كثير من المؤشرات تشي بتعقّد الموقف يوماً بعد يوم حول الأزمة الأوكرانية، ولا آفاق بعد للتوصل إلى الحل الوسط الذي يمكن أن يحفظ للأطراف المعنية، وفي الصدارة منها المتحاربة، ماء الوجه. حتى المحادثات الروسية - الأوكرانية التي تعثرت بداياتها، وتأجّلت إلى بعد ظهر الاثنين في مكان لم يعلن عنه لأسباب أمنية، بناءً على رغبة الجانب الأوكراني، على الرغم من أن القاصي والداني يعلم أنها تجري في مقاطعة غوميل البيلاروسية، لا تبشر بخير كثير. فما يطرحه الجانب الأوكراني حول أن الحديث يجب أن يتركز حول وقف إطلاق النار من دون المضي إلى ما هو أبعد، لا يمكن أن يقبل به الجانب الروسي في وقت قالت فيه مصادر قريبة من المحادثات إنها دارت لبحث "وقف إطلاق النار في أوكرانيا، واتخاذ ما يلزم من أجل الأعمال العدائية"، وإن كانت مصادر روسية قد كشفت في وقت سابق عن شروطها التي تتلخص في ضرورة إعلان أوكرانيا عن التزامها بالحياد، وتنفيذ ما سبق وأعلن عنه الرئيس فلاديمير بوتين.
ومن اللافت في صدد المباحثات التي تجري على مراحل، أن الكثير من أطرافها ينتمون إلى الطائفة اليهودية، ومنهم فلاديمير ميدينسكي وزير الثقافة الروسي السابق وأحد مستشاري الرئيس بوتين، فضلاً عن رومان أبراموفيتش الملياردير اليهودى الروسي الحالي الذي يشارك في المباحثات بناءً على طلب الرئيس الأوكراني اليهودي الأصل الذي سبق وطلب من رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت وساطته. أما عن نتائج المباحثات التي طالت لما يزيد على خمس ساعات، فقد أعلن ميدينسكي رئيس الجانب الروسي أنها لم تنتهِ بعد، مكتفياً بالقول إنها كشفت عن "نقاط متفرقة يمكن أن تكشف عن مواقف مشتركة" يمكن البناء عليها، وأنها ستُستأنف خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد المزيد من التشاور مع قيادات كل من الجانبين.
ولم يكشف أي من حضور المباحثات عن تفاصيل أكثر، سوى أن الوفدين مدعوان إلى الرجوع إلى القيادات المعنية، وأن الجولة التالية من المباحثات ستعقد خلال الأيام القليلة المقبلة على الحدود البولندية - البيلاروسية، بدلاً من موقع اللقاء الأول على الحدود البيلاروسية - الأوكرانية، لبحث القرارات التي تم التطرق إليها خلال الجولة الأولى ومدى تطبيقها".
تضارب التصريحات
وحتى ذلك الحين تتضارب التصريحات والتوقعات التي يتبادلها الساسة والمراقبون حول ما يمكن أن تنتهي إليه هذه المواجهات والاشتباكات التي تتصاعد حدتها بما ينذر بالمزيد من التعقيدات. وفي هذا السياق يبدو ما يشبه الإجماع بين ممثلي الأوساط السياسية والإعلامية في موسكو أن الموقف برمته يعود إلى ما يمكن أن يتخذه البيت الأبيض من قرارات، وما يمارسه من ضغوط على القيادة الأوكرانية، وذلك بعض مما تردد على هامش المباحثات بين الوفدين الروسي والأوكراني التي جرت متقطعة، لرفعها بين الفينة والأخرى من أجل التشاور مع أولي الأمر، سواء في ما وراء المحيط، أو في كل من موسكو وكييف، وعلى وقع احتدام المعارك على خط المواجهات العسكرية المباشرة، كشفت مصادر عسكرية عن أن العمل يجري على قدم وساق من أجل "تحرير" أكثر قدر ممكن الأراضي داخل الحدود التاريخية للجمهوريتين قبل التوصل إلى قرار وقف إطلاق النار.
وكانت العاصمة الروسية قد شهدت قدراً كبيراً من الارتباك الذي ترامت أصداؤه إلى الأوساط السياسية والدبلوماسية، وسط اهتزاز الأسواق المالية وانهيار جزئي للعملة الروسية قالت المصادر الاقتصادية إنه وراء الإعلان عن ارتفاع أسعار الكثير من العقارات والسلع الاستهلاكية بنسبة تقترب من 30 في المئة مرشحة للارتفاع. وقالت إلفيرا نابيولينا، حاكم البنك المركزي، إن السلطات الروسية مضطرة إلى التدخل لضبط الأسعار والتدخل لضبط أسعار العملات الأجنبية مقابل الروبل من أجل الحيلولة دون انهيار العملة ما لا بد أن يسفر عن ضياع مدخرات الموطنين، على النحو الذي يعيد إلى الأذهان ما شهدته روسيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
إجراءات اقتصادية
وكان الرئيس بوتين وقع مرسوماً يقضي بتطبيق "إجراءات اقتصادية خاصة فيما يتعلق بالإجراءات غير الودية للولايات المتحدة والدول الأجنبية والمنظمات الدولية التي انضمت إليها فيما يتعلق بإدخال تدابير تقييدية ضد مواطني الاتحاد الروسي والكيانات القانونية الروسية"، بحسب ما جرى نشره على الموقع الرسمي للكرملين. وأشارت مصادر الكرملين إلى أن المرسوم ينص على "ضرورة تعهد المشاركين في النشاط الاقتصادي الأجنبي بيع 80 في المئة من تحويلات العملات الأجنبية الواردة من الخارج اعتباراً من 1 يناير (كانون الثاني) من هذا العام". ومن اللافت أن هذا المرسوم يشمل أيضاً تطبيقه على الأموال المتراكمة بالفعل التي قال بوجوب بيعها في غضون ثلاثة أيام. وثمة من يقول إن المرسوم يظل في حاجة إلى تفسيرات أكثر وضوحاً، ولا سيما ما يتعلق منه بما نص عليه حول "أن المقيمين لن يتمكنوا بعد الآن من إيداع العملات الأجنبية في حساباتهم المفتوحة لدى البنوك والمنظمات في الخارج، وكذلك تحويل الأموال من دون فتح حساب مصرفي باستخدام وسائل الدفع الإلكترونية التي يوفرها مقدمو خدمات الدفع الأجانب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت الحرب تظل حتى اليوم، "تدور في الإطار التقليدي لحرب محلية عالية التقنية بضربات على أنظمة التحكم، وإسكات الدفاعات الجوية، وتدمير القوات الجوية والبحرية لأوكرانيا، وحرمان العدو من القدرة على المناورة ومهاجمته من عدة اتجاهات"، بحسب فاسيلي كاشين مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية المتكاملة بالمدرسة العليا للاقتصاد، فإن ما تستهدفه روسيا منها يبدو سياسياً أكثر منه عسكرياً، ومنه ما أعلن عنه بوتين في خطابه الذي أعلنه مع بداية العملية العسكرية وحدده في كلمتين وهما "ديميلتيرزاتسيا"، أي "نزع السلاح"، "وديناتسفيكاتسييا"، أي تصفية النازية، وهما مهمتان لم يتحقق أي منهما بعد. وعلى الرغم من كل ما يتردد حول أن بوتين يستهدف "احتلال أوكرانيا"، فإن ما قاله الرئيس الروسي حول إنه لا ينوى "احتلال أوكرانيا" يبدو أقرب إلى المنطق، ويتفق مع ما يتردد بين ممثلي الأوساط الإعلامية والسياسية التي تقول إن سيناريو "الاحتلال" يمكن أن يجر روسيا إلى "مستنقع" هي أذكى من الوقوع فيه، فضلاً عن عدم حاجتها إليه. غير أن هناك ما يشير ضمناً إلى أن دخول القوات الروسية يستهدف ضمن ما يستهدف إطاحة الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وتنصيب شخصية موالية لموسكو.
"استعراض سياسي"
أما عما هدد به بوتين حول "وضعِ قوات الردع الاستراتيجي الروسية في حالة تأهب قتالي خاص"، وهو أعلى مستوى من التأهب لقوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية، فقد فسّره إيليا كرامنيك للباحث في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية في تصريحاته إلى صحيفة "كوميرسانت" الروسية بقوله إنه من الصعب تحديد من أي درجة استعداد قتالي تم الانطلاق (فهي، في روسيا، وفقاً للبيانات الرسمية، مرتفعة بما فيه الكفاية)، وإلى أي درجة يجري رفعها. فـ"الاستعداد لنشر (القوات النووية)، والاستعداد للإطلاق أمران مختلفان، لكن من الواضح أن هذا استعراض سياسي هو الأكبر من نوعه". غير أن هناك من يرى في ما قاله بوتين تحذيراً لمن قد تساوره الرغبة في التدخل العسكري إلى جانب القوات الأوكرانية، أو كما قال فاسيلي لاتا، كبير الباحثين بالأكاديمية العسكرية لقوات الصواريخ الاستراتيجية، في حديثه إلى صحيفة "كوميرسانت"، إن الأمر الذي أصدره الرئيس "لا يهدف إلى تصعيد الصراع مع الدول الغربية، بل وعلى النقيض من ذلك، وقف التصعيد"، وذلك فضلاً عما أرسله بوتين من إشارات تقول: "نحن نجري في إطار عملية خاصة، فلا تحاولوا التورط في ذلك. نحن مستعدون لاتخاذ إجراءات حاسمة. في الوضع الحالي، هذا أمر ضروري ومعقول. فهو يبرد الرؤوس الساخنة على الجانب الآخر". وفي السياق ذاته أعلن سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي أن قوات "الثالوث النووي" الروسي (البري والبحري والفضائي) بدأت بالمناوبات بطواقم معززة. وقالت مصادر وزارة الدفاع الروسية، إن شويغو أبلغ بوتين بأنه وبحسب ما أصدر من أوامر، بدأت مراكز التحكم التابعة لقوات الصواريخ الاستراتيجية والأسطول الشمالي وأسطول المحيط الهادي وقيادة الطيران بعيد المدى، بالمناوبات القتالية بطواقم معززة.
على أن الأوضاع الراهنة وحسب تقديرات كثيرين تظل بعيدة عن الحاجة إلى "قوات نووية"، على ضوء ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الروسية حول أن القوات الجوية تحقق السيطرة الجوية فوق كامل الأراضي الأوكرانية"، وأن قوات الجيش الروسي دمّرت 1114 منشأة من البنية التحتية العسكرية الأوكرانية منذ بداية العملية. وأضافت الوزارة الروسية في بيانها الصادر بهذا الشأن أن من بين المنشآت التي تم تدميرها، 31 نقطة مراقبة ومركز اتصالات للقوات المسلحة الأوكرانية، و314 دبابة ومركبات قتالية مصفحة أخرى و57 راجمة صواريخ و121 قطعة من المدفعية الميدانية والهاون، و274 قطعة من المركبات العسكرية الخاصة".
وأضافت المصادر الروسية أن القوات الفضائية الجوية الروسية "دمرت خلال اليوم الماضي، 8 مركبات قتالية تابعة لمنظومات الدفاع الجوي Buk M-1 ومحطات توجيه لمنظومات S-300 وBuk M-1، و3 مواقع اتصال لا سلكي مع محطات P-14، و4 طائرات مقاتلة على الأرض وأخرى في الجو". ومضت المصادر لتقول، "إن القوات الروسية سيطرت على مدينتي بيرديانسك (جنوب شرقي أوكرانيا) وإنريرغودار في مقاطعة زابوروجيه، والتي تقع فيها "محطة زابوروجيه الذرية"، في إطار محاولات السيطرة على المحطات النووية بما يكفل الحيلولة دون وصول عناصر الجيش الأوكراني إلى المحطات النووية بما فيها من مخزون الوقود النووي الذي قد تستطيع فيه العناصر الأوكرانية أن تصنه، منه ما يسمى "القنابل النووية القذرة". وأكدت وزارة الدفاع في بيانها الصادر حول هذه المسألة "أن القوات الروسية تسيطر بشكل كامل على المنطقة المحيطة بالمحطة الذرية ويقومون بحراستها، بينما يواصل موظفو المحطة العمل كالمعتاد على صيانة المرافق ومراقبة الوضع الإشعاعي، الذي يبقى طبيعياً".
أما عن الأهداف الأخرى من هذه العملية وإلى جانب ما أعلن عنه الرئيس بوتين من أهداف، تشير الشواهد إلى أن روسيا تظل في أمسّ الحاجة اليوم إلى انتصارات سريعة تكفل لها إخماد مصادر النيران التي تهدد أمن الجمهوريتين دونيتسك ولوغانسك "المعترف بهما من جانب موسكو"، إلى جانب توفير الأجواء اللازمة لتحقيق المزيد من التقدم إلى ما وراء الخطوط الحالية للمقاطعتين، صوب الحدود التاريخية التي قال بوتين إنه يعترف بها استناداً إلى أن مواثيق الجمهوريتين تنص على هذه الحدود التاريخية، وهو ما جرى الاستناد إليه لدى الحديث عما ينسحب عليه اعتراف الرئيس الروسي بالجمهوريتين، وبما يتيسر لاحقاً تهيئة الظروف المناسبة لضم أراضي هاتين الجمهوريتين في وقت لاحق. أما عن غير المعلن فيظل في إطار إدراك بوتين لخطورة ما تضمره الدوائر الغربية بزعامة الولايات المتحدة لبلاده، في إطار ما سبق وجرى الإعلان عنه حول أن روسيا ستظل "الهدف المستهدف غير المعلن" تمهيداً لتحقيق ما تضمره واشنطن بحق الصين "الحلم المؤجل" في سلسلة أحلام ومخططات الولايات المتحدة الأميركية.