Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

50 عاما على فيلم "العراب" تؤكد ريادته السينمائية الشاملة

أمضى كوبولا آلاف الساعات في ترميم النسخة القديمة لتبهر الجمهور العالمي من جديد

مارلون براندو عبقري "العراب" تحفة  كوبولا (الخدمة الإعلامية)

من النادر أن نحتفي باليوبيل الذهبي لعرض عمل سينمائي. مع ذلك، شاء القائمون على سلسلة "العراب" لفرنسيس فورد كوبولا، تحويل ذكرى مرور نصف قرن بالتمام والكمال على صدور هذه الرائعة السينمائية، إلى احتفالية كونية تتجسد في إعادة إصدار الفيلم بنسخة مرممة في جميع أنحاء العالم. فكرة ممتازة لإعادة اكتشاف ما يمكن اعتباره أحد أشد الأعمال تأثيراً في فن الشاشة.

في السنوات الخمسين التي مرت منذ العرض الأول لـ"العراب" (1972)، ذاع صيت هذه الملحمة الأسرية والمافيوية والسياسية لدرجة غير مسبوقة. صيغت حوله روايات وأساطير وتأويلات حد بلوغه مرتبة عالية من التقدير قلما وصل إليها فيلم. والتقدير كان جماهيرياً ونقدياً في آنٍ واحدٍ، في ظاهرة نادرة. أجمع على أهميته المشاهد والناقد. في آخر استفتاء أجرته مجلة "سايت أند ساوند" قبل عشر سنوات عن أعظم 100 فيلم سينمائي في التاريخ، حل "العراب" في المرتبة الـ21. شارك في الاستفتاء (يجري مرة كل عقد، وهو الأكثر مصداقيةً وشهرةً) 846 ناقداً، لكن يجب ألا نتوهم، ونعتقد أن "العراب" حمل على الراحات منذ البدء. لم يعتبر تحفة بصرية فوراً، بل تطلب تكريسه النهائي بعض الوقت.

عند صدوره، كتبت مجلة "سينما" الفرنسية ذات الميول اليسارية، مقالاً شديد السلبية في حق الفيلم. يروي الناقد اللبناني إميل شاهين أنه راسل المجلة آنذاك معبراً عن امتعاضه من هذا الرأي المتسرع في عمل كان سيصبح في العقود التالية من "المقدسات" ليحفر مكاناً عميقاً له في وجدان السينما. حتى التصوير لم يكن سهلاً. ببساطة، المافيا لم تكن ترغب بفيلم عن المافيا، فتعرض فريق الإنتاج لتهديد وملاحقات كثيرة. تنظيم "كازا نوسترا" المافيوي خطط لإجهاض المشروع ووضع عقبات أمام تنفيذه، لكن زعيمه جو كولومبو عاد، والتقى المنتجين ليفرض عليهم شروطه. 

مغامرة كوبولا

كوبولا نفسه الذي كان يبلغ 31 من العمر عندما وقف خلف الكاميرا لإنجاز "العراب" (منتجه ألبرت أس رادي لم يكن يتجاوز الأربعين عاماً)، لم يكن شديد الحماسة عندما اقترح عليه اقتباس رواية الكاتب ماريو بوزو الصادر في عام 1969، والتي كان قد استلهمها من سيرة آل كابوني، رجل العصابات الشهير في شيكاغو. في زيارة لكوبولا إلى بيروت عام 2009، روى أن الأجزاء الثلاثة لـ"العراب" (1972 - 1974 - 1994) هي نتيجة طمع استوديو "باراماونت"، وأنه كان يفضل أن يبقى مخرج أفلام مستقلة، كتلك التي أنجزها في العقدين الأخيرين من حياته، مكرراً دائماً أن شهرته ما هي سوى سوء فهم وقع ولم يستطع إصلاحه. 

هل فعلاً لم يكن كوبولا معجباً بواحد من أعظم الأفلام التي صنعها في تاريخ السينما؟ أم أن الأمر مجرد تواضع زائف؟ عودة الفيلم إلى الصالات بعد أن أشرف بنفسه على جميع مراحل التنقيح، تشير إلى الاحتمال الثاني هو الأقوى. فكيف يمكن لإنسان أن يجلس في عتمة الصالة ولا يدهشه مشهد أو وجه أو لحن (موسيقى نينو روتا لا تنسى) من هذا الفيلم الذي بلغ الكمال على المستويات كافة. في المقابل، لم يستطع كوبولا يوماً أن يلغي أهميته بالنسبة لحياته المهنية. يقول: "لنكن واقعيين، من دون "العراب" لما كنت في الموقع الذي أنا فيه الآن، لكن للأمانة، لم أفكر فيه يوماً كأكثر من فيلم واحد. لا تقنعني فكرة إرجاع الناس إلى الصالة، كما الحال مع "حرب النجوم"، بحكاية أثارت اهتمامهم ذات مرة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الخطوط العريضة لـ"العراب" أشهر من أن تُحكى، فهي تنطلق في نيويورك منتصف الأربعينيات ومن عائلة كورليوني الأميركية ذات الأصول الإيطالية، والتي تُعد واحدة من العائلات المافيوزية الخمس الناشطة في المدينة. فيتو كورليوني (مارلون براندو) هو العراب، أما ابنه مايكل (آل باتشينو) فيتم تقديمه باعتباره الثائر الذي لا يريد تلطيخ يديه بالدماء ويود البقاء على هامش النشاطات غير القانونية للعائلة. إلا أنه أمام التهديدات التي يتعرض لها والده، فلا بد للابن من أن يتحرك ويتولى زمام الأمور. ولأن هذا العالم الغامض وأعرافه لا يألفهما المشاهد، على الأقل في حينها، أدخل كوبولا شخصية صديقة مايكل كاي آدامز (ديان كيتون)، كي تصبح صدى لتساؤلات المتفرج. 

عالم السلطة والمال

طوال الأجزاء الثلاثة، نشهد على صعود وانحطاط، على جمال ووحشية. كل مكونات الميثولوجيا حاضرة في النص: العائلة التي تملك السطوة والمال والسلطة، الصراعات الداخلية، الخيانات، الجرائم، الحب، هذا كله يصوره المايسترو كوبولا من دون الوقوع في العنف الاستعراضي المجاني. كل كادر مدروس، كل لقطة تهدف إلى التطور الدرامي، كل طرف حديث يقف خلفه رغبة في الإفصاح عن جوهر الشخصيات. يضع كوبولا، من حيث لا يدري، أسس الفيلم المافيوي. لا أحد سيصل إلى براعته، على الرغم من محاولات كثيرة لاحقة. 

الفيلم بأكمله يجري في بيئة منغلقة على ذاتها، "الأمر الذي يجعلنا نتعاطف مع الشخصيات الشريرة"، كما كتب الناقد الأميركي الكبير روجر إيبرت يوم شاهده للمرة الأولى. وينبع تعاطفنا مع الشخصيات من حقيقة أنها لا تفعل شيئاً قد لا نوافق عليه. أجيال عدة تماهت مع شخصية مايكل كورليوني الذي يعتبر شريراً يقوم بأفعاله ببرودة وإصرار. الشيء الذي يرد عليه كوبولا بالقول: "أعتقد أنه إذا استطاع المشاهد التقاط الخيط الذي يربط العنف بالشخصية، فسيكون مستحيلاً التعاطف معها. يتردد أن عدداً من الضباط النازيين كانوا لطفاء. نسمع أن أحدهم أمضى مع نازي سهرة فأعجبه سلوكه الشخصي. طبعاً، التقاه في سهرة، ولو التقاه خلال الحرب ورآه يعطي جنوده أوامر بإطلاق الرصاص على أحدهم، لتغير كل شيء. لا أحد يحب الذين يعاملون الآخرين كالحيوانات ولا يرأفون بهم. العلة مع دون كورليوني أنك لا تراه أبداً يقوم بأي عمل سيئ". 

لكن من الظلم اعتبار ثلاثية "العراب" التي تمتد على نحو تسع ساعات، فيلماً عن المافيا، وحصر أهميتها في هذا النوع فحسب، وإن كانت ألهمت كثيراً من الأفلام عن المافيا لاحقاً. صحيح أن "العراب" اشتغل كثيراً على صياغة صورة رجال العصابة في قالب رومنطيقي خطير لشدة وقوعه في سوء الفهم ولسعيه الدائم إلى "أنسنة" الجريمة، لكن النص الذي يعتمد عليه هو أولاً وأخيراً عن كيفية تبلور الجريمة المنظمة في ظل الرأسمالية الأميركية وبالتنسيق معها. "العراب" يرينا المافيا من الداخل في محاولة لتغيير الصورة النمطية عن هذا التنظيم. يحل مكان العالم الحقيقي نظام بطريركي، حيث العدالة تتناسل من العراب وحده، وحيث الأشرار الوحيدون هم الخونة. كل هذا العالم يحكمه شعار لا يمكن تجاوزه يفصح عنه مايكل كورليوني: "لا تقفوا البتة ضد العائلة ومصالحها". 

ذروة الكلاسيكية الجديدة

إخراجياً، ماذا يمكن القول أكثر مما قيل سابقاً؟ اختار كوبولا ذروة الكلاسيكية التي تخدم السرد. السرد هو سيد الفيلم الأوحد، وكل العناصر تصب في مصلحته. السرد هنا لوحة بألوان متداخلة ومتشعبة. إغلاق باب، على بساطته، يقول العزلة التي ستجد فيها الشخصيات نفسها. في ما يتعلق بالألوان والتكوينات البصرية، أبدع مدير التصوير غوردون ويليس في المشاهد الداخلية وعرف كيف يلتقط الوجوه الغارقة في الظلال، مع حرص على صناعة كونتراست بديع مع المشاهد الخارجية، حيث النور وعمق المجال. والترميم الدقيق الذي خضع له الفيلم تحت إشراف كوبولا نفسه، طال أكثر من 300 عنصر للإتيان بصورة عالية الدقة، الأمر الذي تطلب أكثر من 4000 ساعة عملاً استطاع من خلالها المرممون إصلاح البقع والتمزقات الموجودة على النسخة "النيغاتيف"، إضافة إلى ألف ساعة عملاً طمحت إلى تصحيح الألوان مع احترام كامل لرؤية ويليس.

عندما التقيت كوبولا في مهرجان مراكش قبل بضع سنوات، سألته عن سر "العراب" ولِمَ لا يزال متربعاً على عرش السينما في العالم. فقال إنه يجهل الجواب، ثم تابع: "لعله اللقاء بين الحكاية المدهشة التي كتبها بوزو من جهة، والممثلين الذين كانوا يطلون للمرة الأولى من جهة أخرى. أضف إلى ذلك مارلون براندو المتجدد، وأيضاً الموسيقى الرائعة والتصوير العظيم. لا تنسى أيضاً أن هناك عبرة سياسية في الموضوع المطروح... "العراب" هو الفيلم المفضل لكل أشرار العالم. للمناسبة، هناك جمل كثيرة باتت شهيرة مثل "سأقترح عليك عرضاً لن تستطيع رفضه، كان بوزو سمعها من أمه".

لماذا لا يزال "العراب" يمارس سطوة رهيبة، فكرية وفنية وانفعالية، على المشاهد، بعد نصف قرن؟ مشاهدة جديدة، هذه المرة في صالة وبتقنيات صورة وصوت عالية، تؤكد للمتفرج أن الفيلم لم يَشِخْ، بل لا يزال في أوج ألقه وبهائه. الملحمة التي كان ستانلي كوبريك يعتبرها "أفضل فيلم أنجز على الأرجح"، اجتازت نصف قرن من الزمن، أي نحو نصف عمر السينما، من دون أن تفقد قدرتها على الإغواء والإقناع، ربما لأنها استعارت بعض عناصر الميثولوجيا الإغريقية من بين أسباب أخرى كثيرة. وعلى الرغم من ارتباط الأحداث بزمان ومكان محددين، فإن خطاب كوبولا بقي صالحاً لكل زمان ومكان، بل بقي خطاباً عابراً للأزمنة والأمكنة.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما