Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حياة الآخرين" ينسف الهوة الأخلاقية بين الحزب وضحايا القمع 

الفيلم الألماني الذي تساءل عما يحول ضابط الاستخبارات لكي يصبح إنساناً

مشهد من فيلم "حياة الآخرين" (موقع الفيلم)

عاشت السينما الألمانية منذ ولادتها في ركاب السينمات العالمية الأخرى عند نهايات القرن التاسع عشر، مراحل متعددة كان يبدو للوهلة الأولى أنها تولد من رحم بعضها البعض، ولكن سرعان ما كان يتبين أنها وعلى خلاف معظم السينمات الأخرى، إنما تولد من رحم مجموعة متقاطعة، وربما متناحرة من الظروف السياسية والاجتماعية والتاريخية، بالتالي من الصعب أن يمكننا ضمها في سياق انسيابي تاريخي واحد. وطبعاً لا يكفي المجال المتاح هنا للدخول في تفاصيل هذا الأمر، ولكن يمكننا التوقف عند بعض السمات الأخيرة لهذا السياق التاريخي لنلفت مثلاً إلى أن السينما، في ما كان يسمى في سبعينيات القرن العشرين ألمانيا الغربية، بدت دائماً وليدة التاريخ الراهن لتلك المنطقة من العالم غير قادرة على أن تبني علاقات جمالية أو حتى تاريخية مع تلك "السوفياتية الهوى" التي كانت تصنع في ألمانيا الأخرى، الشرقية الاشتراكية، ولا حتى مع التاريخ المنظور للسينما التعبيرية الألمانية التي كانت تصنع في ألمانيا الموحدة قبل الحرب العالمية الأولى.

سينما معجزة إديناور

فسينمائيون من طينة فيم فندرز وفاسبندر وهرتزوغ وسيبربرغ وغيرهم من أساطين فورة ألمانيا "معجزة إديناور" بدوا كعشبة شيطانية طالعة من مكان لا علاقة له بسينما ألكسندر كلوغي وغيره، أو بالسينما التي أنتجت في الماضي "عيادة الدكتور كاليغاري"، أو "متروبوليس"، أو تلك الشرائط الأخرى التي هجست بمجيء هتلر ونازييه، أو حتى استدعتهم، ومهّدت لهم. ومن هنا، حين حلت نهاية ألمانيا الديمقراطية، كان من الطبيعي توقع انبعاث سينما ألمانية جديدة لا تنتمي، ولا أسلوبياً حتى، إلى سينمات الما – قبل. لم يطل انتظار الهواة يومها طويلاً إذ سرعان ما ظهر فيلم "وداعاً لينين" ليطلق الحراك السينمائي الجديد عميقاً مدهشاً يحاول نعي الماضي، وحتى دون خبث أو ندم. وكما وعد هذا الفيلم الذي عرف كيف يحقق نجاحاً كبيراً وحضوراً عالمياً، راح يتلوه سيل من أفلام تحقق ما يشبه نجاحه ورؤيته للواقع الجديد، ولكن كذلك نظرته إلى الماضي، ولكن من دون خوف، أو حتى دون مكر. وإذ لن يبدو منطقياً هنا التوغل في السرد التاريخي لتتابع أفلام هذه السينما الجديدة، سيكون من المفيد أن نتوقف عند واحد من أبرزها وأكثرها دلالة، بل عند الفيلم الذي نعرف تماماً أنه يكاد يبدو وكأنه اختصر كل الأفلام الأخرى، لكنه اختصر في طريق الدور الذي يمكن أن يُناط "الآن" بنوع معين من السينما الألمانية في حقبتها الجديدة. ونتحدث هنا عن "حياة الآخرين" الذي من المدهش أنه كان فيلماً أولاً حققه مبدع شاب غير معروف هو فلوريان هانكل فون دونرسمارك، سوف ينتشر اسمه كثيراً منذ ذلك الفيلم مثيراً من حوله لغطاً وإعجاباً كبيرين.

المخبر والحزب والضحايا

منذ البداية لا بد من القول إن "حياة الآخرين" يبدو في الحسابات كافة، الفيلم الأكثر التصاقاً بالراهن السياسي لألمانيا خلال الحقبة الفاصلة بين سقوط جناحها الشرقي بنظامه الاشتراكي، وبين الوحدة الألمانية التي لم تكن في حقيقتها سوى ضم ألمانيا الغربية، ألمانيا الأكثر غنى والرأسمالية، لألمانيا الأخرى. غير أن هذا ليس موضوع الفيلم، وإن كان يطفو في مناخه العام، دون أن يحاول استخلاص أية دروس أيديولوجية من ذلك الواقع، بل على العكس تماماً، كما يمكننا أن نرى بسهولة، علماً بأنه إذا كان الفيلم قد أثار من السجالات ما يفيض عن موضوعه وحاجته، فإن ذلك أتى من خارج الفيلم، لا من داخله، ولنحدد: من سماته الإنسانية ولغة التسامح التي انتهى بها الأمر إلى أن تخلق تعاطفاً، إن لم يكن تماهياً، مع الشخصية في الفيلم التي كان يجب أن تكون الأسوأ: الشخصية المحورية التي هي ضابط استخبارات ألماني شرقي مكلف مهمة التجسس على مجموعة من المعارضين المبدعين بدفع من رؤسائه الحزبيين الستالينيين المهيمنين على مقدرات الدولة في عهد هونيكر الذي فاق في ستالينيته أيام الحكم الاشتراكي ستالينية الكرملين ممارساً السلطة من طريق جهاز الاستخبارات "الستاسي" الذي كان يعرف بأنه الأقسى والأشد دهاء وقمعاً في طول العالم الاشتراكي وعرضه. ومن نافل القول هنا أن غيرد فايسلر ضابط "الستاسي" في الفيلم، موظف عادي يتطابق تماماً مع الصورة التي رسمتها الفيلسوفة حنة آرندت للنازي أدولف إيخمان في كتابها "إيخمان في القدس"، صورة أثارت في وجهها العواصف لأنها تحدثت عن "عادية الشر" وعن "الموظف البيروقراطي الذي لا يفعل سوى تنفيذ أوامر قادته"، متسائلةً عن "مسؤوليته القضائية في ذلك بعيداً من المسؤولية الأخلاقية".

نهايات مفاجئة

في بداية الأمر، تكاد صورة فايسلر تتشابه، مع حفظ الفوارق الكمية طبعاً، مع صورة إيخمان، لكن الأمور سوف تنتهي على غير ذلك، وليس فقط لأن الأوضاع نفسها ستكون قد تبدّلت في السياسات العليا أثناء ذلك. طوال الفيلم يقوم فايسلر بعمله الاستخباراتي بكل جهد وإمحاء ذات، فيزرع الميكروفونات في شقة المسرحي المشاكس جورج دريمان ويتجسس على علاقته بفتاته الممثلة الشهيرة، في الفيلم كريستا ماريا سيلاند التي يريدها لنفسه أحد كبار رجال الحزب والدولة ما يبدي الأمر أحياناً وكأن المطاردة الاستخباراتية لهذا الثنائي إنما تستهدف تلك العلاقة بالذات والسيطرة على سيلاند، وما إلى ذلك، ولكن الأمور في نهاية الأمر منزاحة بعض الشيء عن ذلك السياق "الفودفيلي" العاطفي. الأمور تتعلق بموقف الدولة والحزب من المبدعين ومجابهتهم العنيفة لأية بوادر انشقاق وتعاملهم مع أية ملامح مشاكسة تظهر في أي عمل مسرحي، أو ما يشبه ذلك. إنه الصراع المتواصل بين أيديولوجية الحكم الحزبي وحرية الفعل الإبداعي. ومن المؤكد أن "حياة الآخرين" قد عرف كيف يشتغل على هذا الموضوع بأفضل ما فعل أي فيلم من الأفلام حتى الآن ونجح في إيصال رسالته ببساطة لا لبس فيها، وبذكاء لا يحتاج إلى أي نوع من أنواع المكر.

التساؤل الصامت

غير أن الأكثر أهمية من هذا هو الطريقة التي تمكن بها "حياة الآخرين" على الرغم من أنه الفيلم الأول لمبدع شاب، من أنسنة الموضوع لا طبعاً بالنسبة إلى الطريقة التي قدم بها الشخصيات المعارضة، فهذا أمر بديهي هنا، ولا طبعاً بالنسبة إلى الشخصيات البيروقراطية الحاكمة التي لا بد أن تتحرك كالآلات اللا إنسانية إلا من خلال شهوات "غير مشروعة" تحركها، وهذا بدوره أمر بديهي، ولا يمكن أن يكون على غير ذلك، ولكن من خلال شخصية الضابط فايسلر الذي سرعان ما تتدرج وظيفته من كونه وسيطاً بين الطرفين إلى تحوله إنساناً يُسائل نفسه، في صمت عند البداية عما يفعل هنا وما دخله هو في حياة الآخرين، غير أن ذلك التساؤل الصامت الذي لن يبدو واضحاً أول الأمر، سرعان ما سيتحول إلى فعل قد يكون في إمكاننا أن نعتبره فعلاً فاعلاً، بمعنى أنه سيُجابه دون أن يلفت نظر أحد، بل حتى دون أن يخل بـ"واجبه الوظيفي" ودون حتى إن يعتبره "عملاً قذراً"، سيُجابه آلة الحزب الرقابية البيروقراطية القاتلة بما يمكنه أن يفعل. وما يفعله، دون أن يتوقع ثمناً له من أحد، وحتى دون أن يعي تماماً حجم المجازفة التي يقوم بها، ما يفعله سيكون خوضاً لمعركة كان من المفترض أن حجمها يفوق حجمه كثيراً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سجالات حادة

طبعاً، سينجو بفعلته، ولكن دائماً من موقع الفاعل المجهول، وسيكون قد أنقذ المبدعين من براثن البيروقراطيين الحزبيين الذين ستكون نهايتهم قد حلت في تلك الآونة بالذات. وفي الوقت الذي أدت تلك النهاية إلى تحول فايسلر من ضابط استخبارات ذي نفوذ إلى مجرد ساعي بريد في المشاهد الأخيرة من الفيلم، سيكون جورج دريمان قد بدأ يبحث في سجلات "الستاسي"، وقد فتحت أمام الجمهور بعد سقوط النظام ليعرف سر ذلك المجهول الذي خاض عنه معركته وأنقذه. دريمان لن يدرك ما حدث حقاً، لكنه سيؤلف كتاباً يخص ذلك المجهول بلفتة رائعة. وساعي البريد خلال مروره أمام مكتبة يلمح الكتاب في الواجهة فيتصفحه ويبتسم، إذ في تلك اللحظة بالذات أدرك أنه انتصر في معركته الفردية، وعرف في لحظة من حياته كيف يكون إنساناً. ولنُشر هنا إلى أن أنسنة ضابط "الستاسي" هذه هي التي أثارت السجالات الصاخبة حول الفيلم أكثر مما فعل أي شيء آخر!!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة