وحدَهُ الأدب بشِعرِه ونثرِه يستطيع أن يقول الحقائق عن الناس العاديين الذين عاشوا إحدى الحروب، الأشخاص العُزّل، الأكثر سلاماً وضعفاً الذين لا يذكرهم التاريخ، لذا احتفظت الروايات التي تناولت الحروب باسم "روايات الحرب"، بحيث تسجل بين دفّتيها الحكايات الشريدة عن الحيوات الآمنة، التي تنتهي بين ليلة وضحاها، عشية إطلاق أول رصاصة.
لا تزخر المكتبة العربية بكثير من المؤلفات التي تقدم الأدب الأوكراني، على الرغم من وجود العديد من الأعمال الأدبية البديعة التي تستحق أن تحتل مكانتها عند القراء العرب، لكن من المؤكد أن حاجز اللغة يقف عائقاً أمام الترجمة، فما تمت ترجمته من الأدب الأوكراني إلى اللغات الأوروبية الأكثر انتشاراً مثل الإنجليزية والفرنسية، ليس بكثير. كما أن أوكرانيا، وسائر جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً كانت تتحدث الروسية، وعندما نالت استقلالها في عام 1991، ظل الجيل الأكبر يتحدث الروسية، فيما سعى الجيل الشاب لاستعادة لغة بلاده. تعترف الكاتبة الأوكرانية إيرين روزبوذودكو التي تعتبر واحدة من أنجح الكتابات الأوكرانيات، إذ صدر لها أكثر من ثلاثين كتاباً، بأنها لم تكن تتحدث الأوكرانية على الإطلاق، لكنها بعد عودتها لأوكرانيا ظلت صامتة لمدة عام، ثم اتخذت قراراً واعياً بأن تتحدث وتكتب بلغتها الأم فقط.
يأتي اسم سيرهي زادان من ضمن الكتاب الأوكرانيين المعاصرين الذين تمت ترجمة أعمالهم للإنجليزية والفرنسية، ولغات أوروبية أخرى. اعتبر النقاد أنه إذا احتاجت كل حرب إلى كاتب يكشف خباياها، فإن أوكرانيا لديها سيرهي زادان، أحد الروائيين الواعدين في أوروبا. وُلد زادان في لوغانسك عام 1974، حققت كتاباته شهرة واسعة في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وتركت أثراً على الأجيال الشابة. تحمل رواياته مثل "مذكرات لوغانسك"، و"الطريق إلى دونباس"، و"وضع اعتراض" و"بلاد ما بين النهرين"، أجواءً متمردةً ومضطربةً، فالموضوعات التي تناولها تركز على العدالة الاجتماعية والصداقة وفلسفة العلاقات الإنسانية، إضافة إلى الحياة اليومية لشباب المدن الأوكرانية في ظروف الفقر المدقع في التسعينيات، كذلك تسلط الضوء على الروح العنيفة الخاصة بالعقلية الأوكرانية المضطربة بسبب الهوية والانتماء.
أكثر من حرب
منذ عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وبدأت في تسليح المتمردين في شرق أوكرانيا، انعكست هذه التحولات بشكل كبير على الأدب الأوكراني. والآن بعد اندلاع حرب جديدة مع روسيا، أصبحت هذه الحقيقة أكثر إثارة للمشاعر من أي وقت مضى، إذ يمكن معاينة الحضور الكثيف للحرب في الروايات الأوكرانية. يقول سيرهي زادان: "لقد تغير أدبنا كثيراً مقارنة بما قبل عام 2014، لذا صرت بعد هذا التاريخ أكتب نوعاً مختلفاً من الأدب، أكثر انشغالاً بالمأساة الأوكرانية".
في روايته الأخيرة "دار الأيتام"، التي نُشرت في الأصل باللغة الأوكرانية في عام 2017، ثم نشرت بالإنجليزية، بترجمة رايلي كوستيجان هيومز، وإيزاك ستاكهاوس ويلر بطلب من جامعة ييل، يتطرق الكاتب إلى أجواء أكثر احتشاداً وزخماً إنسانياً، في نص يجمع بين العلاقات الإنسانية والتجربة الفردية، والحرب. تتناول الرواية قصة كفاح المدنيين المحاصرين في شرق أوكرانيا والدمار الذي لحق بالبلد، وتثير رؤى حول ما تفعله الحرب بالبشر من أذى مميت، إنها ليست حكاية تحذيرية يتصورها سيرهي زادان، بل حقيقة حرب مشتعلة.
بطل الرواية هو "باشا"، مدرس أدب في الخامسة والثلاثين من عمره، يعيش بالقرب من خط المواجهة في "دونباس". يتشارك في السكن مع والده المسن وصديقته السابقة، تبدأ رحلة التحول في حياته عندما يذهب لإنقاذ ابن أخيه المراهق "ساشا" من دار الأيتام بعد اندلاع الحرب، فقد تم إرسال الصبي من قبل والدته إلى مؤسسة على غرار المدرسة الداخلية، وكانت الأم تأمل أن تحافظ المدرسة على سلامته وتغذيته أثناء إجبارها على العمل، ولكن لا يوجد أي مكان بمنأى عن العنف.
تبدو رحلة "باشا" في طريقه إلى دار الأيتام مليئة بالمخاطر، يمر على مقربة من الجنود ويتوقف عند "موتيل" من طابقين يسمى "بارادايس". يشاهد نوافذ الطابق الثاني منه محطمة من جراء انفجار، والمكان ككل صار "يشبه الدائرة الأولى من الجحيم"، ويلاحظ كيف هجر كثير من الناس المدينة، فيما البقية لا يزالون مختبئين في أقبية رطبة، بالكاد يمكنهم الحصول على الطعام أو الماء النظيف. يلتقي مع مجموعة من الأشخاص في محطة القطار، يدفعون المال لرجل لمساعدتهم على العبور بأمان إلى المنطقة التي لا تزال تحت حماية الجيش الأوكراني، فينضم إليهم "باشا" بعد أن وعده الرجل بأخذه إلى الميتم.
ثلاثة أجيال
في النهاية، يصل "باشا" إلى دار الأيتام، حيث فر المعلمون، ولم يبقَ لرعاية الأطفال سوى المدير ومعلم الرياضة. تعلق الحرب الحياة العادية، تتوقف الدروس، يأتي الجنود ويجلبون رفاقهم الجرحى إلى المدرسة. يهرب التلاميذ بعيداً من مقاعدهم خائفين من المشهد الدموي، وحين يعثر "باشا" على ابن أخيه، يجده يتضور جوعاً ويرتعش من البرد، يشير بيده إلى قناص ميت داخل غرفة القبو في المدرسة الداخلية. يأخذ باشا الصبي، ويبدآن في رحلة العودة، مع احتمالية مواجهة الخير والشر معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقدم الرواية ثلاثة أجيال من العائلة: والد "باشا" العجوز الذي يجلس طوال اليوم أمام شاشة التلفاز، ثم "باشا"، وابن أخيه "ساشا"، وتطرح سؤالاً جوهرياً عما تعنيه الهوية، يتساءل "باشا": "ما الذي يعنيه أن تكون أوكرانياً؟". إنه سؤال عادي يأخذ بعداً وجودياً ملحاً، لأن "باشا" مدرس للغة الأوكرانية، ولم يستخدم اللغة أبداً خارج حجرة الدراسة. كما أنه على النقيض من والده يرفض مشاهدة أخبار الحرب على التلفاز. تكمن رمزية الرواية في المقارنة بين أوكرانيا وعائلة "باشا" المفككة، والتي يجب أن تظل متحدة وتساند بعضها البعض، على الرغم من كل ما يحدث.
آمال زائفة
ومن دون إدانه لأحد، ينشغل سيرهي زادان في كتابته عن الحرب بمعالجة كيف يمكن أن يصبح الجار أو الزميل في المدرسة فجأةً، وبلا سبب، عدواً يحمل السلاح ضد جاره. يحكي عن آلة الحرب الجهنمية الروسية، كيف استهلكت عدداً كبيراً من الأوكرانيين، وكيف قام البعض بالتخلي عن بلدهم والقتال فجأة من أجل ما يسمى "جمهورية دونيتسك الشعبية" المدعومة من روسيا، لذا نتج عن هذا نسيج اجتماعي غير مستقر، وصراع بين الأجيال الثلاثة، جيل والد "باشا" الذي تجاوز الستين من عمره، ولا يزال يعيش عقلياً إلى حد كبير في الحقبة السوفياتية، ولا يفهم تماماً العالم الجديد الغريب الذي يعيشون فيه، فيما جيل "باشا"، هو جيل ضائع لكونه نشأ في أعقاب أخطاء الأجيال السابقة. إذاً، يبقى السؤال عن جيل الحفيد "ساشا"، ما هو مستقبله؟ هل ينجو من كل هذا الماضي المظلم والمضطرب؟
تقدم الرواية نافذة من الأمل عند وصول "باشا" مع ابن أخيه قرب البيت، يشاهد "ساشا" جرواً صغيراً جريحاً فيقرر أخذه معه وإنقاذه. ربما أراد الكاتب عبر هذه الإشارة البسيطة للجيل الشاب الذي لم يلوث بالحرب بعد، أن يلمح إلى إمكانية حدوث تصالح بين الأجيال كلها، وانعكاس هذا على البلد بأسره، لكن حتى هذا الأمل الذي أراد الكاتب طرحه، يبدو مهدراً بعد أن قرعت طبول الحرب من جديد.
الجدير بالذكر أن سيرهي زادان، يكتب الشعر والمقالة، وله اهتمامات كبيرة بالأطفال عبر إنشاء مؤسسة خيرية لرعايتهم، كما يسهم في الإشراف على مسابقات للقصة للأطفال والمراهقين.