Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن نظرية "الردع الاستراتيجي" بين روسيا وأوكرانيا

فلاديمير بوتين استبق عمليته العسكرية برسائل متعددة المضامين ومختلفة الدلالات تقول إن الآتي أخطر

تقول روسيا إن هدفها حماية الأشخاص الذين تعرّضوا على مدى ثمانية أعوام لسوء المعاملة والإبادة الجماعية من قبل نظام كييف (رويترز)

الأحداث الأخيرة في أوكرانيا وما حولها تؤكد ما سبق وقاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة. ولعل من تابع ويتابع تصريحاته منذ مطلع القرن الحالي يمكنه التوصل إلى قراءة صحيحة لتقديره للمقدمات، وما أفضت إليه من نتائج.

وكانت أحداث الأيام القليلة الماضية كشفت عن مدى "تشوّش" الرؤية وعدم دقة المعلومات والأحكام والاستنتاجات التي وقفت وراء سيل التصريحات حول "الغزو الروسي الوشيك" لأوكرانيا.

وتناقلت الدوائر الغربية عن الإدارة الأميركية والبيت الأبيض، ما صدر عنهما من تصريحات حول مواعيد "الغزو الروسي" وأبعاده، تبريراً لتدفق كثير من الأسلحة والقوات على أوكرانيا منذ إعلان هذه التصريحات، اعتباراً من نهاية العام الماضي. وذلك ما تأكد من خلال مراجعة ما صدر من تصريحات، وما تحقق على أرض الواقع في مسرح العمليات الأوكراني، فضلاً عن عدم دقة معلومات الأجهزة الغربية، وما نقلته عنها القيادات السياسية، ومنها الرئيس الأميركي جو بايدن ووزيرة خارجية بريطانيا إليزابيث تراس.

استعدادات مبكرة

ما جرى ويجري اليوم في أوكرانيا من جانب القوات الروسية، لا يشبه ما حدث مع جورجيا في الحرب الروسية الجورجية في أغسطس (آب) 2008، رداً على قصف القوات الجورجية لأوسيتيا الجنوبية، عندما تدخلت موسكو في محاولة لاستعادتها بالقوة حسبما أعلن الرئيس الجورجي الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي (المسجون حالياً في جورجيا جزاء جرائم عدة بعد هربه إلى أوكرانيا، وحصوله على الجنسية الأوكرانية).

ولم تكُن المناورات التي جرت في بيلاروس لقوات الردع الاستراتيجي سوى تأكيد على أن روسيا ليست في حاجة إلى مغامرة الدفع بقواتها الاستراتيجية، التي كانت قد أجرت القدر الكافي من التجارب والاختبارات لأسلحتها فرط الصوتية والعابرة للحدود منذ عمليتها المضادة للإرهاب في سوريا اعتباراً من سبتمبر (أيلول) 2015.

ويذكر المراقبون الصواريخ الاستراتيجية التي انطلقت من السفن والغواصات الروسية في جنوب غربي بحر قزوين، لتصيب أهدافها في سوريا على مسافة تزيد على ألفي كيلومتر، وبمعدل دقة يبلغ مترين - ثلاثة أمتار.

وكانت موسكو عادت وكشفت مبكراً عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه في مواجهتها المرتقبة مع أوكرانيا. وذلك ما تمثل في إماطة عدد من الإعلاميين القريبين من الكرملين، اللثام عن احتمال تكرار تجربتها في جورجيا في أعقاب تورطها في محاولة غزو أوسيتيا الجنوبية في أغسطس 2008، باعترافها بجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين كانتا أعلنتا انفصالهما من جانب واحد عن جورجيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

أما ما بدا أكثر حدة وخطورة، وما صار معه بمثابة "صب الزيت على النار"، فكان ما أدلى به الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ خلال الأيام القليلة الماضية، حول أن بلاده تعتزم استعادة وضعيتها النووية والخروج من "إعلان بودابست" الموقع تحت رعاية روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة في 1994.

ولكم كان مثيراً للدهشة أيضاً عدم استيعاب إصرار بوتين على إذاعة وقائع جلسة مجلس الأمن القومي الروسي على الهواء مباشرة، بما جرى خلالها من توزيع أدوار قام بها باقتدار شويغو، الذي استهل حديثه بتأكيد أن أوكرانيا صارت تملك بما تدفق عليها من أسلحة ومعدات خلال الفترة الأخيرة، ما يفوق قدرات بعض بلدان "ناتو"، وهو ما يؤكد عزمها على استعادة الجمهوريتين دونيتسك ولوغانسك بالقوة.

أما فلاديمير كولوكولتسيف، وزير الداخلية الروسية، فمضى إلى ما هو أبعد بإعلانه عن ضرورة الاعتراف باستقلال هاتين الجمهوريتين في إطار الحدود التاريخية للمقاطعتين (الجمهوريتين)، وهو ما يعني ضمناً ضرورة استكمال الجهود الرامية إلى استعادة بقية أراضي المقاطعتين، التي كانت القوات الأوكرانية استعادتها بالقوة في الأسابيع الأولى للصراع، الذي احتدم بين الجانبين المتحاربين. وذلك ما حرص الرئيس بوتين على توضيحه لاحقاً بما قاله في مؤتمره الصحافي الأخير في 22 فبراير (شباط) الحالي حول أن اعتراف روسيا بالجمهوريتين يعني ضمناً الاعتراف بما تنص عليه وثائقهما التشريعية، بما في ذلك الدستور حول الحدود التاريخية لكل من هاتين الجمهوريتين.

وفي ما يتعلق بما قاله سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية حول انضمام الجمهوريتين إلى روسيا، وهو ما اعتبره بوتين سابقاً لأوانه، فلم يكُن سوى "تذكِرة" لمن يريد أن يستبق الأحداث على اعتبار ما سوف يكون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأساس القانوني

وبهذا تكون روسيا استردت عملياً ما يقرب من ثلث مساحة أوكرانيا بما يتبع ذلك من سيطرة على بحر آزوف، وانضمام إلى شبه جزيرة القرم المجاورة، التي سبق واستردّها بوتين. وفي ما يتعلق بالأسباب التي دفعت روسيا إلى تعجل الإعلان عن اعترافها رسمياً بالجمهوريتين الانفصاليتين، فهي كثيرة، ومنها المباشر وغير المباشر، بما في ذلك ما جرى الكشف عن أبعاده منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية وإعلان الجمهوريتين عن خروجهما من التبعية الأوكرانية في العام ذاته.

وفي هذا الصدد، ثمة ما يشير من الأسباب المباشرة التي تقف وراء التسريع بهذه القرارات، إلى ما يمكن أن يوفر الأساس القانوني للدفع بأية قوات روسية مسلحة للمساهمة في الدفاع عن الجمهوريتين ضد أية محاولات من الجانب الأوكراني لاستعادتهما.

وتقول المصادر الروسية الرسمية إن ذلك يمكن أن يتحقق على وجه السرعة، تلبية لطلب من جانب أي من الجمهوريتين، وبناء على اتفاقية ثنائية، يمكن أن توفر أيضاً شرعية إقامة قواعد عسكرية على أراضيهما، على غرار ما سبق وحدث بين روسيا وكل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في أعقاب إخماد الغزو الجورجي لأوسيتيا الجنوبية عام 2008.

وعلى الرغم من عدم الاتفاق في الرأي بين أعضاء مجلس الدوما حول مدى انسحاب صلاحية قرار الاعتراف على الحدود التاريخية للمقاطعتين السابقتين، فإن هناك ما يشير إلى احتمالات تطبيق ما أعلنه بوتين حول أن القرار ينسحب قانوناً على الحدود التاريخية، التي نصّت عليها مواثيق الجمهوريتين لحظة توقيع القرار الروسي، بما يعني احتمالات العمل من أجل استرداد هذه الأراضي، التي تسيطر عليها اليوم القوات الحكومية الأوكرانية منذ إعلان قرار الانفصال في 2014 أي من ماريوبول على ضفاف بحر أزوف على مقربة من شبه جزيرة القرم، وحتى المقاطعات الشمالية المتاخمة للحدود الأوكرانية، بموجب التقسيمات الإدارية التي تحددت منذ أعوام حكم ستالين.

وكان بوتين سارع بإصدار تعليماته إلى وزارة الدفاع لإرسال قوات "للحفاظ على السلام" في دونباس، في إطار بنود اتفاقية التعاون والدعم المتبادل التي تنص في أحد بنودها على أن جيشي البلدين "يتعهدان بحماية بعضهما بعضاً"، إلى جانب "التنسيق بينهما على صعيد السياسة الخارجية".

وفي هذا السياق، كشفت مصادر الكرملين عن طلب رئيسي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، دينيس بوشيلين وليونيد باسيتشنيك، تقدما به إلى الرئيس الروسي، "من أجل المساعدة في صد عدوان القوات الأوكرانية على المنطقتين"، بموجب اتفاق التعاون والصداقة والعون المتبادل الذي وقّعاه في موسكو خلال الأسبوع الماضي في أعقاب إعلان بوتين عن الاعتراف بجمهوريتيهما.

وقالا إن "أوكرانيا تواصل تعزيز وجودها العسكري على الخطوط الفاصلة بدعم من جانب الولايات المتحدة ودول غربية أخرى في كل المجالات، بما فيها الدعم العسكري في محاولة للتوصل إلى حل عسكري للنزاع في منطقة الدونباس".

وقال دميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين، إن رئيسي دونيتسك ولوغانسك ناشدا الرئيس بوتين مساعدتهما في مواجهة "عدوان القوات والتشكيلات المسلحة الأوكرانية على أساس المادتين الثالثة والرابعة في اتفاقيتي الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة بين روسيا وكل من الجمهوريتين"، بهدف الحيلولة دون سقوط ضحايا بين المواطنين المدنيين ووقوع كارثة إنسانية، بحسب مصادر الجانبين.

ومن اللافت أن هذا الطلب ورد في أعقاب إعلان الخارجية الروسية حول أن موسكو لا تنوي حالياً إرسال قواتها المسلحة إلى جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وإن أشارت إلى استعداد موسكو لمساعدتهما عسكرياً حال وجود تهديد لهما.

ولذا، قد يكون نافلة القول ما جرى الإعلان عنه حول فتح الحدود المشتركة بين روسيا وهاتين الجمهوريتين ما يتيح حرية تنقل المواطنين على غرار ما هو معمول به بين روسيا وبيلاروس، واعتماد الروبل عملة رسمية، بعد أن كان مسموحاً به بشكل غير معلن رسمياً، إلى جانب دمج الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والعمل بموجب القوانين الروسية السارية في مجالات القانون المدني وقانون الضرائب.

وكان الرئيس بوتين كشف أخيراً عن أن الأنشطة العسكرية لـ"ناتو" وزعزعة نظام الرقابة على الأسلحة تحمل في طياتها كثيراً من المخاطر. وأعاد إلى الأذهان ما سبق وقاله حول عدم حصول بلاده على ردود مقنعة بشأن ما طرحته حول "ضرورة بناء نظام للأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة"، مؤكداً "استعداد موسكو للحوار المباشر والصريح لإيجاد حلول دبلوماسية للقضايا الأكثر تعقيداً".

وفي إشارة لا تخلو من مغزى، قال بوتين إن قواته الاستراتيجية "أثبتت خلال عملياتها في سوريا قدرتها على حل أكثر المهمات صعوبة"، بما تملكه من "أسلحة لا مثيل لها". كما أكد "مواصلة تطوير الأنظمة الواعدة للأسلحة"، التي وصفها بأنها "أسلحة المستقبل التي ستزيد من القدرات القتالية لقواتنا المسلحة  أضعافاً عدة". وذلك في توقيت مواكب لما قاله نظيره الأميركي جو بايدن، حول أن بلاده ستعزز وجودها العسكري في شرق أوروبا، مشدداً في الوقت ذاته على أن بلاده "لا تنوي خوض حرب مع روسيا".

القاطرة الروسية

المفارقة أن الجانب الأوكراني بزعامة زيلينسكي، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة هائلة من الأصوات تقترب من 75 في المئة لم يفهم مغزى كل الرسائل السابقة، ومضى في تحدّيه لروسيا وبوتين إلى حد ليس فقط الإصرار على طلب عضوية "ناتو"، وإعلان أنه لا بد من أن يستعيد الجمهوريتين الانفصاليتين وشبه جزيرة القرم بالقوة، بل وأيضاً استعادة الوضعية النووية لبلاده.

القاطرة الروسية لا تتوقف، ومسيرة التحدي في سبيلها إلى استثارة مزيد من ردود الأفعال، التي ربما لا تقف عند حدود تشديد العقوبات، في الوقت الذي يواصل الرئيس بوتين ما سبق وأعلنه حول ضرورة "لملمة" ما يستطيع من "التراث والإرث السوفياتي" على أسس جديدة، تعيد إلى الأذهان بعضاً من مشاهد الماضي، وتجارب سلفه السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف بشأن "المعاهدة الاتحادية الجديدة" التي لم ترَ النور في حينها لأسباب تعود إلى الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين ونظيره في أوكرانيا وبيلاروسيا (قبل تغيير اسمها بعد الانهيار إلى بيلاروس).

وفي هذا الإطار، يمكن التوقف عند اللقاء الذي جرى في الكرملين في اليوم التالي لإعلان بوتين عن الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. وكان بوتين التقى نظيره الأذربيجاني إلهام علييف في الكرملين، حيث توصلا إلى توقيع ما يُسمّى بإعلان "التعاون التحالفي" الذي ينص على تعميق العلاقات العسكرية بين البلدين، بما في ذلك تنفيذ فعاليات مشتركة للتدريب العملياتي والقتالي، إضافة إلى تطوير اتجاهات أخرى للتعاون العسكري الثنائي"، بحسب المصادر الرسمية الروسية.

وكان بوتين سبق والتقى في الكرملين أيضاً في وقت سابق من فبراير الحالي قاسم توكايف، رئيس كازاخستان في أول زيارة يقوم بها إلى الخارج منذ الأحداث العاصفة التي كادت تطيح حكمه في مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، واستند في مواجهتها إلى قوات حفظ السلام لبلدان معاهدة الأمن الجماعي، التي تلعب فيها روسيا الدور الرئيس.

وقالت المصادر الروسية إن الرئيس بوتين أكد خلال مباحثاته مع توكايف أهمية مسائل الأمن في العلاقات مع كازاخستان، على ضوء ما تشهده أفغانستان. وعلى الجانب الآخر، أكد توكايف أن بلاده وروسيا "تُعدّان دولتين متحالفتين تتطور العلاقات بينهما بنجاح"، ما يشير إلى العودة صوب توطيد ما سبق وشهدته بلدان الفضاء السوفياتي من تعاون، فثمة من يقول إنها قد تكون خطوة على طريق التقارب، بما يحقق العودة إلى استعادة "علاقات التحالف" بين بلدان الفضاء السوفياتي السابق لكن على أسس مغايرة، تحفظ لكل منها سيداتها واستقلاليتها، كما سبق وقال رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو، الذي كان أول من قام بزيارة موسكو هذا العام، من رؤساء بلدان منظومات التكامل والتعاون التي تحاول روسيا أن تكون تكئة للتعاون مع رفاق الأمس، وهو ما يثير حفيظة الخصوم من المعسكر الغربي، ومنهم من يقول إن "بوتين في طريقه إلى محاولات استعادة الاتحاد السوفياتي السابق"، وذلك قول يحمل في طياته مختلف الدلالات، ويفسح المجال أمام مختلف التأويلات.

المزيد من تقارير