يمكن القول بصورة عامة إن علاقة القراء غير اليابانيين بالأدب القصصي الياباني، لا سيما في القرن العشرين إنما قامت على سوء تفاهم، جعل هؤلاء القراء يدهشون دائماً تجاه القدر الكبير من المشاهد الإباحية الذي يملأ تلك الأعمال، ما أمّن لهذه نجاحات لا بأس بها، لكنها كانت دائماً نجاحات تخرج عن السياق الحقيقي لمعاني هذا الأدب وجوهره. ولئن كان هذا ينطبق إجمالاً على كثير من عيون الأدب الياباني، فإنه ينطبق بخاصة على أعمال اثنين من كبار كتّاب اليابان في القرن العشرين: ياسوناري كاواباتا الذي "اقتبس" منه الكولومبي الكبير غابرييل غارثيا ماركيز روايته القصيرة "غانياتي الحزانى" وتانيزاكي الذي سيُعتبر دائماً كاتباً إباحياً صرفاً، ولكن عن غير حق كما سنرى.
تبرّج لرؤوس مقطوعة
ولعل ثمة مشهداً في واحدة من روايات تانيزاكي الأولى وهي "حكاية السيد موزاشي السرية" من شأنه لو تعمّقنا فيه حقاً، أن يضعنا على سكة تفهّم أخرى غير تلك التي تلوح للوهلة الأولى، وعليها ربما يكون قد انبنى سوء التفاهم الذي نشير إليه. وهو منظر الرؤوس المقطوعة والمزينة بأفدح آيات التبرّج لجنود قُتلوا خلال حروب الزمن الإقطاعي، تشتغل على تبريجهم نساء شبقات يعشن أقصى درجات الإثارة وهن يفعلن ذلك بشكل طقوسي. فنحن إذ نقرأ اليوم روايات تانيزاكي الأساسية، في ضوء ذلك المشهد سيمكننا أن نفهم كل ضروب الضلال والانحراف التي تلوح فيها، وسندرك أن هذين الضلال والانحراف اللذين ارتبطا على الدوام وإلى حد كبير، باسم تانيزاكي وبأدبه، لم يكونا مجّانيين، بل كانا أشبه بمجازٍ حاول الكاتب من خلاله أن يرسم صورة ذاتية جداً للمجتمع الياباني وضروب الفساد التي تتحكم فيه ولم تكُن بالتالي سوى قناع خادع يخفي وراءه، وفي الأعماق، كل الشرور والمركبات النفسية التي تتحكم في ذلك المجتمع المغلق. والحقيقة أن هناك تقابلاً عكسياً بين القناع الذي غلّف على الدوام أدب تانيزاكي، والقناع الذي غلّف الحياة الحقيقية للمجتمع الياباني. فالنقاد ونخبة القراء الذين قرأوا أدب تانيزاكي في اليابان، أو في بلدان عدة تُرجمت الأعمال الرئيسة لأدب تانيزاكي فيها منذ نهاية النصف الأول من القرن الفائت، احتاجوا إلى الانتظار سنوات طويلة قبل أن يدركوا أن ضروب الانحراف التي تطبع روايات هذا الكاتب ليست سوى قناع خادع أيضاً. بل يمكن أن نقول إن تانيزاكي ظل حتى بعد رحيله عام 1965، يُعتبر "كاتباً إباحياً" وأن النقد الجدي لم يبدأ بالالتفات إليه إلا لاحقاً، ليدرس أدبه في أعماقه، بعيداً من مظاهره السطحية. وعند ذلك، بدأ النقاد والباحثون يُجمعون على أن تانيزاكي هو إلى جانب ميشيما وكاواباتا، أكبر كاتب عرفته اليابان في القرن العشرين، وأنه الوريث الشرعي لذلك الأدب الياباني الذي لم تكُن أبعاده الإباحية سوى أقنعة تخفي وراءها تأملات فلسفية واجتماعية عميقة.
الرغبة بالرغم من كل شيء
ولعل قراءتنا لروايته الأخيرة "يوميات عجوز مجنون" يمكنها أن تضعنا على تماس ليس فقط مع خلفيات أدب جونيشيرو تانيزاكي (1886 – 1965)، بل كذلك على تماس مع الصورة الخارجية لذلك الأدب وكيف ظلت راسخة للنهاية على الرغم من كل التفسيرات. وحسبنا أن نروي هنا موجز هذه الرواية كي نجدنا في صلب أدب تانيزاكي. فالعجوز المجنون هنا هو أوتسوجي توكوزوكي ذو السابعة والسبعين من عمره الذي بعد نوبة قلبية خطيرة تصيبه، يعيش مدعوّاً في بيت ابنه وزوجة هذا الأخير ساتسوكو وطفلهما. وبين الزيارات التي تقوم بها ابنتا توكوزوكي وأطفالهما بين الحين والآخر، يمضي العجوز وقته متبرماً بالجميع باستثناء كنّته ساتسوكو التي يتصاعد لديه تدريجاً هيام بها يتركز في استجدائه منها أن يقبّلها على قدميها. وفيما هي تستجيب لذلك، مدركة أن حماها بعد كل شيء عاجز عما هو أكثر من ذلك، يصل ولهه بها إلى حدود أن يطلب بأن تحفر منحوتة لتينك القدمين سوف توضع فوق قبره حين يموت، هو الذي يشتد المرض به إلى درجة يبدو واضحاً معها أنه سوف يموت عما قريب ومن "الضروري" بالتالي الاستجابة إلى رغبته على الرغم من كل ما تسببه من حرج للعائلة. ولسوف تنتهي الرواية قبل أن يموت العجوز ولكن وسط ارتباك عائلي عام من الواضح أن توكوزوكي لا يبالي به...
محاولة للتفسير
من المؤكد هنا أن تانيزاكي يكاد يبدو في هذا العمل الأخير وكأنه يسعى إلى تلخيص عمله الأدبي ككل إنما بعيداً إلى حدود ممكنة من الأبعاد الإباحية المعتادة، متوقفاً عند الحدود الدنيا لتلك الأبعاد، متمثلة في رمزيتها الكنائية التي نعرف كم ترمز إليها القدمين وأصابعهما، ولكن أيضاً، من ناحية أكثر اجتماعية، متوقفاً أيضاً عند بعد يصعب أخذه في الاعتبار أول الأمر، من أبعاد تحرر المرأة اليابانية في القرن العشرين، لا سيما بعد "الثورة الاجتماعية الهائلة" التي عرفتها اليابان بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية. غير أن الأهم من هذا، هو ما تطرحه الرواية من مفاهيم فلسفية حول الحب والجنس والرغبة، وذلك تحديداً من خلال العجز الذي نعرف أن توكوزوكي مصاب به وراضٍ، ومع ذلك لا يتوقف عن التعبير عن رغبة بالحسناء ساتسوكو يعرف هو أنها لن تعدو كونها رغبة غير مستجابة! بالتالي من المؤكد أن كل هذا "التفسير" إنما كان الجواب الذي انتظره قراء تانيزاكي سنوات طويلة للتوغل في أدبه بشكل عادل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدلاً من الانتظار
والحقيقة أن أولئك القراء ما كان عليهم أن ينتظروا كل تلك الأعوام التي انتظروها كي يدركوا حقاً تلك الأفكار والمفاهيم والرؤى الشديدة العمق التي تقف خلف أعمال تانيزاكي الأدبية. فهو إذا كان قد سجّل ما يمكن اعتباره مرحلته الإبداعية الكبرى، في الأقل مروراً بروايته "حكاية السيد موزاشي السرية"، وكان بعد في الـ43 من عمره، فإنه ما لبث، بعد ذلك بعامين فقط، أن نشر كتاباً له، لم يكُن روائياً هذه المرة، بل كتاباً فكرياً وجد أن من الضروري له أن يكتبه، في الأقل كي يفسّر عالمه الإبداعي الذي كان يعرف جيداً أنه في حاجة إلى تفسير كي لا يُساء فهمه. لكن المشكلة هي أن القراء، المحليين ثم المنتشرين في أنحاء العالم يقرأونه عبر الترجمات التي راحت تتكاثر، قرأوا أدبه كما يحلو لهم، لكنهم لم يلتفتوا كثيراً إلى كتاباته الفكرية. وكان عنوان النص الذي نتحدث عنه هنا "مديح الظل" الذي هو عبارة عن نص قصير لم يزِد عدد صفحاته في ترجمته الإنجليزية عن 70 صفحة ونيّف. ولقد اعتُبر الكتاب في العالم الأنغلو - ساكسوني، كتاباً فلسفياً ويتجاوز، من بعيد، ما قيل إنه عبارة عن نص يحمل في نهاية الأمر، رغبة الكاتب بتفسير أدبه.
جذور سوء التفاهم
نشر تانيزاكي روايته الأولى عام 1910، وكان له من العمر 24 سنة (هو المولود في طوكيو عام 1886). وكانت قصة طويلة عنوانها "وشم"، ستكون هي على أية حال مصدر سوء التفاهم الذي تحدثنا عنه أول هذا الكلام، بحيث كان من الطبيعي أن تُقرأ هذه الرواية كما سوف تكون حال كل أدب تانيزاكي بعد ذلك، بوصفها رواية "إباحية"، لا سيما من قبل قراء لم يدركوا أن تلك الإباحية لم تكُن سوى جزء أساسي من أسلوب التعبير الياباني، ولا تشكل في نهاية المطاف سوى ذلك القناع الذي يخفي الكاتب وراءه عدداً من أفكاره الناقدة عادة لمجتمعه ولما هو معمول به عادة في تلك المجتمعات. وهو الأمر الذي عالجه الكاتب على أية حال في تلك التي تُعتبر واحدة من آخر رواياته، بل وتكاد تكون رواية/وصيّة حاول فيها، كما أشرنا، أن يقول ما يمكننا اعتباره، كلمته الأخيرة ليس في الأدب فقط، بل في الحياة نفسها ونعني بها طبعاً "يوميات عجوز مجنون". ولا بد من أن نذكر هنا أخيراً أن عدداً كبيراً من روايات تانيزاكي وقصصه قد حُوّل إلى أفلام، في اليابان وخارجها، ومنها قصته "المفتاح" التي أفلمها الإيطالي تونينو براسّ، وأن له إضافة إلى الروايات التي ذكرنا، أعمالاً مهمة أخرى ومن أبرزها "أربع شقيقات" (1943 - 1948) التي كتبها تحت وطأة الحرب وينظر إليها كثر من الدارسين على أنها من أهم أعماله.