدّ إلى عناوين تحاكي أو تقتبس عناوين دواوينه: "إروتيكا"، "الحائط في المرآة" ... ولأننا لم نكتشف ريتسوس إلا عبر لغة وسيطة، ولكثرة ما ترجم من شعره عن الإنجليزية، فقد بدا وكأنه شاعر يوناني يكتب بالإنجليزية. وأسهمت في ذلك كثرة المختارات الصادرة له بالإنجليزية منذ أوائل السبعينيات، على الرغم من أنه كان معروفاً في فرنسا قبل ذلك إذ كتب عنه أراغون: "سأقولها بصوت عالٍ إنه أكبر شعراء عصرنا"، وقد كتب أراغون عبارته تلك عام 1957 حين كان العالم يعجُّ بالعديد من الشعراء الكبار. لكن شعر ريتسوس لم يقرأ بالإنجليزية على نحو حقيقي إلا بعد ترجمة مختارات موسعة من شعره أنجزها مواطنه نيكوس ستانغوس عام 1974 فيما شكلت المقدمة التي كتبها بيتر بين مفتاحاً أساسياً لفهم تجربة "شاعر البساطة الخادعة" كما سماه، حتى أصبح تأثيره في الشعر العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة قارَّاً نقدياً حين نشر الناقد فخري صالح كتابه "شعرية التفاصيل: أثر ريتسوس في الشعر العربي المعاصر"، مشيراً إلى تأثيره في تجربة سعدي يوسف نفسه إضافة إلى تجارب عدد من الشعراء العرب من جيلي السبعينيات والثمانينيات معززاً ذلك بمختارات من شعر ريتسوس تدعم دراسته.

والواقع أن شعر سعدي لم يخلُ من الانتباه للتفاصيل اليومية وضخَّها في القصيدة، حتى قبل اطلاعه على شعر ريتسوس، بخاصة في دواوينه "الأخضر بن يوسف ومشاغله" و"الليالي كلها" و"تحت جدارية فائق حسن" لكن مما لا شكَّ فيه إن اطلاعه على شعر ريتسوس أضفى على قصيدته جرعة جديدة من الاهتمام باليومي.

لكن التركيز على التفاصيل ليست وحده ما يجمع بين سعدي وريتسوس، بل كذلك المواظبة اليومية على كتابة القصيدة، حتى أضحى سعدي أبرز الشعراء العرب المكثرين، فتجاوزت كتبه المئة بين شعر ونثر وترجمة كما هو شأن شاعره المفضَّل ريتسوس.

سركون بولص الذي يبدو شعره أكثر صلة بشعر جيل الخمسينيات في أميركا، وتحديداً "جيل البِيت" الذين عرَّفَ بشعرهم مبكراً ونشر مختارات لعدد منهم، لم يشأ أن يترك شاعراً كريتسوس بعيداً عن عالمه، وإن لجأ إلى الترجمة عن لغة وسيطة، كما أن قصيدة سركون في جانب منها لا تبدو بعيدة من قصيدة ريتسوس بخاصة لجهة اهتمامه الدقيق بالمعمار الخيطي للقصيدة بما يقربها من بنية حكائية خفية في نسيج مُتقنٍ.

وعلى الرغم من أن هذه القصائد مما تركه سركون مسودة في دفتر وتولى صديقه الشاعر والناشر خالد المعالي إعداده ونشره أخيرا عن "دار الجمل" واعتمد فيها على مختارات نيكوس ستانغوس وأدموند كيلي، الصادرتين في السبعينيات والثمانينيات على التوالي، إلا إنها قصائد مختارة بعناية، على الرغم من أنها وجيزة في حجمها، وتكاد تشكل وحدة متكاملة، على الأقل في الشكل الشعري العام. فهي تستثني بتعمد واضح جميع قصائد ريتسوس الطويلة وأشكاله المتنوعة في كتابة القصيدة، وهو ما أورده ستانغوس في مختاراته الشاملة. ومثل هذه الترجمات الانتقائية قد لا تقدِّم صورة بانورامية للشاعر، لكنها تعيد اكتشافه على وفق الذائقة الشخصية للمترجم. وعندما يكون المترجم شاعراً ذا تجربة مهمة في القصيدة وله فهمه الخاص لها، فمن الطبيعي أن تكون الترجمة نوعاً من الاستحواذ المجازي الجمالي على جانب محدد من تجربة الشاعر الآخر في اللغة الأخرى، إذ لا يمكن أية مختارات أن تحيط ببانوراما الهوية الشعرية المتشعبة لهذا الشاعر الغزير الذي جرَّب كل الأشكال الشعرية الممكنة، وأية محاولة لتجسيد التنوع أو التسلسل الزمني، ستستدعي عملاً ضخماً يفوق حجم الأعمال الشعرية لكثير من الشعراء، بخاصة أن بعض أعمال ريتسوس ذات بناء ملحمي، وبعضها قصائد طويلة متل "سوناتا ضوء القمر" و"أغنية أختي" أو ذلك الإنشاد البطولي في "مسيرة المحيط" و"روموسيني" والغنائية المفخمة في "أبيتافوس". وكان طبيعياً أن يقصي سركون مثل هذه المطولات، فهو نفسه لم يكتب المطوَّلات ولعله لا يأنس لها لدى سواه من الشعراء. وهكذا فإن المختارات تمثل ذائقة سركون الشعرية، لا عمل ترجمة مجرداً، فريتسوس شاعر صورة مكثفة مرة، وشاعر سرد مسترسل مرة أخرى، حتى يبدو في كثير من الأحيان شاعراً قصصياً وهي الوشيجة التي استهوت سركون في مختاراته هذه.

اليومي والملحمي

في شعر ريتسوس لا تنفصل الشخصيات اليومية عن امتداداتها الملحمية، حتى من دون قرينة صريحة، فحين يتحدث عن الصيادين لا يمكن إلا أن نستحضر البحر الإغريقي، ومشهد المرأة الخياطة أو حتى تلك تقشر البازلاء يستدعي صورة "بنيلوب" أمام نولها، وجنود الحاضر يذكّرون بمحاربي إسبارطة فتتداخل الحروب الأهلية مع معارك الإمبراطوريات القديمة، والعميان والشيوخ مرايا يومية لـ "تيرسياس" والشاب الذي يعدم أو تطلق عليه النار من عسكر الدكتاتور، تظهر فيه ملامح الأبطال القتلى من "آخيل الإغريقي" إلى "هكتور الطروادي" وتيه "يولسيس" معادل لمنفى ريتسوس الشخصي، وعودته إلى "أثينا" استعادة لتلك العودة إلى "إيثاكا" ومشقَّة الرحلة بينهما لا تختلف كثيراً.

والواقع إن تاريخ اليونان في القرن العشرين الذي عاش ريتسوس غماره، لا تقل أحداثه التراجيدية عن التاريخ الإغريقي القديم، حيث ويلات حربين عالميتين، وحرب أهلية، وسقوط الملكية وصعود الدكتاتورية، والصراع العرقي الخفي، والنزاعات الإقليمية المستمرة مع الجارة اللدود "تركيا" التي تستعاد معها عقدة طروادة، لهذا من الطبيعي أن ينعكس هذا التداخل القلق في أعماق شاعر كريتسوس. وإذ تكاد هذه الروح الإغريقية تشكل سمة جامعة لشعراء اليونان في القرن العشرين أو من سماهم بيتر بين "المثلث الإغريقي: ريتسوس وكفافي وكازنتزاكيس" وحتى "سيفريس" و"إيليتس" إلا أنَّ ما يميز شعر ريتسوس ذلك الإيغال في تماهيها مع اليومي والراهن، بما يصعب ترجيح الرمز على المرموز، فحين يختار صيغة جموع غبر معرَّفة في كلمة واحدة عنواناً لأغلب دواوينه: "جرارات" "أهرامات" "شهادات" "إعادات" "إيماءات" "أقواس" "شرفات" "أحجار" إلخ، فكأنه يريد لقصيدته أن تكتظَّ بالأشياء والعناصر الخارجية ليتاح له من خلالها خلق استعارات وأقنعة للتعبير عن احتجاب الملحمة الإغريقية داخله! ليجعل من أي لقاء مع القارئ بعد اجتياز هذه "الجموع" مصافحةً تاريخيةً مع "البساطة العميقة":

"كم من الرُّسُل. لا أعرفُ

أحداً. لقد سافروا،

تركوا لي هويّاتهم على طاولة الرخام

لكي أتقصّى ولا أجد، ما كانوه،

وهذه الصور الفوتوغرافية الأكثر وحشة".

وهو إذ يستغرق في تقصِّي المواربة عبر الازدواج: الصوت المزدوج، والمعنى المزدوج، فإنه يؤكِّدُ ان هذه الثنائية تتعبه: "لقد تعبتُ من الأبواب/ مغلقةً ومفتوحةً خلفها الأمواتُ أو النساء". حتى استخدامه المتقن لضمير الغائب تلتبس فيه شخصيته مع الآخر حتى يصعب التقاط سمات كل منهما:

"هو وأنا، يقولُ، نؤدِّي وظيفتينِ مُتشابهتينِ،

تماماً، في اختلافهما"

"قال: "المرساةُ" لا تعني الإرساءَ،

أو ارتباطاً بقاعِ البحرِ، لا شيءَ من هذا

لقد حملَ المرساةَ إلى غُرفتِهِ، وعلقّها

في السقف مثلَ ثُريَّا".

ريتسوس شاعر تنفتح نوافذه، وهي مفردة أثيرة في شعره، على عصورٍ مطمورة، وتشبيهاته التي تبدو مرئية ومألوفة تلتقي فيها اليونان الشيوعية والإغريقية، وتحت شفافية السطح تلتمع إغواءات الأعماق. وبهذا المعنى فإن شعر ريتسوس لا يتنمَّقُ ببلاغة لغوية، لكن بلاغته مركبة من عناصر مشهد فسيفسائي يشكِّلُ فيه الأشخاص والأشياء والأمكنة بانوراما هائلة لاستعارة خفية، يُعيدنا من خلالها إلى عصور موغلة في القدم، إلى عالم ما "قبل ميلاد الإنسان" عنوان أحد دواوينه المتأخرة.

المزيد من ثقافة